ميشال سعادة
في هذا اللقاء ” تَجَمُّع أصدقاء الحرف والفنون ” وتحت عنوان ” اللغة العربية وجمالياتها ” اخترت مقاربتي بعنوان ” لغتنا ، اصواتا ونظاما ” ، وذلك بدعوة كريمة من الصديقة الاستاذة اكرام زين الدين التي اكنّ لها كل تقدير واحترام.
أشير بدءًا الى أنني ، في هذه المقاربة لن يتسنّى لي أن أقول الكثير نظرًا لتشعّب الموضوع ودقّته . لذا اسارع الى القول إنني درَّستُ اللغة العربية وآدابها والعلوم اللسانية منذ ما يقارب الاربعة عقود ، ولا أخفي أنني كنت ولمّا أزلْ شغوفًا بها ، ولها عاشقًا لأسباب كثيرة ، منها أنها تتمتّع بجدليةٍ لافتة ومميّزاتٍ جماليةٍ وفيرةٍ ، شرط أن يتحلّى عاشقها بالقدرة على تطويعها .
هذا ، وفي جولةِ أفقٍ شئت أن ألقي نظرةً تاريخيةً سريعةً على نشأة اللغات بعامَّةٍ ، حيث تشير المعلومات التاريخية والأثَرِية الى أن البشر يتكلّمون اللغات منذ وجودهم على سطح الأرض ، وبصورة خاصة حيث اكتمل تطوّر الجنس البشري ، اي منذ أكثر من مئة الف سنة ، ويمكن التأكيد أن لغاتٍ نشأت في بلاد ما بين النهرين ، وفي القسم الغربي من الهضبة الأيرانية ، اي منذ بدأ تدوينها المسماري حوالي عام 3300
قبل الميلاد ، والذي تزامن مع التدوين الهيروغليفي في مصر القديمة . ويمكننا التوقف عند مجموعة من اللغات الشرقية كالسومرية والأكادية والغيلانية ، وبعض لغات الصّوامت كالعربية والعبرية ، وصولا ، الى اللغات الأغريقية التي اقتبست كثيرا
من الأبجدية الفينيقية ( وهي من ابجديات الصّوامت ) .
في هذه الجولة السريعة على اللغات المشرقية نرى إليها ارتبطت ارتباطا بالآلهة أحيانا ، على أن القاسمَ المشتركَ بين الآلهة والبشر هو هذا الفمُ الناطق الذي يتفوّه بالكلام ، ويُشيد بأفضال الآلهة ومآثرهم .
كما أن الجدير ذكره في التوراة ، هو ارتباط عملية الخلق بالنطق الالهي .
جاء في سفر التكوين _
” وقال الله ليكن نور ، فكان نور . ورأى الله ان النور حسن . وفصل الله بين النور والظلام وسمّى الله النور نهارا ، والظلام
سماه ليلا ” .
استراح الله في اليوم السابع .
وعند خَلْقِ الانسان على صورته ومثاله ، نَفَحَهُ نَفَسَهُ ولغتَهُ . هكذا اصبح البشر لاحقًا ، اسيادَ اللغة مع الفلاسفة والمسرحيين ، وراح الانسان يعمل على تطوير اسلوب حياته وتطوير لغته.
جاء في سفر التكوين صراحةً ما يلي :
” جعل الرب الاله من الارض جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء وأتى بها الى الانسان ليرى ماذا يسمّيها ، فكل ما سمّاه الانسان من نَفْسٍ حيّة فهو اسمه ” ( سفر التكوين 19:2 )
اذًا ، اعطى الله الانسان القدرة على التحكم باللغة التي هي احدى نتائج الخلق .
ما يعني ان الله اوحى للانسان أن يربط عناصر الكون ومخلوقاته باللغة .
هكذا ، زُوِّدَ الانسان بالنطق ، بالصوت وباللفظ. واللفظة في لغتنا وفي باقي اللغات
هي الكلام ، اللغة ، الكلمة والجملة .
اما عندما نكتب فاننا ننقل ، نجرُّ اللغة الى شكلها الجَوَّاني غير المُفصَحِ عنه ، ونقود الفكر القائم ، اثر شتات الذاكرة ، الى علاماتٍ كتابيةٍ ثابتة . هذا النقل يتم عبر محورين على الاقل : الثقافة واللسانية .
