تحقيق فاطمه عيسى
لن ينسى اللبنانيون تاريخ الرابع من آب. ضحايا من المتوقع أن يتجاوز عددهم الـ 200، وأكثر من 7000 جريح، دمار هائل، بيوت تهدمت فوق رؤوس ساكنيها، إنها حصيلة انفجار ضخم دمر مرفأ بيروت، انفجار صدم الجميع، وخصوصا الأطفال الذين كانوا ملتزمين بيوتهم خوفا من فايروس كورونا، ومحرومين من نقاهة الصيف والعطلة، فلاحقهم الموت والخوف والقلق الى عقر ديارهم. ربما لن تذهب لحظات الموت هذه وآثار الدمار والدماء من ذهن كل طفل عاين الحادث، وعاش لدقائق معدودة الخوف من الموت وفقدان احبائه، مشهد سيرافقه الى الابد او على الأقل لن يزول في المدى القريب.
تفيد منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” أن نحو 80 ألف طفل لبناني فقدوا منازلهم وأصبحوا نازحين بسبب انفجار بيروت، وأن الناجين منهم أصيبوا بصدمة نفسية حادة.
كانت ليا (6 أعوام) ، تتناول وجبة الغداء في منزلها في زقاق البلاط، شعر والدها بهزة خفيفة، فغمرها حتى لا تشعر بالخوف، وكان الانفجار وتلقى كل الزجاج المتطاير من الشرفة في أنحاء جسده، لكن دمه تسرب على طفلته ليا، فنظرت الى والدها نظرة خوف من الانفجار والخوف عليه، فسارع الى اخذها الى مكان آمن، وذهب لتلقي العلاج، ولم يأت بها الى حين تنظيف المكان وترميم المنزل كي لا يبقى في المكان ما يذكرها بالحادث، لكنها وللأسف عانت ارتفاعا في حرارتها بسبب الخوف، ولم تعد تجرؤ على الدخول الى غرف المنزل من دون مرافق، وعند سؤالها عن السبب تجيب: ” من سيغمرني اذا حصل انفجار آخر”، هذا عدا تأزمها عند سماع أي حديث عن الانفجار، وخوفها من النوم في غرفتها بعد ما رأت أغراضها مبعثرة وأثاثها المكسر.
أما الطفلة رويدا (3 أعوام)، التي تسكن في منطقة الخندق الغميق، فلم تكن في المنزل وقت الانفجار، ولكن عند وصولها الى المنزل، كانت الصدمة من آثار الدمار فيه، زجاج مكسور وأثاث وردم، صرخت: “بيروت تكسرت وتكسر معها بيتنا”، ولم يهدأ صراخها وبكاءها، دخلت غرفتها رأت العابها المبعثرة والزجاج في الأرض كل أغراضها المحببة لها إما مكسورة وإما غير موجودة، فهالها المنظر ولم تعد ترغب بالدخول اليها، أما أخوها محمد الذي لم يكمل العامين، فهو ملاصق لأمه ولا يجرؤ على التحرك الا معها، بالإضافة الى حالة الرعب والصراخ عند سماعهم أي صوت قوي حتى ولو كان “خبطة باب”.
علم النفس
تؤكد الدكتورة كارول سعادة، المعالجة النفسية والاستاذة في الجامعة اللبنانية، أن “الصدمة الناتجة عن انفجار بيروت، تعتبر من اقسى الصدمات التي من الممكن أن يتعرض لها الأطفال، وبخاصة الذين فقدوا أحد أقربائهم، أو فقدوا منازلهم أو أصيبوا بجروح، فهم عاشوا حالة ذعر وقلق لا يملكون القدرة على تخطيها منفردين، لذلك فإن الطفل الذي كان قريبا جدا من مكان الانفجار ورأى الجرحى والشهداء والدمار، وفي بعض الحالات الطفل الذي سمع فقط الصوت وتشرب من أهله حالات الخوف والقلق والتوتر، هؤلاء الأطفال معرضون لاضطراب نفسي يعرف ب “اضطراب ما بعد الصدمة”.
وعن اعراض هذا الاضطراب النفسي تشير سعادة الى أنها “تقسم الى اربع مجموعات أساسية، المحموعة الأولى تتمثل في لجوء الأطفال الى إعادة التجربة، فيعيش الطفل حالة الذعر والخوف من جديد وكأن الانفجار عاد وحصل، ويظهر ذلك من خلال الدخول بدوامة الصراخ والرعب، أو من خلال الكوابيس والتوهم بسماع صوت الانفجار مرة أخرى، ومن الممكن أيضا أن تظهر على المستوى الجسدي علامات التوتر كالسرعة بضربات القلب او التعرق او ظهور حالة قلق على الطفل”.
أضافت:”المجموعة الثانية من الأعراض تتمثل بتجنب الطفل الحديث عن الموضوع أو أي شيء يعيد بالذاكرة للطفل الى الانفجار، أو خوفه من الخروج من المنزل. أما الإثارة السريعة والتوتر والانفعال فهي المجموعة الثالثة من الاعراض، اذ أن الطفل لا يستطيع في معظم الأحيان التعبير بشكل واضح عن مشاعره، فيكون سريع الانفعال، أو أحيانا يكون هناك فرط في الحركة وعدم القدرة على النوم والتوتر الدائم كردة فعل تعبيرية عن خوفه. أما المجموعة الرابعة فتظهر في التغير السريع لمزاج الطفل، اذ يلاحظ دخول الطفل في حال اكتئاب مستمرة وحالات بكاء وحزن شديد، وهناك نوع من الأطفال يكبت مشاعره ويلجمها فيتسبب ذلك بأوجاع جسدية ليس لها أي تفسير عضوي بل نفسي، كأوجاع المعدة والرأس والدوخة والغثيان والحساسية في الجسم”.
وأخيرا تؤكد سعادة أنه في “حال تعرض الطفل لاضطراب ما بعد الصدمة تظهر العوارض مباشرة او بعد فترة تصل الى أسبوعين، ولهذا الاضطراب تداعيات سلبية في حياة الطفل اذا لم تتم معالجته، فيؤثر بشكل مباشر على نشاطه وتركيزه ونموه الطبيعي وحياته اليومية عموما، لذلك تنصح الدكتورة سعادة أن يكون هناك متابعة نفسية وعلاج لمساعدة الطفل على تخطي ما حصل كي لا يؤثر ذلك على نموه العاطفي والنفسي على المدى البعيد، بالاضافة الى ضرورة تشجيع الأطفال على التعبير من خلال الرسم والمحافظة على الروتين اليومي وإبعادهم عن جو الخوف والتهويل”.
***
(*) الوكالة الوطنية للإعلام