(مُقَدِّمَةُ كِتابِ «رِيفِيَّات» لِلأَدِيبِ جُوزف مهَنَّا)
مفتتح
«رِيفِيَّات»، جَدِيدٌ مِنَ الأَدِيبِ جُوزف مهَنَّا، فيه رَوْنَقُ «الرِّيفِ اللُّبنانِيِّ البِقاعِيِّ» الخَصِبِ المِجوادِ بِأَنسامِهِ ووِهادِهِ وسُفُوحِهِ، وفيه عُنفُوانُ سِندِيانِهِ، وشُمُوخُ جِبالِهِ الشُّمِّ، وفيه بَساطَةُ النَّاسِ وعاداتُهُم الجَمِيلَةُ المُستَقاةُ مِن عَفْوِيَّةِ الطِّباعِ، والمَوسُومَةُ بِنَقاءِ الطَّبِيعَة.
لُغَتُهُ هي لُغَةُ أَدِيبٍ هَيمانٍ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، طامِحٍ إِلى إِعادَةِ مَجدِها الأَثِيلِ في عَصْرٍ لا تُؤَاتِي طُرُوحاتُهُ، فَيَرُوحُ يَتَوَقَّلُ المَراقِيَ فَلا يَخبُو طُمُوحُهُ ولا يُلقِي سِلاحَهُ، ويَصعُبُ عليه أَن تَستَغلِقَ بِوَجهِهِ أَبوابُ هذه اللُّغَةِ المُعجِزَةِ الَّتِي لا حُدُودَ لِغِناها وقَواعِدِها.
تُراهُ يَضرِبُ في الرِّيحِ، أَم انَّهُ يَكتُبُ لِعَصْرٍ لَم يَأْتِ بَعْدُ، أَم هُناكَ، في الارتِباكِ السَّائِدِ، أُناسٌ مُتَفَرِّدُونَ ما تَزالُ تُسكِرُهُم هذه الكِتابَةُ الرَّاقِيَةُ ويَأمَلُونَ بِفَوْزِها الآتِي لا مَحالَة.
يُفتَتَحُ الكِتابُ بِما يُشبِهُ التَّوطِئَةَ، تَحتَ العُنوانِ الشِّعرِيِّ المُوحِي «ناهِيكَ بِقَريَتِي قَمَرًا»، ثم تَتَوَزَّعُ المَتْنَ ثَلاثَةُ مَصارِيعَ يُباهِي الواحِدُ مِنها جارَهُ في الحُسْنِ، والبَلاغَةِ، وطَلاوَةِ الأُسلُوبِ، والتَّعابِيرِ المُشكُوكَةِ شَكَّ الزَّرَد. ويَنتَهِي الشَّوْطُ على أَندادٍ، لِكُلٍّ نَكهَتُهُ الخاصَّةُ، وشَمِيمُهُ المُمَيَّزُ، أَمَّا القِبلَةُ فَهِيَ هِيَ: القَلبُ الرَّازِحُ تَحتَ أَرياحِ الشَّوقِ والحَنِينِ، والجَوارِحُ التَّائِقَةُ إِلى أَيَّامٍ وَلَّت، وَمَطارِحَ اندَثَرَت، ولَيالٍ طَواها الزَّمَنُ في سِجِلِّهِ العَتِيق.
هِيَ الثَّلاثَةُ الغُرُّ: «رِيفِيَّات»، «كَلامٌ مِنَ القَلب» وَ «خَطَرات».
فَلْنَمُرَّ على كُلٍّ مِنْ هذهِ الواحاتِ، بِانبِساطِ نَفْسٍ، وَلْيَكُنْ مَرَّ نَسِيمٍ على أَقاحِ السَّفْحِ الأَخضَرِ، يَحمِلُ، ما وَسِعُ جَناحُهُ، مِن عُطُور..
