جميل الدويهي: أفلاطون في “بلاد القصْرَين”

 

 

من الكتاب الفكريّ الخامس “بلاد القصرين” – يصدر قريباً

 

 

بينما كنت أزور أثينا، في عصر غابر، سألت عن عظيم من فلاسفتها، يدعى أفلاطون، فدلّني بعض التلاميذ عليه.

كان شيخاً جليلاً، يرتدي ثياباً أنيقة، تدلّ على الغنى.  وحوله بعض من أتباعه ينصتون إلى تعاليمه، ويهتدون بها. وما إن رآني، حتّى توقّف عن الكلام، ونظر إليّ بعينين ثاقبتين، متعجّبتين. وقال: أنت من غير عصرنا، وقيافتك تدلّ على أنّك آت من فينيقيا… فهل لك غرض عندنا؟

قلت: صحيح يا معلّم، فلست من عصركم هذا، وقد جئت من الشرق، لأنّني سمعت ببعض التعاليم الضالّة التي تُعلّمها.

تفاجأ من صراحتي، وانفعل صحبه أيضاً، فهدّأهم بإشارة منه، وقال: لا بأس أن يتجادل العلماء، وأن يهتدوا بآراء الغير… فما الذي يزعجك في تعاليمي؟

أجبت: رحِم الله معلّمك سقراط، فهو معلّمي أيضاً، وملهمي في طريق الحقّ، والمجاهرة بما أؤمن به… ولم يترك سقراط أثراً مكتوباً، لكي نعرف إذا كنتَ تشبهه في أفكاره… لكنّ ما وصلَنا منك، فيه كثير من الاضطراب والشكّ.

نظر أفلاطون إلى صحبه، ثمّ إليّ، وكانت على وجهه علامات استغراب ودهشة، فلعلّها المرّة الأولى التي ينتقده فيها أحد بهذا الصدق. وقال بنبرة جافّة: أين هي معالم الشكّ في آرائي؟

قلت: اعذرني يا سيّدي الفيلسوف… فقد علّمتَ أرسطو أنّ الفنّان يحاكي العالم الحسّيّ. وهكذا أسأت إلى الفكر عند المبدعين، وطلبت منهم أن يكونوا بلا تفكير، وأن يقلّدوا ما يرونه أمامهم، فلا يبتكروا أو يكتشفوا جديداً. وها هي المدارس الأدبيّة والفنّيّة الحديثة تناقض تماماً ما ذهبتَ إليه، وتثبت أنّ الفنّ هو نتاج الحرّيّة وليس التقييد…

وتحدّثتَ أيضاً عن المعرفة الكلّيّة الشاملة، فيا لقصر النظر عندك! ويا لغرورك واعتقادك أنّ البشر قادرون على الوصول إلى الحقيقة الأسمى! وما يعرفونه في ملايين السنين لا يعادل ذرّة واحدة من تلك المعرفة الكاملة. وفوق ذلك رأيتك تناقض نفسك في نظريّة الكهف التي وضعتَها.

سألني والوجوم على محيّاه: كيف؟

جاوبته: إنّ الطفل الذي يولد في الكهف، ويكبر فيه، ولا يرى إلاّ صورته على الجدار، يظنّ أنّ الصورة هي الأصل…  وهذا دليل قاطع على أنّ المرء قليل المعرفة، ويحتاج إلى بلايين السنين لكي يحصل على جزء يسير منها. إنّ الغباء هو ما يميّزنا، والتعجرف هو ما يطبعنا، فنظنّ أنّنا عباقرة، ونحن أقلّ من حبّة رمل في الوجود الواسع. وكوكبنا كلّه هو لا شيء في المساحة والحجم والقيمة إذا قارّنّاه باللانهائيّ من الكون…

 

