د. رياض عثمان في روايته “خمسة صبيان وصبي”…  واقعيّة تضيء على معالم حضارية وتقاليد الضنية

 

 

 

د. جميل الدويهي

 

نترافق مع الروائي د. رياض عثمان في قصّة واقعيّة، مسرحها منطقة الضنيّة، والضنيّة المدينة في شمال لبنان، حيث مجتمع ريفيّ كثير التقاليد والعادات الموروثة. القصّة تُقرأ من عنوانها “خمسة صبيان وصبيّ”. ويدل العنوان نفسه على ميل عند المجتمع المحلّي نحو الإنجاب، والإكثار من الأولاد، رغم أحوال المعيشة الصعبة في الريف، وقلة المداخيل من الزراعة، وهي العمود الفقري للحركة الاقتصادية في تلك المناطق. “الأبناء أعمدة البيوت” (رياض عثمان، خمسة صبيان وصبي، ص 15)… ثلاث كلمات كافية للتعبير عن الرغبة في الإنجاب، وقد دعت الديانات إليه. ففي حديث شريف: “تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”. وفي سفر التكوين: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ”… وينجح الدكتور عثمان في الإضاءة على مختلف الجوانب في حياة الصبي، فيقدم تفاصيل “من البابوج إلى الطربوش”، وكأننا في رحلة مع الصبي ذاته، نراه، ونتحدث إليه، ونعاين ما فعله في حياته، ومع ذلك العديد من الأمور الصغيرة، التي لو حدّقنا النظر فيها، لعرفنا أهميتها، وخصوصاً في تحديد ملامح المعيشة في ذلك الجزء العزيز من شمال لبنان.

تبدأ القصة بنعيق البومة، وتقول المرأة: “نجنا يا الله”(رياض عثمان، م. ن، ص 14). فالبومة رمز للشؤم وسوء المصير في القرى اللبنانية. “ما تنقّ مثل البومة، عبارة شهيرة كثيراً ما نسمعها تدل على التشاؤم ومقرونة بكلمة “بومة”. هذا الطائر الذي يحلّق ليلًا بصمت، يشكّل مسألة تناقضية لجهة رمزيته لدى مختلف الثقافات والشعوب… عند العرب، كان طائر البوم في الموروث الشعبي نذير شؤم وخوف قبل ظهور الإسلام، بدا ذلك جليّاً حتى في الأدب والشعر. (يارا العريضي، البومة ورمزيتها بين الشعوب… فأل خير أم شؤم؟، 4-3-2020، جريدة النهار اللبنانية) واستخدام رمز البومة لم يأت من فراغ، فقد انعكس حضورها على كثير من التطورات الدرامية في القصة، فيما بعد.

ونبقى مع الصبيّ المولود في بداية رحلته في الحياة، إذ يواجه الفقر في الضيعة الجبلية، ويكون طعامه حليب الأم، في غياب الحليب المجفف آنذاك (حوالي العام 1960)،فلا حليب النيدو ولا السيريلاك، ولا الحليب المعلّب في القناني (رياض عثمان، خمسة صبيان وصبي، ص 44). وعندما يمتنع صدر الأم عن إدرار الحليب تتبرع بعض نساء الحي في الرضاعة، وهذا ليس بغريب كما يقول الكاتب “لأنّ الحياة أخذ ورد، والدنيا دور، وحياة الضيعة عونه” (رياض عثمان، م. ن، ص 46)، والرضاعة من غير الأم تجوز في الشرع الإسلامي: “وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة” (سورة النساء – 23). ولا يمنع الرضاع من غير الأم في المجتمع المسيحي أيضاً، فكثيراً ما نسمع في القرى عن الإرضاع بغير حليب الأم لطفل حُرم من الرضاعة. وقد تكون رضاعة الطفل من أكثر من امرأة واحدة، كما يخبرنا الدكتور عثمان: “بعد أن كانت تجول على نسوة الضيعة الخمس اللواتي وضعن في فترة متقاربة وولدن صبياناً، شاعت الصدفة أن الموسم كان موسم صبيان. كل يوم بالتداول والمداورة ترضعه كل واحدة مرة في اليوم” (رياض عثمان، م. ن، ص 56)، وهذه الظاهرة يسميها الروائي العونة على الإرضاع (رياض عثمان، م. ن، ص 58). والعونة هي ظاهرة شائعة في القرى، يتعاون فيها المجتمع على مساعدة أحدهم، خصوصاً في الحصاد أو بناء منزل. هو التكافل الاجتماعي الذي يبدو أيضاً حين يلتمّ الناس حول مصاب أو مبتلى، فيندفع الكبير والصغير بدافع الواجب والنجدة (رياض عثمان، م. ن، ص 123). ويعرّف أنيس فريحة العونة بأنها “المساعدة الجماعية التي يسديها الجيران للجار في الأعمال التي تحتاج إلى أيد كثيرة… في مثل هذه العونات تتجلى روح القرية التعاونية التي تفرضها عليهم الحياة الجبلية الزراعية (أنيس فريحة، القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال ، ص 14-15). وقد يُطعَم الطفل بدائل عن الحليب أحياناً، مثل قطعة من راحة الحلقوم… بعد أن تلفه المرأة بشاشة بيضاء، ليمصّها ذاك الصبي فيقتات السكر المطبوخ بالنشاء المنكّه. ( رياض عثمان، م. س، ص59). وكذلك يأكل الطفل عندما يكبر قليلاً الكرميل، والمعلّل، ودبكة الغندور، والبسكويت (رياض عثمان، م. ن.ص 65).