***
ناهِيكَ بِقَريَتِي قَمَرًا
يَبرُزُ، في هذه القِطعَةِ المُؤَثِّرَةِ – وَلْنُسَمِّها تَوطِئَةً – حَنِينٌ حارِقٌ إِلى قَريَتِهِ البِقاعِيَّةِ «حَوْش بَرَدَى»، المُنداحَةِ شامَةً خَضراءَ في السَّهلِ الأَفيَحِ، حَيثُ مَرابِعُ الصَّبَواتِ ونَزَقُ الشَّبابِ، فَالشَّوقُ مَشُوبٌ بِأَلَمٍ عَمِيقٍ، والنَّفسُ يَحُزُّ فِيها خِذْلانٌ مِن أُناسٍ سَفَحَ عَلَيهِمِ الكَثِيرَ مِن نَداهُ يَومَ الزَّمَنُ هانِئٌ جَمِيلٌ، فَكانَ أَن رَدُّوا على البَيضاءَ بِسَوداءَ، وعلى النُّعْمَى بِطَعَناتِ الخَنجَرِ، وتَقوِيضِ الدِّيار.
فَكَيفَ لَهُ أَن يَنسَى الإِساءَةَ وهو مَن «يُدرِكُ القُصَى، ولا يَخفِضُ الجَناح»؟!
أَلا رَحِمَ اللهُ أَبا خِراشٍ الهُذَلِيِّ فَقَد لَسَعَهُ جُحُودٌ مُماثِلٌ، فَصاح:
«فَلَيسَ كَعَهدِ الدَّارِ يا أُمَّ مالِكٍ ولكِنْ أَحاطَت بِالرِّقابِ السَّلاسِلُ
فَأَصبَحَ إِخوانُ الصَّفاءِ كَأَنَّما أَهالَ عَلَيهِم جانِبَ التُّرْبِ هائِلُ».
والتَّوطِئَةُ، هذه، «مُفَكِّرَةٌ رِيفِيَّةٌ» مُوجَزَةٌ ما قَصَّرَت عن سالِفَتِها، فَرِيدَةِ أَمِيرِ الصِّناعَتَينِ أَمِين نَخلَة – إِلَّا بِامتِدادِها القَصِيرِ – بَل واكَبَتها في الشَّوْطِ، مَنْكِبًا إِلى مَنْكِبٍ، يَحدُوهُما أَناقَةُ اللُّغَةِ، والتَّصوِيرُ الشَّفِيفُ، والوِجدانُ السَّاكِب.
هِي مُوجَزَةٌ حَقًّا، ولكِنَّها تَطوِي في تَلافِيفِها كَنْزًا مِنَ التَّعبِيرِ العالِي، والوِجدانِ الخالِصِ، والصُّوَرِ الزَّواهِي. ثُمَّ.. أَلَيسَ «خَيرُ الكَلامِ قَلِيلُ الحُرُوفِ، كَثِيرُ القُطُوفِ، بَلِيغُ الأَثَرْ»، على رَأْيِ أَبُو العَتاهِيَة؟!
يَقِفُ صاحِبُنا المُتَوَلِّهُ على أَطلالِ الماضِي، يَرنُو إِلى ما بَقِيَ مِن أَحجارِهِ الخَوافِتِ البَرِيقِ، فَيَأْسَى مِن دُونِ أَن يَستَغرِقَ في البُكائِيَّاتِ، وتَهِيجُهُ الذِّكرَياتُ الدَّافِئَةُ تَغمُرُ حَناياهُ بِالحَنِينِ، فَتَعرُوهُ لَذَّةُ الشَّجَنِ المُخَدِّرِ، يَشِيلُهُ مِن واقِعِهِ، ويَعُودُ بِهِ، بِالخَيالِ، إِلى حَيثُ كانت الحَياةُ طَيْشَ طُفُولَةٍ، وبالًا خَلِيًّا، وعُمْرًا لَم تَغْزُهُ الأَكدارُ والعِلَلُ، وحَيثُ كان، في نَزَقِهِ المُجَمَّرِ «يَصبُو إلى ذَاتِ الصِّبَا عَن صَبابَتِه»(1).