وكم هي غريبة دعوتك إلى تحرّر الجسم من المادّة ليعيش روحاً خالدة! لقد مهّدتَ الطريق للصوفيّين الذين يبتعدون عن المدنيّة، ويعيشون في القفار والبراري، ويتخيّلون أنّ هروبهم يطهّرهم من الخطيئة والشرّ، بل ذهب البعض منهم إلى القول إنّ الإنسان يستطيع أن يصير إلهاً، أو يتّحد مع الإله إذا تخلّص من الخطيئة…

هذا وهم يا سيّدي… وهم مطلق… فالمدينة الفاضلة مكان مثاليّ يسكنه أناس غير مثاليّين، وإنّ صديقنا جبران، يعتقد أنّ النفس البشريّة تصبح طاهرة إذا تقمّصت عدّة مرّات… والحقيقة أنّ البشر يظلّون خاطئين، ولو تقمّصوا ملايين المرّات، فالله وحده بدون خطيئة، والبشر كلّهم خاطئون… هذا ما أعلّمه في” بلاد القصرين”، مدينتي التي تقوم على الروح والمادّة، الدِّين والعِلم، النقاء والخطيئة… أجمع فيها المتناقضات، لأنّ كلّ بشريّ فينا هو مختبَر للتناقض، ففينا الخير والشرّ، الحلم والغضب، والنور والظلام…

كانت مدينتي غريبة على أفلاطون ورفاقه، فهزّ الفيلسوف برأسه، وفكّر قليلاً، ثمّ قال: هل من شعراء في مدينتك؟

ضحكت بملء قلبي، وفهمت منه أنّه يريد أن يعرف مدى الاختلاف بين جمهوريّته ومدينتي، فهو  يرتّب الشعر في الكتاب السابع من “الجمهوريّة” في المرتبة الرابعة بعد الرأي والفكر والرياضيات، لاعتباره أنّ الشعر وهم، وتمثيل التمثيل، ومصدره اندفاعات العواطف والانفعالات غير المسيطَر عليها من قِبَل القوة العقليّة… فقلت له: إنّ العقل وحده لا يمكن أن يكون سبيلاً للهداية، فهو يحتاج إلى العاطفة والقلب. وقد أفلح الشعراء في أنّهم وظّفوا عقولهم وقلوبهم معاً ليخدموا الحضارة والجمال. فكيف ترفض شيئاً جميلاً وأنت المبشّر بقيم الحقّ والخير والجمال؟! نعم يا سيّدي، لقد أخرجتَ الشعراء من مدينتك، وأنت تصفهم في محاورة “أيون” بأنّهم يتلقّون الإلهام من ربّة الشعر والآلهة، وأنّهم وسطاء بين الآلهة والبشر. وهكذا فأنت تناقض نفسك مرّة أخرى… وتثبُت على رأيك المضطرب، قائلاً: “يجب علينا أن نبقى ثابتين في حكمنا بأنّ الترانيم إلى الآلهة والمديح للرجال الشهيرين الفاضلين هي الشعر الوحيد الذي يجب أن نقبله في دولتنا”… فأيّ مذهب هو مذهبك؟ وأيّ تمييز مَقيت ومفجعٍ هو تمييزك؟

نعم. فتحت مدينتي للأدباء والمفكرين والمغنين والرسامين، وأخرجت منها كل ساقط في كلامه، ومدع ومتخايل…

اهتزّ أفلاطون في مكانه، وكأنّي بعد أصيب في الصميم، فانحنيتُ أمامه بتواضع، وخرجت من مجلسه بخطى مسرعة كمَن يطلب النجاة… لكنّه أشار إليّ بالوقوف، فالتفتُّ إليه، وسمعته يسأل: هل أعرف منك أين هي “بلاد القصرين”، فإنّني أحبّ أن أزورها ذات يوم؟

أجبته: عندما تذهب إلى فينيقيا، يمكنك أن تهتدي بسهولة  إلى “بلاد القصرين”… وسنستقبلك بفرح عظيم، ونعدّ لك احتفالاً كبيراً، ولكنْ تذكّرْ أنّ عليك أن تترك خارجاً تعاليمك الضالّة التي لا مكان لها في مدينتنا.

***

(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني

اترك رد