وعندما يكبر الولد أيضاً يصبح عرضة للضرب والـتأديب الجسدي من قبل الوالد. وهذه من الظواهر السلبية في المجتمع الشرقي، وفي القرى اللبنانية البعيدة: “أمسك بشعر الصبي لجهة ناصيته. وضع يده على رأسه، وأمسك بشعره، وانتزع شملة شرواله التقليدي فربطه بها، سحبه، كما يُساق تائه، من بيت حاويك إلى طاران ينهال ضرباً، وصراخاً وعذاباً مهيناً أشد إيلاماً من الضرب. حتى غصن تلك الشجرة لم يسلم من قبضة يده، إذ كسر قضيباً طرياً يعينه على تنفيس غضبه. استقبله البيت بقسوة الغريب تأنيب المذنب، ابن السبعة يقترف ذنباً لا يغتفر، مصيره ذاك الأب، وام انتظرته بشوق لتنهال – هي الأخرى- عليه ضرباً. هي انتظرته لتقتص منه دون شفقة” (رياض عثمان، م. ن، ص84-85).

إنه ولد في السابعة من عمره.ولقد شب عن الطوق، فلم يعد يتناول الحليب، وراحة الحلقوم والبسكويت، بل استعاض عنها بالضرب والإهانة، وهي حال كثير من الأولاد في مجتمع يعتبر أن الضرب وسيلة للتربية.

 

د. رياض عثمان

 

تسجيل الولد في النفوس وفي المدرسة

تشيع في القرى اللبنانية أخطاء في تسجيل المولودين في دائرة النفوس التابعة للدولة، وقد يسجَّل الولد في سن متأخّرة، فيحدث خطأ في ذكر تاريخ الولادة، أو يُفرض على الأهل تكبير المولود، أي زيادة أشهر أو سنوات على عمره الحقيقي. وهذا ما حدث بالضبط في رواية “خمسة صبيان وصبي”، حيث أنّ مصطفى غير مسجل في النفوس وليس لديه تذكرة هوية، ويستلزم ذلك رفع شكوى ضد الأب من قبل الولد نفسه، لتبرير حصول الخطأ الفظيع. ويشرح الدكتور عثمان هذه المسألة القانوية، فيعتبر أن الدعوى غير جنائية، بل مجرد شكوى ورتينية عادية، تؤهّل المحامين للالتفاف على الأنظمة وإيجاد مخرج لإشكالية عدم تسجيل الولد الذي لم يُسمح له بالدخول إلى مدرسة القرية بسبب عدم حيازته على هوية. ويتبين أن زواج أبي مصطفى من أم مصطفى “برّاني” أي عند الشيخ فقط، ويكون الحل باقتراح المحامي أن يُكبَّر عمر الصبيّ ست سنوات لتحل المشكلة. (رياض عثمان، م. ن، ص 97-100)

ويوضح الدكتور عثمان بطريقة كوميدية لافتة، أن عمر مصطفى هو أكبر من أخيه البكر بسنة، وأكبر من أخيه الذي ولد قبله بخمس سنوات، يعني أنّ تاريخ ولادة الصبي قبل زواج والده بسنة واحدة (رياض عثمان، م. ن، ص 100).