نَعَم..
«لَقَد أَنحَلَهُ البُعْدُ يَنثالُ عَلَيهِ مِن كُلِّ جانِبٍ، فَاستَطارَ فُؤُادُهُ إِلى رُبُوعٍ تَنبَسِطُ إِلَيها آمالُهُ، «لَيسَ عَزُوفًا عَن شَمِيمِ تُرابِها، وِلَو أُقْطِعَتْ لَهُ الدَّنيا».
ونَستَحسِنُ، جَمِيعًا، استِرجاعَهُ ما خَلا لِأَنَّهُ لَنا، فَلَقَد مَرَرنا بِمَرابِعَ مَثِيلَةٍ، وضَمَّتنا خِيامُها ودُرُوبُها، واكتَوَينا بِهَواها وهَوَى الحِسانِ الصَّغِيراتِ، وَعَبَرنا فَالضُّلُوعُ جِمارٌ تَخمُدُ كُلَّما غَذَّينا في المَسِير.
قد يَكُونُ في الماضِي عَثَراتٌ وخَيباتٌ، ولكنَّ الزَّمَنَ يَصقُلُ نُتُوءاتِها السَّنِينَةَ، فَيَبقَى الحَنِينُ إِلَيهِ صارِخًا، وتَبقَى صُوَرُها العِذاب.
كُلُّنا، في هذا المَهَبِّ، سَواءٌ، تَلفَحُنا رِيحُهُ، ونَتُوقُ إِلى مَطارِحِهِ الحَمِيمَةِ التي حَضَنَت طُفُولَتَنا، وَرَعَت صِبانا وشَبابَنا، وحَمَلَت خُطُواتِنا في مَرَحِ الصِّحَّةِ والنَّشاطِ، والَّتِي باتَتِ اليَومَ مَحظُورَةً عَلَينا، تُنكِرُ وَهْنَنا والغُضُونَ، فَلا تُبِيحُ لَنا وِصالَها إِلَّا مِن بابِ التَّذَكُّرِ، فَنَراها عَبْرَ شُحُوبِ العَينَينِ، ويَفصِلُنا عنها شَبَحُ الكُهُولَةِ والشَّيخُوخَةِ المُتَصَلِّبُ القَبضَةِ، القاسِي المَلامِح!
لَقَد حَرَّكَت مَعالِمُ قَريَتِهِ في نَفسِهِ شُعُورًا عَمِيقًا، فَنَغَرَت جِراحٌ عَمَّرَها الزَّمَنُ وما أَشابَها، ولِلأَرضِ الأُمِّ في كُلِّ قَلبٍ رُكْنٌ حَصِينٌ لا تَقوَى عليه عُثَثُ الدَّهرِ، وأَرَجٌ ما لِشَمِيمِهِ عَدِيل. ثُمَّ أَليسَ في «التُّرابِ عِطرٌ لا تَعرِفُهُ حَوانِيتُ العَطَّارِين»، على ما قال مِيخائِيل نُعَيْمَة؟!
ولَقَد وَفَّى أَدِيبُنا هذه الأَفكارَ المَشحُونَةَ بِالوِجدانِ، والصُّوَرَ القَرَوِيَّةَ الَّتي تَنتَمِي إِلى حَمِيمِ ذِكرَياتِنا، حَقَّها مِنَ اللُّغَةِ المُترَفَةِ، المَشكُوكَةِ بِاللَّآلِئِ، وهذا عَيْنُ الأَدَبِ، فَالفِكرَةُ السَّامِيَةُ لا يَلِيقُ بِها إِلَّا أَغلَى الحَرائِرِ وأَزهاها.
