إلى متى سيتحمّل اللبناني الأوبئة والمآسي والدمار والخوف؟

 تحقيق – ندى قزح

هي مشاعر مختلطة ومتناقضة هبت في داخلي وأنا أغادر مستشفى فتوح – كسروان الحكومي، بعد أن لمست لمس اليد ما آلت إليه الأوضاع عامة بسبب فيروس كورونا الذي يتفشى يوما بعد يوم في وطننا لبنان.

مشاعر متناقضة… بين الخوف من المضاعفات التي قد تنجم عن هذا الوباء، والاطمئنان نوعا ما إلى أن نسبة الشفاء منه كبيرة.. وبين الألم حين ترى من يعاني أمامك ويضيق نفسه مصارعا الموت في غرفة العناية الفائقة، والفرح بالمتعافين تماما من الفيروس وعودتهم سالمين إلى منازلهم.. والامتنان للفريق الطبي العامل في ساحة المعركة الذي يواجه عدوا خبيثا لا يزال مجهول الهوية ويعرض حياته وحياة عائلته للخطر… إنهم فعلا ملائكة الله على الأرض.

قزيلي

في حديث إلى “الوكالة الوطنية للاعلام”، أبدى رئيس مجلس إدارة المستشفى الدكتور أندريه قزيلي مخاوفه من أن تصل حال التفشي إلى ذروتها “وألا نتمكن من استقبال الحالات كافة إذا تفاقم الوضع أكثر، فنحن قمنا بالواجب وتحملنا مسؤوليتنا من ناحية التحضيرات التقنية واللوجستية منذ انتشار الوباء في لبنان”.

مرحلة التجهيزات

كشف قزيلي في حديثه عن “تجهيز قسم خاص في المستشفى كان مقفلا منذ العام 2013، وخصص لمرضى كورونا بمساعدة عدد من الأطراف على رأسهم وزارة الصحة واتحاد البلديات وجمعية المصارف ومقاولين وخيرين في المجتمع”. وقال: “عملنا على تحضير 19 غرفة مجهزة بالضغط السلبي -Negative Pressure- وهي من أهم طرق الحماية من العدوى الفيروسية -Virus Infection- التي تنتقل بالرذاذ والهواء. هذه الغرف جهزت تماما من خلال التهوئة والمعدات اللازمة، وتم فصل غرفتين منها لاستقبال مرضى العناية الفائقة. عملنا كثيرا من أجل تأمين PPE – Personnal Protective Equipement- أي تجهيزات الحماية من ألبسة وأقنعة فقدت من الأسواق منذ بداية انتشار فيروس كورونا، وتمكنا من تلبية الحاجة في هذه الفترة مع وصول طائرات محملة بكمية من المساعدات تم توزيعها من الطبابة العسكرية في الجيش. لكننا نتخوف اليوم من صعوبة استيرادها مجددا، وألا نتمكن في ما بعد من تأمين التجهيزات كافة بسبب الضائقة الاقتصادية وأزمة الدولار”.

وتحدث عن “إعداد عيادة ومختبر خاص بفحوص كورونا خارج المستشفى لعدم اختلاط الوافدين”، موضحا أن “من يريد إجراء فحص PCR يتصل ويأخذ موعدا، نظرا إلى الضغط الكثيف وتفاديا لنقل العدوى من الشخص المصاب، وتبلغ كلفة هذا الفحص 120 ألف ليرة. لذلك يتم الدخول إلى العيادة المتخصصة من جهة، حيث يتم استقباله والتعرف إليه وأخذ بعض التفاصيل عنه ثم يرحل من الجهة الثانية حفاظا على السلامة العامة”.

أضاف: “طلبنا من المواطنين الذين يشكون باحتمال العدوى جراء اختلاطهم بأي مصاب، الانتظار لفترة خمسة أيام على الأقل لإجراء الفحص من أجل التأكد من احتمال ظهور الاعراض، لأننا سنتمكن من اكتشاف الفيروس بوضوح أكبر حين يتكاثر. ولاحظنا أن 90 % من الأشخاص المصابين تظهر عليهم الاعراض بين اليوم الخامس والعاشر، و90 %‏ من الناس يصابون بالفيروس من دون أي أعراض ويشفون منه بشكل طبيعي، وهذه الحال تعتبر أخطر لأن المصاب يجهل إصابته ويكون بذلك ينقل العدوى إلى غيره عن غير معرفة، لذلك تمتد فترة الحجر 14 يوما للتأكد نهائيا من الاعراض كلها”.