قمة سخرية القدر Irony، يرسمها الأديب عثمان بفرادة، فنحتار بين الأسى والضحك، ونقف أمام مشهد تراجيكوميدي، يمزج بين الجدّية والسخرية… أليس شر البلية ما يضحك؟

هذه الناحية التي يطرحها الدكتور عثمان تدخل في صميم الواقع الاجتماعي للقرى اللبنانية النائية، حيث يبتعد الناس عن مركز القرار في العاصمة والمدن الكبرى، ويفوتهم كثير من الممارسات الواجبة عليهم، فكأنهم في واد والسلطة في واد آخر.

واللافت أنّ المدرسة في القرية افتتحت عام 1960، أي بعد الاستقلال بحوالي 17 سنة، وهذا يدل على مدى الإهمال الذي يعاني منه قطاع التربية والتعليم في القرى البعيدة. وتمثّل المدرسة التخلص من الإقطاع، ولعلّ الإقطاع نفسه لم يكن راغباً في افتتاحها، لأن الجهل وسيلة للهيمنة على النفوس وعلى قرارات الناس.

وتتفاوت أعمار التلاميذ في المدرسة: “تجد في الصف الواحد ابن الخمس سنوات وابن الخمس عشرة. وقد تجد معظم أبناء العائلة الواحدة الخمسة في الصف الواحد والمستوى الواحد، وقد يكونون في مراحل مختلفة في الغرفة نفسها، قلة الأساتذة، قلة الغرف، وبعض مراعاة اجتماعية”. (رياض عثمان، م. ن، ص 102-103)

يبدو مما سبق من كلام الدكتور عثمان أن المدرسة في عام 1960 كانت منظمة بقانون الفوضى، فكيف يمكن حشر تلاميذ في أعمار مختلفة ومتفاوتة في غرفة واحدة؟ وكيف يدرس المتفوق مع قليل الدراية؟ وكيف يكون الإخوة جميعاً وقد ولدوا في سنوات متتالية في صف واحد؟

وقد يقضي الولد سنوات بدون تعليم: “ذهب الصبي إلى تلك المدرسة ليتسجل فيها، فلم يقبلوا طلبه والأسباب مجهولة. فلا مهرب من الانتظار سنة كاملة” (رياض عثمان، م. ن، ص 106)، ويكون السبب في عدم قبوله أنه تأسس في اللغة الانكليزية والمدرسة ذات نظام فرنسي… وعندما مرضت والدة مصطفى وتغيّب عن الدرسة لمدة، قامت الإداراة بطرده، فاضطر أن يتوجه إلى طرابلس ليعمل هناك.

هذه التداعيات كلها، ليس لمصطفى يد فيها، إذا تسوقه الأقدار في اتجاهات مختلفة، وهو ينفّذ ما تفرضه الحياة عليه، لكن بهمّة عالية، وقوّة في روحه، وإصرار على البقاء في ظروف صعبة، مثل طبيعة الأرض.

ويمثل مصطفى نموذجاً للشباب الذي تضيق به السبل في قريته، فيختار النزول إلى طرابلس، وهي أقرب إلى الضنية من بيروت، لكي يعمل عتّالاً هناك. والهجرة من الريف إلى المدينة مشكلة كبرى في لبنان. والهجرة الداخلية من الريف الى المدن وخصوصاً بيروت بدأت في أواخر الربع الأول من القرن العشرين مع إنشاء دولة لبنان الكبير بحدودها الحالية و”عاصمتها الإقتصادية بيروت”، وبداية تراجع المهن التقليدية ذات الطابع الزراعي لمصلحة المهن ذات الطابع الصناعي والخدماتي والتي تمركزت بالمدن، كون البنى التحتية فيها قابلة لاستيعاب نسبياً تضخم هذا القطاع (الصناعي والخدماتي)، في حين إزداد النزوح من الأرياف الى المدن بشكل تصاعدي ومتسارع من حينها الى الأمس القريب، بسبب تركيز الدولة لخدماتها في المدن هاملةً المناطق الريفية البعيدة وتركيز القطاع الخاص لمشاريعه في المدن بهدف الربح السريع نتيجة التوفير في كلفة النقل… فوصلت نسبة سكان المدن بشكل دائم أو شبه دائم في لبنان الى 87% من مجموع السكان في العام 2008″ .(جو حمورة، الهجرة اللبنانية المعاكسة، موقع نقد بنّاء، 14-11-2012)