فَلِلَّهِ هو، في ذِكرَياتِهِ المَرِيرَةِ، وفِيها الكَثِيرُ مِنْ طَعْمِ الخَيبَةِ، ولَوْعَةِ البُعْدِ عَنِ المَواطِئِ الحَبِيبَةِ، على أَنَّها جَمِيلَةٌ إِذ تُثِيرُ في النَّفْسِ حاشِيَتَها الرَّقِيقَةَ، وتَسمُو بِالأَفكارِ مِنْ دُنْيَوِيَّتِها إِلى أَشواقِها العُلَى، فَـ «أَطيَبُ الذِّكرَيَاتِ أَمَرُّها» كَما يَقُولُ الشَّاعِرُ اليَاس أَبُو شَبَكَة.
ويَختِمُ بِهذِهِ النَّجْوَى الرَّقِيقَةِ يُسارُّ بِها قارِئَهُ، وما أَطيَبَها:
«قَريَتِي،
ناهِيكَ بِقَريَتِي قَمَرًا!
أَلَا لَيتَما هذا القَمَرَ يَعُود؟».
***
«رِيفِيَّات»
سِفْرٌ غالٍ يَطلُعُ عَلَينا في مَواسِمِ الجَدْبِ السِّياسِيِّ المُطْبِقِ، والقَحْطِ الوَطَنِيِّ المُدْمِعِ، فَيُلَوِّنُ أَيَّامَنا بِذِكرَياتِهِ الدَّافِئَةِ، ويَرُدُّنا إِلى حِضْنِ قُرانا يَومَ كانت الطُّيُورُ تَملَأُ الفَضاءَ أَلحانًا، واليَنابِيعُ تُمَزِّقُ سَكِينَةَ الوِهادِ بِخَرِيرِها العَذْبِ، والعُهُودُ كَلِمَةٌ تُرْعَى، والمَواثِيقُ نَخْوَةٌ وإِباء.
هي لَوحاتٌ مِن ذلك الزَّمَنِ الدَّافِئِ، تُجَسِّدُ القَريَةَ بِتَقالِيدِها ونَماذِجِها البَشَرِيَّةِ الَّتي انقَرَضَت أَو…
مِنَ الوَلَّادَةِ وفَرَحِ ما تُخرِجُ إِلى نُورِ الحَياةِ، وطُقُوسِ الحَدَثِ الجَلَل..
إِلى الفَلَّاحِ اللُّبنانِيِّ الأَصِيلِ وعُمْقِ الوَفاءِ بَينَهُ وبَينَ أَنعامِهِ، يَبلُغُ حَتَّى «بُكاءِ الشِّياةِ الَّذي يُرْمِضُ الضُّلُوع»..
إِلى الحَصادِ وحَنِينِ النَّوارِجِ والعَواطِفِ المُستَعِرَةِ والأَشِعَّةِ المُتَراقِصَةِ على السَّنابِلِ الذَّهَب..
إِلى الرَّاعِي وشَبَّابَتِهِ النَّائِحَةِ على المُنحَنَى الأَخضَرِ، والقَطِيعِ المُكِبِّ على أَعشابِ السَّفْحِ وأَعبابِ البُطْمِ والسِّندِيانِ بِـ «مِرْياحِهِ وثَناياهُ وجُذعانِهِ وطُليانِهِ»..
إِلى النِّسوَةِ حاضِناتِ الأَسرارِ وَ «إِذاعاتِ» القُرَى..
إِلى «تَرْبِيعِ الجَرَسِ وَقَيْمَةِ المَحْدَلَةِ»، وَ «المَراجِلِ» المَمهُورَةِ بِالبَراءَةِ والفُرُوسِيَّةِ الأَنُوف..
إِلى مَلحَمَةِ الاغتِرابِ الكُبرَى ارتَسَمَت بَعضُ فُصُولِها في «أَمِينٍ» وما خَلَّفَ وَراءَهُ مِن حُلْمٍ وَشَّحَتْ ذَوائِبَهُ دَواهٍ، ونَزَّتْ جَوارِحُ وَفِلْذاتُ فُؤَاد..