وتمنى على المواطنين “التحلي بالصبر لمعرفة النتيجة النهائية التي تتطلب بين 24 و 48 ساعة لإصدارها، لأن كل حال إيجابية يتم التأكد منها مجددا قبل إصدار النتيجة”، طالبا “توخي الحذر والوعي، فهناك من لم يصدق بعد وجود فيروس كورونا، ويعتبر أنها كذبة لإلهاء الناس أو يتم تضخيمها كثيرا. لذلك يتألف القسم الأكبر من المصابين في هذه المرحلة من شبيبة المجتمع، لأنهم لا يلتزمون الإجراءات الوقائية المطلوبة ويتحمسون لحضور المناسبات واللقاءات التي تكثر في فصل الصيف والترفيه عن النفس في ظل الأوضاع الصعبة التي تمر فيها البلاد”.

مخاوف وبوادر حلول

أشار قزيلي أيضا إلى “إمكان إقفال الأقسام الأخرى في المستشفى لتحويلها كليا لاستقبال مرضى كورونا إذا تفاقم الوضع أكثر”، وشدد على أن “مستشفى البوار الحكومي يعتبر من أفضل المستشفيات في لبنان، من حيث التجهيزات والمعدات الموجودة فيه لمكافحة الوباء وبإمكانه استقبال 36 مريضا بكورونا. وقد نلجأ أيضا إلى تخصيص القسم الآخر من المستشفى، الذي يتألف من 32 سريرا لاستقبال المرضى وتلقي العلاج الخفيف لأنها غير مجهزة كفاية. وها نحن نقدم كل إمكاناتنا كفريق طبي لخدمة المجتمع ونبذل أقصى جهودنا. ولكن في ظل الإمكانات المحدودة والوضع الاقتصادي، كيف نقارن أنفسنا بالبلدان المتقدمة التي عجزت عن تصدي هذه الكارثة حين انتشر الوباء؟”

وتخوف من “عدد المصابين الذي تكاثر في الأيام الأخيرة وتفاقم الأزمة لتصبح أكثر من قدرة استيعابنا وعدم التمكن من تأمين التجهيزات الطبية الضرورية، تحديدا مع غلاء الأسعار التي تطال كل النواحي ومتطلبات هذه المرحلة، إن من ناحية تأمين وجبات الطعام للمرضى في المستشفى والتجهيزات والمعدات الضرورية لفحص PCR وأدوات التنظيف والقدرة على الاستمرار”. وقال: “في المستشفى الحكومي يتم استقبال المريض على حساب التأمين والضمان الذي يشكل لنا عائقا كبيرا، ومعظم المستشفيات الحكومية يواجه مشاكل متعددة مع الضمان الاجتماعي والبعض يتلقى علاجه على حساب وزارة الصحة. لذلك نرجو المواطنين عدم التوجه فورا لإجراء فحص PCR عشوائيا لإزالة الشكوك، بل إفساح المجال أمام الذين يشعرون فقط بالعوارض لنتمكن من خدمة أكبر عدد من المواطنين”.

وبالنسبة إلى الحلول والمساعدات، قال: “استقبلنا أخيرا وفدا طبيا من الجيش الكازاخستاني الذي يزور لبنان لتقديم تجهيزات ومواد طبية للمستشفى بعد انفجار بيروت وتبادل الخبرات. وزارنا أيضا وفد مشترك من وزارة الصحة والاتحاد الأوروبي للاطلاع على ما أنجز ودرس الحاجات الضرورية للمستشفيات الحكومية ودعمها لتتمكن من التصدي لوباء كورونا في المرحلة المقبلة”.

الفريق الطبي

وتابع قزيلي: “منذ بدأت موجة كورونا، قمنا بدورات تدريبية وتوجيهية لكل الموظفين العاملين في المستشفى، إن من ناحية التمريض والخدمة الصحية، وإن من ناحية طرق تحضير الطعام في المطبخ والغسيل والتنظيفات التي واجهنا مشكلة فيها منذ بداية الأزمة، لأن العمال الأجانب رفضوا التنظيف في المستشفى، حين علموا بوجود كورونا، فلجأنا إلى شركة لبنانية وتعاونا معا في سبيل تأمين عمال لبنانيين للتنظيف ولكن عددهم قليل ولا يفي بالحاجة”.

وردا على سؤال عن الموظفين الراغبين بالعمل في قسم كورونا، أجاب: “في البداية، كان هناك تردد عند البعض من مرض يجهلونه والتخوف من نقل العدوى إلى أولادهم أو أهلهم، من أجل راتب هو من أساسه غير كاف لتأمين حاجات العائلة، فكيف اليوم في ظل الضيقة الاقتصادية وتردي الأوضاع المعيشية. وهناك من يشجع وقدم نفسه للعمل، لكن عددنا غير كاف ونحن نضطر لإقفال أقسام أخرى في المستشفى ونقل الموظفين منها إلى قسم كورونا، في ظل خفض السقف المالي للمستشفيات وقوانين لا تسمح لنا باستخدام ممرضين عن طريق المناوبة من خارج المستشفى، وتحديدا قانون سلسلة الرتب والرواتب الذي خفض ساعات العمل في الأسبوع. كان بإمكان الموظف العمل نحو 44 ساعة في الأسبوع إلى أن تقلصت ساعات العمل إلى 35 ساعة”.