 

الزواج

يقدّم الدكتور عثمان تقريراً مفصلاً عن طرق الزواج، وطبيعته، وطقوسه في القرية، وهي لا تختلف كثيراً عما نراه في العديد من مناطق الريف. بدءاً من تزويج الأبناء باكراً: “من بعض طباع الريفيين تزويج أبنائهم باكراً، ساعة يشعرون ببلوغهم سن الرشد أو القدرة على ذلك والاستطاعة” (رياض عثمان، م. س، ص120-121). وعادة تزوّج الفتاة بابن عمها أو ابن خالها: “البنت من نصيب ابن العم ولو كان أكتع” (رياض عثمان، م. ن، ص 19). والزواج من الأقرباء هو عادة شائعة في القرى والمدن اللبنانية على حد سواء، كما أنها لافتة لدى الكثير من المغتربين اللبنانيين في أصقاع الأرض، ويعمد بعضهم إلى الزواج من قريبة له في لبنان، ويلتئم الشمل في البلاد الثانية.

وأغلب زيجات الفتيات في القرى تتم بدون سؤال العروس عن رأيها (رياض عثمان، م. ن، ص 18). فكأنّ الأمر لا يخصها، بل يخص فقط أهلها. وكذلك بالنسبة للصبي مصطفى، فقد أراد الوالد أن يفرض عليه الزواج من بنت اختارها له، غير أنّ الولد رفض ذلك، وتشبث برأيه، وحصل خلاف عائلي جراء ذلك (رياض عثمان، م. ن، ص 145-146)… فلا كلام يعلو كلام الأهل، وكلمة الأبناء رهن الآباء، فهم الذي يرون مصلحة ولدهم، وهم الذين يختارون له الزوجة الصالحة(رياض عثمان، م. ن، ص 122). ولا يحقّ بأي حال من الأحوال زواج الولد من ابنة إحدى مرضعاته: “غير أن الشرع والدين يحرمه من الزواج بواحدة من أخواته بالرضاعة” (رياض عثمان، م. ن، ص 126)، وهذا ينسجم مع الشرع: “حرمتْ علَيكُم أمّهاتكم وبناتكم وَأَخَوَاتكم وعمّاتكم وخالاتكم وَبَنَات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللَّاتِي أَرضَعْنَكُم وأخواتكم من الرضاعة”…إلى آخر الآية 23 من سوره النساء. فالأديب عثمان يذكر هذه الناحية من باب الإشارة إلى النظام الديني الذي يحكم ممارسات الناس في القرية.

وكما في كثير من المجتمعات الريفية، لا تظهر العروس أمام عريسها، فهو لا يراها أو تراه إلاّ خلسة أو من وراء حجاب، ولا تصطحبه في جلسة أو مشوار، حتى وإن عُقد قرانهما بوجود الشهود والأهل والأحباب وإذا رآها خطيبها اتهمت بأنها بلا حياء (رياض عثمان، م. ن، ص 20)

ونمضي مع العريس والعروس في الأيام القليلة التي تسبق العرس، وقد تأنّى الروائيّ عثمان في الإضاءة عليها، كالمهر، وتبضّع العروس، والتحضير للعرس، وانتقال العروس إلى المنزل. فبالنسبة إلى المهر، وتحت عنوان “مهر بعرق الجبين”، يتحدث عن “فصل النقد” أو ليلة “الحكي” حيث يتفق الحاضرون على مهر ألفين وخمسمئة ليرة، ويعترض البعض لأنّ المهر غال، فقد دفع بعضهم خمس ليرات كمهر لزواجه. وفي النهاية يتم الاتفاق على المبلغ الكبير، فتُتلى الفاتحة وتعلو الزغاريد. ويكون على العريس أن يوفر مبلغ ألف ليرة كمقدم، وتبرعت أم العريس وأم خالد مربية العريس.” (رياض عثمان، م. ن، ص 166-169).