إِلى حِسانِ الأَعْرُبِ الرُّحَّلِ يَبذُرُونَ في المَطارِحِ الخَصِبَةِ طَرَبَ العَيشِ ولو على شَظَفٍ، والهُيامَ الكاوِي في حَنايا فِتْيَةٍ يَتَوَثَّبُ الشَّبابُ في جَوارِحِهِم، ويَبرُقُ على جِباهِهِم شَمَمُ الرِّيفِ..
كُلُّها، هذهِ المَشاهِدُ الحَمِيمَةُ، والوُجُوهُ الأَلِيفَةُ، أَورِدَةٌ في جَسَدِ جَبَلِنا الأَشَمِّ جَفَّ نَجِيعُها أَو كادَ، وتَنَكَّرَت لَها حَضارَةُ العَصْرِ غَرَّبَتْ، على جَناحِ العِلْمِ، في غَيرِ دُنيا وَعَبْرَ غَيرِ تَطَلُّعات..
حَسبُنا مِنها، هذهِ الصُّوَرِ الشَّاحِبَةِ، أَنَّها ذُخْرٌ مِنْ تُراثٍ أَلِيفٍ حَفِظَهُ لَنا، مِنَ الضَّياعِ والتَّلَفِ، كِبارٌ كَأَدِيبِنا وَمارُون عَبُّود وَأَنِيس فرَيْحَة ويُوسُف حَبشِي الأَشقَر، وغَيرِهِم مِمَّنْ يَضِيقُ عَنهُمُ التَّعْداد.
***
لِلغَزَلِ إِطلالاتٌ في هذهِ الـ «رِيفِيَّاتِ»، يَختَتِمُ بِها كاتِبُنا الكَثِيرَ مِن مَقطُوعاتِهِ، فَتَأتِي كَثُمالَةِ الكَأسِ، وذُروَةِ الوِصالِ، شَهِيَّةً تَترُكُ الخَدَرَ في الشَّغافِ، وتَحنِي الأَهدابَ في سَفْرَةِ حُلْم.
هذا الفَنُّ الرَّقِيقُ الَّذي يَتَوَكَّأُ على بَساطَةِ اللُّغَةِ، لُغَةِ القَلبِ، وعَفْوِيَّةِ الأَحاسِيسِ، ورِقَّةِ الخَيالِ، نَجِدُهُ، عِندَ كاتِبِنا، في حُلَّةٍ مُلُوكِيَّةٍ، ولُغَةٍ عالِيَةِ المَنافِ، ما أَعاقَتها رَصانَتُها، وقُوَّةُ بَلاغَتِها، وشُمُوخُ تَعابِيرِها، عن مُخاطَبَةِ الأَفئِدَةِ بِلُغاها، ودَغْدَغَةِ العَواطِفِ بِكَلِمٍ حَيٍّ نابِضٍ تَخالُهُ مِن تَوَرُّدِ الشَّرايِين.
يَقُولُ، في مَقطُوعَتِهِ «الحَصادُ في قَريَتِي»:
«وشَيْماءُ لاقِطَةُ السَّنابِلِ، يَستَفِزُّكَ نَوْرُ بَهارٍ يَتَفتَّقُ على مَساحِبِ خدِّها، كَأَنَّهُ جَذْوَةُ اللَّهَبِ […]، ما خَطَرَتْ إِلَّا وأَفْغَمَ المَكانُ، وذَرَّ النَّيْرُوزُ قَرْنَهُ، عَنْبَرِيَّةُ النَّفَسِ كَأَنَّكَ فَضَضْتَ لَطائِمَ المِسْكِ في أَردانِها.
أَيُّها المارُّ بِمَضارِبِ شَيْماءَ السَّحِيقَةِ مِنْ ثُغُورِ حَماةَ، سَأَلتُكَ أَنْ سَلِّمْ على قُمْرِيَّةٍ أُشْرِبَ قَلبِي حُبَّها يافِعًا وَلا… وكاتِمْها ذاتَ صَدرِي ودُخْلَتِي بِأَنَّنِي رَغِبْتُ عُمرِي لَو أَدرَجَتْنِي لُقاطَةً في حِضْنِها».
