أَرَحَلْتَ؟  

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

هاتَفتُهُ عَشِيَّةَ رَحِيلِهِ، وهو في المُستَشفَى في بارِيسَ، في كَلامِهِ إِعياءٌ وتَقَطُّعٌ وأَنفاسٌ تَتَدافَعُ، فَقُلتُ لَهُ: لَن أُطِيلَ عَلَيكَ الكَلامَ لِكَي تَرتاح. وتَمَنَّيتُ له السَّلامَةَ، وحُرْقَةٌ تَكوِينِي. فقال: لِنَرَى ما سَيَكُونُ مِنْ هذه اللَّيلَة. وصَمَت.

وكانَ مِنها… أَنْ تَرَجَّلُ الهُمامُ الكَبِيرُ، وخَتَمَ المَسِيرَةَ الطَّوِيلَةَ الحافِلَةَ باِلبَدْعِ والمَآثِر!

إِنَّهُ الصَّدِيقُ، الشَّاعِرُ المُمَيَّزُ، جُوزف صايِغ، مَنْ تَرَكَ لِلأَدَبِ والشِّعرِ والفِكْرِ ذَخائِرَ لَن يَفُوتَ يَومُها لِأَنَّها مُجَرَّدَةٌ مِنْ عُثِّ الزَّمَنِ، وهَشاشَةِ العَناصِر.

رَحِمَهُ الله!

 

أَرَحَلْتَ؟ هل جارَتْ خُطُوبُ؟ هل ضامَكَ الزَّمَنُ الغَضُوبُ؟

هل غارَ ما هو في الجَوانِحِ خَمرَةٌ وجَوًى وطِيْبُ؟

هل غَيَّبَ الشَّفَقُ العَبُوسُ مَعالِمًا، وعَفَتْ دُرُوبُ؟

فَقَفَوتَ رَحْلَ الغابِرِينَ، فَعَيشُنا واهٍ خَلُوبُ

وَدَخَلتَ في رَكْبِ الغُيُوبِ، ولَيتَ ما أَذِنَتْ غُيُوبُ!

***

أَصَدِيقُ… آهٍ، ضَيَّعَتنا، في مَتاهَتِها، الكُرُوبُ

نَسرِي فَيَطوِينا الظَّلامُ، وإِنْ غَدَونا فَالشُّحُوبُ

أُوَّاهُ مِن دَهْرٍ سَداهُ ضَنًى، ولَحْمَتُهُ قُطُوبُ!

***

يا صاحِبِي، ونَأَيتَ، قُلْ لِي ما جَنَتْ هذي الخُطُوبُ

إِذْ صَوَّحَتْ بِسَعِيرِها قَلَمًا تَتُوقُ لَهُ القُلُوبُ؟!

أَمْ أَنتَ مَنْ شَدَّ الرِّحالَ وقد أَحاقَ بِهِ الغُرُوبُ

وَعَلا سَنا تِلكَ الذُّؤُاباتِ المُؤَانِسَةَ المَشِيبُ؟!

أَينَ اللَّيالِي السَّاجِياتُ وفي مَطاوِيها شُبُوبُ

بَينَ الكُؤُوسِ ورِفْدِها، ورُوًا بِسَطوَتِهِ يُذِيبُ

ويَطِيبُ في الوَتَرِ الصَّدُوحِ تَرَنُّحٌ، ويَلَذُّ كُوْبُ؟!

وَلَّى الزَّمانُ، وغِبْتَ، يا إِلْفًا، فَجانِحُنا لَهِيبُ

والقَلبُ أَرهَقَهُ الأَسَى، فَالغَمُّ نارٌ والوَجِيبُ

كَيفَ انتَهَى عَهْدُ الهُيامِ، وأَدبَرَتْ تِلكَ الذُّنُوبُ

حَيثُ الهَوَى حادِي المَسِيرِ، وكُلُّ فاتِنَةٍ حَبِيبُ؟!

***

كَم قُلتَ لِي، يا صاحِبِي، والصَّيفُ، في شَجَنٍ، يَغِيبُ

بارِيسُ تَدعُونِي وما لِي مِنْ إِطاعَتِها هُرُوبُ

وَأَراكَ تَحزِمُها الحَقائِبَ، فَالنَّوَى أَمْرٌ قَرِيبُ

والقَلبُ يَعصِرُهُ الشَّجَى، والدَّارُ مَظهَرُها كَئِيبُ

وتَقُولُ، والغُصَّاتُ في حَلْقٍ تَصَلَّبَ: هل أَثُوبُ؟!

هل يَرجِعُ الصَّيْفُ المُوَلِّي؟ هل يَعُودُ لَنا النَّسِيبُ؟

فَلَنَحنُ، في العَوْدِ الرَّضِيِّ، مَدًى، على اللُّقْيا، خَصِيبُ

أَو آنَ لِلرَّحَّالِ أَنْ يُلقِي الزِّمامَ، فَلا رُكُوبُ؟!

أُوَّاهُ كَمْ قاسٍ مَصِيرُ المَرْءِ لَفَّعَهُ النُّضُوبُ

وتَكاثَرَت عِلَلٌ، وحَصْحَصَ، مِنْ غَيابَتِهِ، المَغِيبُ!

***

يا صاحِبِي، ما عَنكَ مَنْ، يَومًا، يُؤَاسِينا، يَنُوبُ

كُنتَ الأَمِيرَ على عُكاظِ الشِّعْرِ، إِذْ سَبْقٌ مَهِيْبُ

وبِحَوْمَةِ البَدْعِ المُبِينِ لَأَنتَ فارِسُها الأَدِيبُ

كُنتَ الصَّدِيقَ بِلَيلَةِ الأَقداحِ إِذْ كُلٌّ طَرُوبُ

وَلَأَنتَهُ إِمَّا أَلَمَّ الخَطْبُ، والأَمْرُ العَصِيبُ

ها قد هَجَرتَ ونَحنُ، في ذِي الدَّرْبِ، مَسعانا دَؤُوبُ

كُلٌّ لَهُ قِسْطٌ بِها، وعَلَيهِ، ما طالَتْ، صَلِيْبُ

فَلَسَوفَ تَبقَى الطَّيْفَ يَحضُرُ، في مَآقِينا يَجُوبُ

وسَمِيرَنا، واللَّيلُ، في صَفْوِ اللِّقاءِ، نَدًى رَطِيبُ

وَلَأَنتَ حِرْزٌ نابِضٌ، دِفْءٌ، وأَنسامٌ طُيُوبُ،

خَدَرٌ، إِذا طَرَقَ الخَيالُ، لَهُ، على الذِّكرَى دَبِيبُ!

اترك رد