ولا يختلف ما يحدث هنا عن التحضيرات للعرس في أي قرية أخرى، تتبع التقاليد والأعراف الإسلامية.

أما تبضّع العروس، فيكون من طرابلس القريبة، “وتجهيز العروس بسيط يحمل بعض رموز وسترات وصندوق خشبي كبير مزخرف، وطست وطنجرة وبعض أشياء” (رياض عثمان، م. ن، ص 121)… ويظهر أن كل أدوات التجميل من ألبسة وحرائر، وعطور وأصباغ، لا وجود لها في معجم تجهيز العروس، فالبساطة مطلوبة، على قدر أهل العزم، والرضى بالقليل من شيم الفتاة القروية… حيث أنّها ليست متطلّبة، خصوصاً إذا كانت أوضاع زوجها المادية غير ميسورة.

ولعل من الجديد علينا ما ذكره الروائي من اختبار العروس أو استجوابها من قبل إحدى النساء، لمعرفة مهاراتها في العمل والطبخ والعجن والخَبز. فهذ المهارات هي مواصفات مطلوبة من المرأة التي يفترض بها أن تكون مكافحة، لا قاعدة وكسولة. ويبدأ الاستجواب حول اقتناء البقرة وتأمين الحشيش لها، والخَبز على التنّور والصاج، بما في ذلك من تحضير العجين والرقّ وهلّ الرغيف. وبالفعل تقوم العروس بعملية الخَبز من أولها إلى آخرها، وتنجح في الامتحان. (رياض عثمان، م. ن، ص 135-136)

وعندما يتم العرس، ينقل العريس عروسه إلى بيته على ظهر فرس للمحظية، طبعاً فلا سيارة مكشوفة ولا من يحزنون (رياض عثمان، م. ن، ص 19). ونقل العروس على الحصان هو عادة مألوفة في المجتمعات القديمة، فالحصان أعلى رتبة من الحمار، وكانت القرى في الستينات تكاد تخلو من السيارات الفخمة، اللهم إلاّ سيارات قليلة تظهر على الطرق الضيقة والمتعرجة بين الفينة والأخرى.

وفي العرس، يقوم الحاضرون بتقديم الهدايا “النقوط” إلى العريسين، وفي هذا يقول أنيس فريحة : “ومن عاداتهم المستحبة تنقيط العريس، وذلك لعونه على تحمل نفقات العرس” (أنيس فريحة، م. س،ص167).والنقوط في أعراس الضنية، كما يروي أديبنا، تسجَّل في دفتر الهدايا، لأن الحياة أخذ وعطاء، ففي المستقبل يقوم العروسان برد الهدية، ومحو الاسم من الدفتر (رياض عثمان، م. س. ص 196-197)، وسجل الهدايا عادة من عادات الضيعة (رياض عثمان، م. ن، ص 174)

والعرس في الضيعة يختلف بين بيت وآخر، بحسب الثروة والحالة الاجتماعية. وهذه الناحية يتناولها د. عثمان بتفاصيلها، فكأنه مؤرخ وباحث اجتماعي إلى جانب روائيّته الخلاقة، فبين الرواية والواقع التحام قوي، وقلما نجد في الرواية كلها أي رموز أو أبعاد شعرية غائمة، فهو التزم بمذهب الواقعية، لاعتقاده أنه المذهب الوحيد الذي يستطيع محاكاة الواقع الاجتماعي. وفي هذا المعنى يقول الناقد الانكليزي أيان وات: “لا أستطيع القبول بالتأكيد القائل أنْ ليس هناك علاقة بين العمل والعالم، أو بين العمل والكلمات التي نستعملها لوصفه (تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ص111). يقول أديبنا إن الأغنياء يذبحون الخواريف أو العجول أو السواعير في أعراسهم، وتُطبخ الهريسة، ويعلو الغناء والزغاريد، أما الفقراء، فأعراسهم ترتبط بالانتاج الزراعي، فإذا كان هذا الانتاج كبيراً كان العرس غنياً، والعكس صحيح. وعادة يتجنب الفقراء تزويج أولادهم في الربيع حيث تقل المؤونة وينفد المال (رياض عثمان، م. س، ص 193-194)