أَن يَرسُمَ العُذُوبَةَ ذائِبَةً في وِجدانٍ مُتَفَجِّرٍ، مُتَجَسِّدَةً عِباراتٍ مَرصُوصَةً مَرصُوفَةً، أَين مِنْ سُكْرِها سَكْرَةُ النَّبِيذِ المُعَتَّقِ، يَعنِي أَنَّ القَلَمَ قَلَمُ عَرُوفٍ يُدرِكُ جَيِّدًا لُعبَةَ الجَمالِ، وكَيفِيَّةَ الخَلْقِ السَّوِيّ.
تَتَوَزَّعُ أَوشِحَةُ الحُسنِ، وصِناعَةِ البَهارِ، على مَدَى صَحِيفَتِهِ مِن دُونِ أَن تُرهِقَها، ولكِنَّها تَعُمُّ في خَواتِمِ مُقَطَّعاتِهِ، وتُلازِمُها، بِتَصمِيمٍ ذَكِيٍّ مِنهُ وقد فَقِهَ عَن أَثَرِ ثُمالَةِ الكَأسِ في الجَوارِحِ والذَّاكِرَة.
فَأَن تَطوِي مَقالَتَهُ، هو أَنْ تَحمِلَ الشَّهْدَ زادًا، والعَبِيرَ، وأَنْ تَتَلَفَّتَ وَراءً كَما المُدْنَفُ، راحِلًا عَن دِيارِ الحَبِيب!
ولِلَّهِ ما أَعذَبَهُ، وقَد شَبَّتْ نارُ التَّذَكُّرِ في حَناياهُ، مُستَرجِعًا مِنَ الماضِي صُورَةَ مَن كانَت قُرَّةَ العَيْنِ، وَلَهْوَ الصِّبا، فَإِذا اليَراعُ على لَهَبِ الشَّوقِ الكامِنِ، واللَّهفَةِ على شَبابٍ وَلَّى، ضَمَرَت بَعدَهُ المَفاصِلُ وَما ضَمَرَ الحَنِين.
ونَسُوقُ مِثالًا، مِنْ «راعٍ وَقَطِيعُ حُبّ»، هذا البَيدَرُ العامِرُ الغامِرُ:
«أَرغَبُ عَنِ الكَلامِ يا سَلْمَى،
فَعَينِي مَطرُوفَةٌ إِلى حُسنِكِ
وَقَد حَنَنْتُ واستَوقَدَنِي الشَّوقُ إِلَيكِ،
فَإِيَّاكِ أَن تَستَكثِفِي ظِلِّي،
وَتَرمِينَنِي في مَهادِلِ مَصايِرِي ومَرجُوِّي
يَغتابُنِي الضَّجرُ،
ويَطوِي صَحِيفَتِي في قَلبِهِ القَمَر!».
هذا الأَدِيبُ الَّذي تَتَجَلبَبُ لُغَتُهُ الصَّرامَةَ، وتَرسُمُهُ لِلقارِئِ شَيْخًا وَقُورًا، وإِمامَ لُغَةٍ، زادُهُ وعَتادُهُ المَعاجِمُ ومَراجِعُ الصَّرْفِ والنَّحْوِ، هو، عِندَ كُلِّ مَوجَةِ حَنِينٍ، شاعِرٌ رَقِيقٌ تَتَلَوَّى حُرُوفُهُ، كَأَنَّ مِدادَها الوَجْدُ، تَلَوِّي الجَوارِحِ كَواها الأُفُول.
يَقُولُ، في مَقطُوعَتِهِ «مَوْتُ حُلْم»:
«كُلَّما خَلَدْتُ إِلَيكَ يا قَلبِي، وأُجِدْتُ إِلى خَوابِيكَ اهتاجَنِي شَوقٌ بارِحٌ وحَنَنْتُ إِلى أَيَّامٍ خَوالٍ نَمَّتْ عَلَيها عَبَراتِي، تَفضَحُ سِرًّا مُضْمَرًا أَلِيفَ شَجَنٍ لَذَعَ شَغافِي، فَأَهِيمُ في كُلِّ وادٍ، وَلا أَعُودُ مِنْ فَرْطِ صَبْوتِي أَفِيق […].