وعن القرار الذي صدر أيضا بمنع إعطاء التكليف بساعات إضافية، تمنى في هذه الأزمة أن “يعطى الإذن بما يسمح به القانون بالساعات الإضافية، لأن المستشفى مضطرة في ظل النقص الكبير والوضع الاستثنائي، أن تتعامل مع أشخاص ممرضين ومساعدين ممرضين من خارج طاقمها ليعملوا على المناوبة على نفقتها الخاصة. فالفريق الطبي يقوم بجولات تفقدية على المرضى يوميا، وكل جولة في المستشفى تتطلب ساعتين من الوقت تحضيرا ووقاية في اللباس والتعقيم والتجهيز. لذلك أتمنى على المعنيين بلفتة للأطباء والموظفين الذين يعانون ويعرضون حياتهم للخطر يوميا في ساحة المعركة. الفريق العامل في المستشفى يقوم بفحوص دورية أسبوعية للاطمئنان وعدم نقل العدوى إلى عائلاتهم إذا وجدت”.

أضاف: “اجتمعنا منذ أيام بمنظمة الصحة العالمية ولحسن الحظ، أبلغنا أن الفريق البريطاني الذي يقدم خدمات عدة للمنظمة، وافق على مساعدة المستشفى من خلال تأمين ممرضين ومساعدي ممرضين لقسم العناية الفائقة”.

مريض كورونا

حين يصل مريض كورونا إلى المستشفى، تراه يأتي وحيدا في سيارة الصليب الأحمر، إذ يمنع على أحد مرافقته أو زيارته طيلة فترة العلاج، ويمكنه رؤية أحبائه والتواصل معهم فقط عبر الهاتف. ويا لصعوبة تلك الأيام! مريض كورونا في غرفته يصارع المرض وحيدا بعيدا من عائلته ومنزله، ويتلقى العلاج الذي قد تمتد فترته أياما وأسابيع، كل بحسب حاله وتداعيات المرض عليه، وحتى الفريق الطبي لا يدخل إلى غرفته إلا للضرورة القصوى ويتم التواصل معهم عبر الهاتف.

ومن لم يتمكن من مصارعة المرض وغلبه، أوضح قزيلي أن “الشخص المتوفي يوضع في كيس خاص بمرضى كورونا لأن الفيروس يعيش مع السوائل الموجودة في الجسم حتى يجف تماما، لذلك ممنوع على أي كان أن يلمسه أو يراه حتى مرة أخيرة للوداع ويقفل الكيس جيدا. ويؤخذ مباشرة بعد موته لدفنه مع فريق متخصص مع ثياب واقية، خوفا من أي عدوى قد تنتقل، ويمضي الأهل على استلام الجثة ودفنها ضمن مراسم خاصة في هذه الظروف كل بحسب دينه”.

تمنيات وإرشادات

في ختام حديثه، تمنى قزيلي على المواطنين “أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر، والتزام إرشادات الوقاية خوفا على حياتهم وحياة من يحبون والتحلي بالشفافية والإبلاغ عن الإصابة إذا كانت النتيجة إيجابية، لأنه بذلك ينقل العدوى إلى ذويه”. وأمل أن “يتم اكتشاف العلاج والدواء المناسب لهذا الفيروس، لذلك وجب على الجميع التحلي بالوعي والمسؤولية لأن هذه المرحلة قد تطول لأشهر عدة، وعلينا التزام الإرشادات لتمر بأقل ضرر وتجنب خطورة هذا المرض. ومن اعتقد أن هذا المرض سينحسر مع ارتفاع الحرارة في الصيف، اكتشف أنه على خطأ لأن الأعداد تتزايد حاليا. هذه المرحلة تتطلب منا الصبر وإن كنا نعاني من أزمة اقتصادية وظروف صعبة في البلاد، علينا الانتباه جيدا، لأن بعض الوافدين إلى لبنان من خارج البلاد لم يلتزموا الإرشادات، مما ساهم في انتشار الوباء أسرع بعد إعادة فتح المطار، وتحديدا انفجار مرفأ بيروت والكارثة التي حلت وعدم التمكن من اتباع الوقاية اللازمة”.

ويبقى السؤال في قلب كل مواطن لبناني: إلى متى؟ إلى أين؟ إلى متى سيتحمل اللبناني أعباء الحياة الثقيلة والأوبئة والمآسي والدمار والخوف من مصير مجهول في كل صباح ومساء؟ وإلى أين يسير بنا الوطن بعد هذا النفق المظلم…. إلى الموت أم إلى القيامة؟

***

(*) الوكالة الوطنية للإعلام

اترك رد