ولعل أكثر النصوص في القصة كوميدية، ومن غير تراجيديا هذه المرّة، فهو النص الذي يعرض فيه الأديب الماهر ليلة “ردّ الرجل”، أو ليلة السرقة. ويشرح د. عثمان معنى هذا الاصطلاح: “العروسان يردان الرجل (رجل البنت إلى البيت الذي ربيت فيه واعتادته فذهبت إلى غيره) وفي محكية أبناء المنطقة (رد الإجر) الذي هو كناية عن عودة ورجوع البنت إلى دار ذويها بعد غياب قسري سيدوم سبعة أيام (رياض عثمان، م. ن، ص 176)

في هذه الليلة يحاول أهل العروس تجنّب أن يقوم أحد بسرقة شيء من المنزل، فيكونون حريصين على إخفاء ما هو غال، وقد تسرق البنت من منزل أهلها قطرميز زيتون، أو تنكة زيت، أو جرة غاز، أو مزهرية أو نبتة حبق أو شتلة مردكوش… (رياض عثمان، م. ن، ص 177)

وحدث في ليلة رد الإجر أن كان هناك اثنا عشر شخصاً، وطلب والد العروس تقديم القهوة بسرعة، لكي يختصر الوقت ويستعجل مغادرة المدعوين فلا تقع السرقة، لكن هؤلاء سرقوا 12 فنجاناً للقهوة، فوضعت العروس الفناجين في نمليتها كتكملة لجهاز العرس (رياض عثمان، م. ن، ص 178-179)

بيت العروسين

المجتمع زراعي غالباً في الضنية والقرى المحيطة بها. ويرسم الأديب صورة عن الضيعة وأشجارها وحقولها، وطبيعة العمل فيها. فيقدم مادة توثيقية لما كانت عليه الحال في الأربعين سنة الماضية، ففي الصيف تكون الحركة ناشطة في البساتين والحقول وفي الخريف تجمد: “الضيعة تجمد شتاء… والسكن فيها غير مجد… والريفي وقتها في فراغ شبه تام إلا من تقطيع الحطب بعد احتطابه صيفاً أو خريفاً، ومن اهتمام بالوجاق لتعديل النار ومراقبة إبريق الشاي وسكبه مع الجوز وبعض مؤونة مجففة بخبرة عالية وتفنن في السكب “(رياض عثمان، م. ن، ص 197).العمل إذن في الضنية ثلاثة أشهر فقط، وساعة يفرغ الناس من جني محصولهم، يتوجون أيامهم بالأفراح والغناء، وتبادل المواويل والعتابا والقرادي والمعنى (رياض عثمان، م. ن، ص 192)…وتكثر في القصة أسماء الانتاج الزراعي في الضنية، كالسفرجل، والتفاح، والرمان والزيتون، والجوز… فقد تحولت الضنية من مزارع إنتاج القمح والحبوب والتوت الأبيض والحرير بسواعد أبنائها، إلى غابات مثمرة من الدراق والمشمش والإجاص والتفاح وبعض نتاج العسل وتربية النحل… وتحولت معظم حقول الضنية إلى بساتين خضراء بفضل ينابيعها وطيبة تربتها (رياض عثمان، م. ن، ص 219). وليس غريباً في بيئة زراعية كهذه، لا تدر المال الوفير، أن يغادر الكثيرون مكان ولادتهم في الريف ويتوجهوا إلى المدينة، ومَن أراد البقاء فعليه أن يبني بيتاً، ولو متواضعاً يضمّه وأسرته، وهكذا فعل مصطفى: بيت صغير ليس أكثر من غرفتين وحّمام… تفصيلة على ذوق بو محرز معمار البلدة ومهندسها… لا ينتظر رخصة من تنظيم مدني ولا حظراً من مخفر درك… ويبني بو محرز البيت من مقلع حجارة، أما السقف فمن خشب فوقه طين، وهذا هو البيت الثاني في الضيعة الذي يكون سقفه من طين بعد بيت الآغا. (رياض عثمان، م. ن، ص 200-201)