أَيْ قُمْرِيَّةً في شُبَّاكِي، ناشَدْتُكِ اللهَ، أَلَّا أَسْمَعْتِني أُغرُودَةَ الحَبِيب؟!».
فَهَل لِخَلْقٍ أَدرَكُوا أُعجُوبَةَ العَرَبِيَّةِ، ومَفاتِنَها الَّتي لا تَنضُبُ، أَن لا يَنتَشُوا والأَجفانُ مُسْبَلَةٌ على حُلْمٍ سَكَبَتهُ يَراعَةٌ سِحْرًا يَفعَلُ في الفُؤَادِ فِعْلَ الخَمرَةِ المُقَطَّرَةِ مِن عَناقِيدَ ذَهَّبَتها شَمسُ الصَّيفِ السَّخِيَّةُ في تِلالِنا وقد وَشَّحَها نَدَى الأَسحارِ، وداعَبَتها نَسائِمُ الغَدَوات؟!
على أَنَّنا نَترُكُ الشَّاعِرَ «جَرِيرًا» يُؤَاسِيهِ، فَهُما مُتَيَّمانِ على دُرُوبِ الجَوَى:
«وَوَجدٍ قَد طَوَيتُ يَكادُ مِنهُ ضَمِيرُ القَلبِ يَلتَهِبُ التِهابا»!
***
في مَقطُوعَتَيهِ الطَّرِيفَتَينِ «وَجْهُ الكَلامِ يا غُصْن!» وَ «أَتَقَطَّرُ دَمعَةً حَرَّاء»، ولِفَرْطِ وَلَعِهِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، يَذهَبُ في الصَّنْعَةِ مَذْهَبًا مُتَطَرِّفًا، مُتَجاوِزًا الاعتِدالَ، لَكَأَنَّ المَقالَةَ الَّتِي يُدَبِّجُ طِفلَةٌ دُمْيَةٌ مُحَبَّبَةٌ وهو الأَبُ المُوَلَّهُ بِها يُداعِبُها مِلْءَ شَوقِهِ، ما يُوجِعُ جَسَدَها الرَّخْصَ، ومَفاصِلَها اللَّيِّنَة. وهذا ما يَجعَلُهُ مَرْمًى لِسِهامِ المُتَرَبِّصِينَ، وإِنْ كان له مِنَ البَراعَةِ ما يَقِيهِ الكَثِيرَ مِن زَخَّاتِها، فَلا يَسقُطُ في مَهْوًى يَقَعُ فِيهِ مَن يَتَّخِذُ الصِّناعَةَ مَدَدًا ومِدادًا.
وتَطِيبُ له العَبَثِيَّةُ بَعدَ جَهامَةِ العَمَلِ الرَّصِينِ المَسؤُولِ، فَيَرُوحُ يَحشُدُ الجِناساتِ على أَنواعِها، مِنْ «نَعْمَ، نَعْماءُ، تُناعِمُ، نُعْمٍ، النِّعمةِ، النَّعيمِ، أنعَمْتُ، يُنْعِمُ، أَنْعَمَ، نِعمَ» إِلى أَخَواتِها «نَصَّبَتْ، انتَصَبَ، نُصْبٌ، نُصْبَ، تُناصِبُني، نصَبْتَهُ، نَصَبَتْني، ناصَبَني»، غَيرَ آبِهٍ بِنَقدٍ، مُحَدِّقًا إِلى الأَعالِي، لا تُرهِبُهُ صَواعِقُها، ناشِدًا رِفْعَتَها ولو هَشَّمَت بَعضَ أَردانِهِ أَرياحُها والأَعاصِير. لَكَأَنِّي بِهِ الأَعشَى الكَبِير قَيْس بِنْ ثَعلَبَة مُنَوِّهًا بِشِعرِهِ، صائِحًا:
«وَغَرِيبَةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكِيمَةً قَد قُلتُها لِيُقالَ: مَن ذا قالَها؟!».