إنَّ الكتابة هذه ، تجعل اللغة مرئية واختراعها هو الصدى الوحيد للأنسنة الاولى .
اللغة جسر يوصلنا بالآخرين يوصلنا بالعالم ويوصل العالم بنا . انها الشبكة التي نكون فيها كسمكةٍ تسبح في الماء .
باِللغة يتم وعينا للأشياء ومن ثم لذاتنا . ما يعني انْ لا معرفة بدون لغة ولا علم ، ولا أدب ولا فلسفة…
وتاليا ، يستحيل على الفكر أن ينوجد عاريا بدون لسان . والفكر هذا
يتمظهر في الكلمة والا بات كل شيءٍ
مَحضَ خواءٍ ومحضَ انعدام .
هذا الانسان اذا ، كائنٌ لاغٍ ، واللغةُ غاية ، فاذا تعطلت هذه اللغة تعطل انسانية الانسان . لذا بات علينا ان ندرس اللغة من خلال جهات ثلاث:
_ الصوت ( phonétique )
_ الشكل ( morphologie)
_ التركيب ( syntaxe)
ما يعني ان اللغة كائنٌ حيٌّ يتطوّر مع لافظها او متكلّمها ، وان الكلمة تحديدا هي صوت الوجدان .
يقول مالارميه :
” car le mot qu’ on sache
est un être vivant ”
هذا الإنسان ، باللغةِ يعي انه انسانٌ ، وهو بحاجة ان يلفظ نَفْسَه, يسمع نفسَه ويقرأ نفسَه.
عفوكم,
كان لا بد من أشارةٍ الى هذه اللمحة التاريخية كي يتسنّى لي العبور الى ابجديتنا ودلالاتها ، على ان كلامي هنا ، يبدأ من صوت الحرف ، وخارج نطقهِ وترتيب مسمياته . وتأتي الدلالة من ضمن رؤية ومنهاج ، يستتبعان الحرف العربي ، ويكشفان ماضي مضامين الحرف عينِه من امكانيات ودلالات ذاتية كامنة فيه .
واللافت في الأمر ، أن الانسان حين بدأ يبحث عن المعنى ، سأل وتساءل واستُنفِر السمع والحواس الى حيث المجهول ، بوعي ما أبهم وأغلق . وقد رأى أن المعنى كان قبل أن يصبح سؤالا ، وعندما خرج أسَرَهُ اللفظُ ولم يعد سؤالا بل صار معنًى .
بات على الانسان هنا ، استخراجُ دلالةِ وهيئةِ صوت الحرف ، وبيان أن الصوت يُنتج حركة ، وقد يكون هو هذي الحَركة . وقد بات لِزاما عليه أن يأخذ بعين الاعتبار توضيح علاقة الصوت بمخارج الحروف من آلة النطق ، وان يشير الى بيان جدلية مسميات الحروف ، وكشف سر بناء اسمائها كي يصار الى تبيان الفرق بين اللغة والكلام وعلاقة النطق باللفظ ، آخذا بعين الاعتبار الإنتقال
من المبدأ الدلالي الى التداولي كي يفسر حركية الحرف ودورها في تشكيل الكلام .
هذه الآلة ترينا دلالة الكلمة من خلال معاني حروفها ، وترينا ايضا ، مدى مطابقة المعنى الحركي مع المعنى الوارد في المعاجم.
ان هذه الحروف في لغتنا تقود خطواتنا وتوجهنا وتفتح بصيرتنا لاستقراء اسرارها ، وانها تاخذنا الى بيتنا الذي ارتضيناه . لذا ، اخذت بعين الاعتبار ما قاله مارتن هيدغر عن اللغة ” هي في مجموعها بيت لوجود ومخبأ ميلاد الانسان ” ، باعتبار ان الوجود حضور يُقرأ باللغة , فان الفكر المتمثل باصغائه لصوت الوجود يبحث عن الكلام الذي منه تأتي الحقيقة الى اللغة (ايضا كما يقول هيدغر)
لذا نحن نحاول القبض على المعاني
في الحروف والكلمات بابراز المتناقضات.
