جميل الدويهي: كوارث النقد الأدبيّ

 

 

(نقد الجمال الجسديّ – المديح للأدب الركيك والهابط – ادّعاء الفهم لما لا يُفهم- والجهل للمفاهيم)

من خلال مطالعتي لأعمال نقديّة كثيرة في هذه الأيام، ألاحظ انحداراً في الخطاب النقديّ، قد وصل إلى مستوى الحضيض. والنقد يرافق الأدب، فإذا انحدر أحدهما انحدر الآخر معه، وأسقطه… وكم أخاف على أدبنا العربيّ، لأنّه فرع مهمّ من فروع الحضارة، ومرآة لفكرنا وحاضرنا وأمنياتنا الجميلة!

فمِن ناقد يلاحق النساء، ويُعيّر نقده بحسب الجمال الذي يراه في الجسد لا في النصّ. وقد استفاد الأدب النسويّ استفادة كبيرة من هذه الظاهرة، فطغت الأعمال النقديّة من هذا النوع على ما عداها من أعمال تتناول قامات كبيرة في ميدان الأدب، وبدا أّنّ مبتدئات على سلّم الكتابة هنّ أفضل من جبران، والريحاني، وغوته، وإبسن، وهيجو، وموليير… وبقي القلائل من النقّاد الذين يتناولون أدباء كباراً. وهؤلاء هم النقّاد الأكاديميون المشهود لهم بالموضوعية واللباقة، والدقّة في الأحكام والآراء.

وما ينطبق على الأدب النسائيّ، قد ينطبق أيضاً على الأدب الذكوري، فقد تعمد امرأة ناقدة إلى تناول نصّ يعود لرجل وسيم يعجبها، بغضّ النظر عن جمالية النصّ وأهمّيته…

ومن نقّاد يتعمّدون قصداً القفز فوق أعمال مبدعين حقيقيّين، ليصبّوا اهتمامهم على أدب ضعيف وركيك، ليس تحت مجهرنا فقط، بل تحت مجهر الناس العاديّين الذين يقرأون ويخبروننا باستهجان عن أدب هو كلّ شيء ما عدا الأدب. والناقد الذي يلتزم الأدب الضعيف أمّا صديق، أو مخادع، أو عدوّ للإبداع، ويُعمل قلمَه من باب النكاية بكلّ ما هو جميل (وهذه النكاية شائعة في الإعلام، والوسط الثقافيّ، وفي أوساط العامّة أيضاً). ويُلاحظ من حركة هؤلاء النقاد أنّهم يصولون ويجولون مع المبتدئين… ويُحجمون، في سنوات وسنوات ضوئيّة، عن قول كلمة في الأدب الطليعيّ والمضيء… إنّهم مصابون بعقدة “الخشخاش الطويل”.

ومن نقّاد آخرين يستهويهم أدب الشتائم والإهانات، فيصفّقون لمَن يقذع في كلامه، ويُعرّي الإبداع من ورقة التين، فلا يبقى من عمله الأدبيّ سوى قشور. وأدباء من هذا النوع، وراءهم طوابير من الحلفاء والأتباع (وللأسف الأكاديميّين)، يمدحونهم في كلّ ساح، ويهينون الأدب الجمّ الذي هو صورة عن الله ومثاله، وتعبير عن كرامة الإنسان.

ومن ناقد يكتب عن نصّ غير مفهوم، ولا يمكن بضرب الرمل اكتشاف أبعاده ومعانيه، فإذا به يفكّكه بنباهة أينشتاين، ويتحدّث بإسهاب وتفصيل عمّا فيه من جوانب عميقة، وأبعاد كامنة… فهذا الناقد هو الفيلسوف الذي استطاع أن يحقّق ما عجز عنه الفهماء والعلماء. والغريب أنّ بعض النصوص النقديّة من هذا النوع لا نفهم منها شيئاً، فهي صورة في “الطلسمة” عن النص الأدبيّ نفسه.

أمّا الطامة الكبرى، فتكمن في نقّاد لا يعرفون ماذا يقولون، فيتحدّثون عن أدب رومنطيقيّ وهو غير رومنطيقيّ، أو أسطوري وليس فيه شيء من الأسطورة، أو رمزيّ وهو واقعيّ. وقد سمعت مؤخّراً ما شاب له شعر رأسي. فقد اعتبرتْ إحدى الناقدات أنّ ديواناً “شعريّاً” ينتمي إلى المذهب الكلاسيكيّ. وهذا أعجب العجب، لأنّ هناك قصيدة كلاسيكية، وقصة كلاسيكيّة، ومسرحيّة كلاسيكية، وليس في العالم كله ديوان شعر كلاسيكيّ إلا إذا كانت كل قصائده كلاسيكيّة. ومعنى الكلاسيكيّة تمجيد البطل (محاكاة بطل تاريخيّ والحديث عنه بلغة مهذّبة مع احترام القيَم المقدسة في المجتمع)، واحترام الوحدات الثلاث: وحدة الزمان، وحدة المكان، ووحدة الموضوع، كما في قصّة سرفانتس “دون كيشوت”. و”لو سيد” لبيار كورناي، وفي قصيدة خليل مطران “مصرع بزرجمهر”، وفي مطوّلة سعيد عقل “المجدليّة”، وفي مسرحية “فخر الدين” للرحابنة… وقد تكون الكلاسيكية في قصّة شعريّة طويلة مترابطة.

إنّ عناصر الكلاسيكية لا يمكن أن تكون في ديوان شعري لمحمود درويش أو إيليا أبي ماضي، أو سميح القاسم، أو نزار قباني. فمن أين يأتي هؤلاء الشعراء بوحدة الموضوع، أو وحدة الزمان، أو تقديس البطل في ديوان؟وكيف يتمّ تمجيد البطل (نابوليون مثلاً ) في ديوان واحد، إذا لم يكن قصّة شعريّة طويلة؟

هذه الهرطقات، و”تلبيص” مذاهب أدبيّة بديوان شعر من غير أن يكون له علاقة بها، تدلّ على قلّة معرفة وإدراك، وتسيء إلى المفهوم لدى العامّة، فقد يكون من الناس كثيرون لا يعرفون الأصول، ويسمَعون ما يقال، ويصدّقون. وهذا تزوير للحقائق، ونشر للجهل في صفوف العامّة.

إنّ الهبوط في النقد، والاعتداء على حرمته ونزاهته، وتشويه صورته… من المظاهر التي نراها كلّ يوم، ونتأثّر… بل نخشى أن نصل إلى وضع يصبح فيه النقد إساءة ونقمة بدلاً من أن يكون نعمة… ويبقى الأمل في قليل من النقّاد الحقيقيّين الذين لا يغرقون في شبر ماء، ولا تخدعهم البهرجات اللفظيّة الفارغة من أيّ مضمون إنسانيّ وفكريّ.

***

(*) جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي – سيدني.

 

اترك رد