بيروت.. زُمُرُّدَةٌ تكتحل بالبحر!       

 

 

كنّا نلتمسُ صَبْوتَكِ يا بيروتُ، ونسمعُ رشْقَ أقلامكِ وأنتِ تَسْتَويِنَ على صَهوةِ العِزِّ جبلاً، شأنَ العِلْيَةِ من الـمُلوك.

مَدرحيَّةُ الكفِّ، جزيلةُ العوارِفِ، نُجْعَةُ المكارِم.

إزدحَمَ العُلماءُ على بابِكِ فَتنسّمَ المكانُ بالطّيب.

تَسكنينَ القلبَ والدّواةَ غابةً من شموسٍ تقرأُ للطّيرِ أشعارَها فتتفتّحُ الآكامُ عن النُّور.

لم تَقرُبي(1) سَيْفَكِ يومًا، فيَسْتبي الدّيجورُ بظُلَمِهِ الصّفيقةِ، الغارَ والوردَ الأحمرَ عن جَبِينِكِ الوسيع. أو تتوارِي هَلوكةً في خَمَرِ الوادي.. تَتَثَنِّي ثَنْيَ الأماليدِ عبثَتْ بها الرِّيحُ فذلَّلَتْ عُذوقَها وفيَّحَتْ لها أُفْقا.

تَجالَّ ظِلُّكِ البتُولُ كنَدْفِ الثّلجِ على الشّرْقِ الـمُثقَلِ بالغيبيّاتِ، ناشِرًا خيالَهُ شِراعًا نقّاشَ بدائعَ بأَلفِ إيماءةٍ بيضاءَ، فما تُبارِحينَ كلَّ الأعاصيرِ تـأْتَنِفِينَ(2) الحكمةَ والاتّزانَ والصّبْرَ والثّقةَ القويّةَ بالنّفسِ، فلا زَرْعَ تحصُدينَهُ قَصِيْلاً(3) فيُفضي إلى تكوُّنِ الفاجعة.

وما مِن سيّارٍ أنضَجَتْهُ الفاقةُ من سيّاري بلادِ الله الواسعةِ وسَفّارِيْها، أتاكِ بِعُكّازِ قِنديلِهِ يَسْتَطْعِمُكِ ويَتَغَيّا قَدْحَ زِنادِكِ، إلاّ وأقْرَيْتِهِ من طُهرانيَّتِكِ الوزُونِ، فتنجُمُ الكواكِبُ بخوابي المحبَّةِ، وتُزهِرُ أشجارُ الكرزِ على صُداحِ عندليبٍ أعطَيْتِهِ قِلْدَ أمرِكِ، رغبويِّ العِشقِ، ذَرْبِ اللِّسانِ يتفجّرُ كالسّيْلِ، له برحيقِهِ الملائكيِّ وداعةُ الفَجْرِ وخَطْرةُ البَنفسجِ الرّقيق.

لِـخمرِ الكلماتِ تَندرِئُ على شفا كأسِكِ.. واهًا(4) لها كيف فُطِرَتْ على الحبّ مشاهِدَ وحِكاياتٍ ملأى بالسَّنابِلِ ما قَشِفَتْ(5) لِعَيْشٍ ولا تَطوحَتْ في حاناتِهِ المقيتةِ، فكنتِ بِـمُشابَعَتِكِ المكتنِزَةِ بالبَهارِ والبريقِ، العريقةِ الأصالةِ، الكريمةِ المحتِدِ، تجتمعُ لِحروفِكِ المذرورةِ المعاني حبّاتِ ماسٍ قُدْسيّةً وصلاةَ مُراحمةٍ من مواهِبِ الله. 

حتّى إذا تقَشّعَتْ سماؤُكِ وأدبَرَ ليلُ المافَويّةِ بمُبيداتِ عُبدانِ الزّمانِ الحَشَريَّةِ، وطفيليّاتِهم، وفيروساتِهم الوَبائيَّةِ في بلادِ القُطعانيَّةِ(6) تَهُبُّ من كلّ صَوْبٍ، انبلَجَتْ لُسُنُكِ بتَقَوِيَّتِها ودَعَوِيَّتها من تحتِ الرَّمادِ زمرُّدَةً تَكتحِلُ بالبحرِ..

أطلَّ صبحُها يُقبِّلُ الأبوابَ – ما مُتَعُ الجنَّةِ- فتطفحُ فرحًا استكمالاً لدائِرةِ الحافِزيَّةِ توقِدُ شُعلةَ سرِّها الدّفين!

فيا مدينةً طُلْعَةً، طيِّبةَ الدُّهْنَةِ، 

“وجرَّةَ مَنٍّ إلهيٍّ”، 

إني أستَخْلِفُكِ على فؤادي ولَفْحِ أُوارِهِ، 

وأنحني كما جاثيًا على ترابِكِ، أُقبِّلُ خطوطَ الألمِ 

في عيونِ المتعبين!

***

1): اتّخذْتِ له قِرابًا

2): تستأنِفين

3): قبل أن ينضج

4): إسم فعل للمضارع بمعنى أتعجّب

5): بخُلت

6): تشبّهًا بالقطيع

اترك رد