خلاصة القول ، إن الابجدية العربية وفق معظم علماء اللغة تقوم على اساس صوتي وتنطلق من تعريف الشكل الكتابي ( اي الرسم الخطي ) المكون من اجتماع حروف تنطق اصواتا لها مدلولات وقد
اتخذت هيئات ترمز الى اشياء او حالات.
ومعروف ان ابجديتنا شملت كل الحروف الاصلية التي يمكن النطق بها وحافظت على الوضوح في مخارج الاصوات .
لذا ان دراسة صوت الحرف هي
المدخل الأساس لتقصّي دلالة المعنى
الحركي له , وابجديتنا شأنها شأن اللغات جميعها مرّت بثلاث أطوار:
الأول: الطّور الطبيعي المنطقي القائم على الحركات والأصوات
الثاني : الطّور الاجتماعي الذي فيه جعل كل قوم لتلك الحركات والاصوات معاني لم تكن لها في الطّور الأول
الثالث : هو الطّور الغنائي
اما فيما يعود الى النظام اللغوي
فاشير الى أن لكلِّ حرف من حروف أبجديتنا مُسمًّى يختصُّ به, ويُتَمَيَّزُ به دلالةً ومعنًى عن غيره.
ان نشأة الحروف هي بدلالة نشأة الكون ، وان ترتيب الأبجدية ليس بعشوائي بل وفق نسق ايجابي السلوك تتابعا ، وسلبيَّتِهِ اذا تعاكس . ان مَثَلَ الحروف كمَثَلِ العناصر الكيميائية والجينات الوراثية , ولأن الديمومة والاستمرار هما حركة متمثلة في الحرف العربي ، فله معنى يقوم على استعمالات لانهائية من خلال جدل وحراك تراكبي ، مع احتمالات التقائه بالحروف الأخرى .
هكذا ، وفي كلمة اخيرة ، أطلق صرخة علّها تعيد الحياة الى لغة أعطيتها من قلبي وها انا خائف على هذه اللغة ، وقبل فواتِ الأوانِ ، وبوحيٍ مما قالته الدكتوره مارلين مسعد في إصدارها الحديث ، تحت عنوان [ نحو الحداثة السابعة : ثقافة الجهل الحديث ] ( دار سائر المشرق/بيروت ط. أولى 2019 )
أقولُ :
في عصر كثرت فيه التحديات لهذه اللغة العربية الأم ، عصر الثورة الرقمية والرموز الوهمية ، حيث حلّت الفورية في التعبير وحلّ الاختصار مكان النصوص الأدبية المتينة والفنيّة بالمصطلحات القديمة التي حملت في حروفها انساننا وبلدنا وأمتنا ، اصبح ادبنا اليوم في مهب رياحِ عولمةٍ وحداثات ثلاث تتحكّم بثقافتنا ومدى حرصنا عليها بمناهجنا وبكيفية الاستمرار في التثقيف والتعليم , التعليم العالي على وجه الخصوص والخطورة تكمن في الحفاظ على هذا التوازن بين القديم والحديث ، ان نتبناه دون التخلّي عن اصالتنا ولغتنا , اعني اللغة العربية تحديدا ، وقد وضبناها في ذاكرة النسيان أو في ذاكرة المعلوماتية بدلا من ان نسعى بهذه التقنية لتطوير اللغة وتحديثها دون المس بجسدها وجوهرها ومكنوناتها .
انصرف انسان اليوم الى استخدام المعلوماتية والانترنيت والحواسيب وذكاء الآلة للقضاء عليها , بل انه لجأ الى الخمول والخواء الذهني والى سهولة المعلومة السريعة الجاهزة والقاعدة المقتضبة الفورية دون التأكّد منها ، متغاضيًا او غير مهتم بمدى تأثيرها السلبي على قدرته كعقل مفكر بامكانه الخلق والابداع لو تمكّن واتقن اللغة العربية.
ثم ، ان عدم مطالعة الأدب العربي وحفظ القواعد العربية واهمال ابلاغة والاعراب وتهميش علم اللسانية ككل يُغرِقُ هذه اللغة العربية في ظلامية ، وربما يؤدي الى زوالها ..
***
(*) ألقيت في ندوة عن اللغة العربية لتجمُّع ” أصدقاء الحرف ” بدعوة من مديرة الندوة السيدة إكرام زين الدين / مركز بلدية سن الفيل ، تاريخ الخميس 18 نيسان 2019