وبعض البيوت في القرية من الحجارة الدبش فلا تعرف الطين أو الاسمنت، وسقوفها كذلك، إنما خشبات غلاظ علّقت في السقف من شجرات قطعت أغصانها، وبقيت جذورها شاهداً صامداً في وجه الحر والبرد في ذلك الجرد. والحورة هذه هي الجسر المتين الذي يحمل السقف ويضبط جدرانه بقواعده، وفوق الحورة يضع الباني البرباص، أو بعض أغصان الأرز والشوح والبِرى، وأغصان شجر اللزاب، تحت التراب المرصوص بمدحلة من الصخر(رياض عثمان، م. ن، ص 39-40)

قضايا اجتماعية أخرى

يبرز الكاتب العديد من القضايا الاجتماعية والصور المعبرة عن الحياة في الريف، مثل صورة المرأة الخاضعة لتقاليد المجتمع، والتي يتم فرض العريس عليها، وتحرم أحياناً من الميراث (رياض عثمان، م. ن، ص 72). كما توصف بالعانس… ويدرج الأديب حقلاً معجمياً غنياً لألفاظ يفهم منها الاستهانة بمكانة المرأة، مثل: انلكعت، مطلقة، أرملة، خاطبة وتاركه، وعانس (أي كبرت في السن ولم تتزوج)، فاقتصر دورها على خدمة العائلة والمجتمع والجلي والطبخ في الأعراس والمآتم، ولا مكانة اجتماعية لها إلا في وقت الحزّة (رياض عثمان، م. ن، ص 142-143)، وفوق ذلك فإن الصبي ابن خمس أو سبع وابن عشر سنوات في الريف قوّام على المرأة (رياض عثمان، م، ن، ص 118-119). ويصوّر أديبنا العين في الضنّية، وما أدراك ما العيون هناك وأعدادها بالمئات (360 عيناً أو نبع ماء) يسمي الأديب بعضها بالأسماء. والعين في الضيعة، نبع الزحلان تحديداً ملتقى بنات الحي ونسائه وملتقى الأحاديث وسانحة الود وتفقد أحوال الناس بعضهم بعضاً، وغرفة عمليات الكثير من الزيجات والمناسبات والتأليب (رياض عثمان، م. ن، ص 23). وهذه صورة للعين المعروفة في التقليد الشعبي حيث “تزدحم النساء والصبايا صباحاً وظهراً ومساء للاستقاء وللقال والقيل وللعتاب والعراك أحياناً” (أنيس فريحة، م. س، ص 69)

ويلفت الأديب إلى التزام الأولاد بالأسرة، وإلى شملة الشروال، وتنّورة الأم، ودور الآغا الاقطاعي، والمشكلات التي يعانيها أبناء الريف، والفرق بينهم وبين أبناء المدينة في مواجهة تلك المشكلات. كما يشير إلى ناحية مهمّة جداً، وهي كيف حافظت الضنيّة في الحرب المشؤومة عام 1975، على التضامن والمحبة والوئام، فاسمع تلك المرأة الضنّاوية وهي تقول: “مَن يريد أن يطلق رصاصة الفتنة، فليصوّبها إلى هنا (وأشارت إلى صدرها)… مَن يريد أن يجلب الدماء إلى الضنية فليطلق رصاصة حقده إلى صدري. الضنية لا تركع، الضنية لن تتأثر، وأبناء الضنية أخوة، أهل وجيران: من هذا الثدي رضع جورج وأحمد وحنا وحمدان وبطرس ومصطفى (رياض عثمان، م. س، ص 268-269)

ألا عاش قلمك أيها الأديب الضناوي اللبناني العربي الجميل، وعاشت الضنية الحبيبة، وكل بقعة سلط عليها هذا الكتاب الأنيق الضوء، وأبرز ما فيها من فضائل وقيم وتقاليد عريقة!

***

(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي 

(*) سيدني 19-12- 2020

(*) موقع أفكار اغترابية 

 

اترك رد