أَم تُراها مِن بابِ «الفَنّ لِلفَنّ»، يَعرِضُ في مَجْلاها بَراعَتَهُ في انِتِقاءِ الوُجُوهِ المُتَعَدِّدَةِ لِلتَّعبِيرِ الواحِدِ، ثُمَّ دُرْبَتَهُ في تَنضِيدِها رَصِيعَةً لِلأَذواقِ الخاصَّةِ؟!
أَمْ هي شَطْحَةٌ مِن فَنَّانٍ استَخَفَّهُ إِغواءُ الضَّادِ فَراحَ يُمطِرُ الرِّقاعَ وابِلًا مِن عِشقِهِ اللُّغَوِيّ؟!
قَد يَكُونُ في مُعجَمِهِ كَلِماتٌ عَصِيَّةٌ إِلَّا على قِلَّةٍ، لِأَنَّها، مُنذُ عُقُودٍ، باتَت خارِجَ الاستِعمالِ الأَدَبِيِّ اليَومِيّ – وهذا مِمَّا يَأخُذُه عَلَيهِ الكَثِيرُونَ -، وَخَشْيَةَ أَن يَبخَسَها الزَّمَنُ حَقَّها، ويَطوِيها في ظُلُماتِهِ، فَنَخسَرَ بِفُقدانِها قِطعَةً نادِرَةً مِن تُراثِنا، فَإِنَّهُ، بِحُنكَتِهِ العَرِيضَةِ راحَ يُطَوِّعُها، ويَصقُلُها، ويَشتَقُّ مِنها، فَإِذا هي، في نُصُوصِهِ، جَواهِرُ برَّاقَةٌ غَفَلَ عَنها القَوم. وَلا غَرْوَ فَـ «الذَّهَبُ لا يُنالُ إِلَّا بَعدَ الغَسْلِ والتَّصفِيَةِ الشَّدِيدَين»، أَخْذًا بِقَولِ يَقُولِ الرِّوائِيِّ العالَمِيِّ لِيُو تُولْستُوي.
وفي المَعْرَضِ عَينِهِ نُثَنِّي على ما قالَ أَمِين نَخلَة: «إِنَّ الأَلفاظَ بِمَنازِلِها تَجْمُلُ وتَقْبُح»؛ وَنُورِدُ القَولَ الآتِي لِعَبد القادِرِ الجَرَجانِي:
«… تَشتَرِكُ الجَماعَةُ في الشَّيءِ المُتَداوَلِ وَيَنفَرِدُ أَحَدُهُم بِلَفظَةٍ تُستَعذَبُ أَو تَرتِيبٍ يُستَحسَنُ أَو تَأكِيدٍ يُوضَعُ مَوضِعَهُ أَو زِيادَةٍ اهتَدَى إِلَيها دُونَ غَيرِهِ فَيُرِيكَ المُشتَرَكَ المُبتَذَلَ في صُورَةِ المُبتَدَعِ المُختَرَع»(2).
ومِمَّا لا رَيبَ فِيهِ أَنَّ صاحِبَنا لا تَستَهوِيهِ الدَّربُ الَّتي تَغُصُّ بِالسَّابِلَةِ، ولا تَشُوقُهُ السُّفُوحُ المُنبَسِطَةُ، ولا تَسبِيهِ الغادَةُ السَّهلَةُ المَنالِ، فهو أَمِينٌ لِمُعَلِّمِنا الكَبِيرِ مارُون عَبُّود في قَولِه: «أَللَّفظَةُ كَالمَرأَةِ، مَتَى كَثُرَ عُشَّاقُها لا تَبقَى تِلكَ العَقِيلَةَ المَصُونَةَ»(3).
وَهُوَ، مَتَى تَنَكَّبَ القَوْسَ، فَقُلْ طَرائِدُ سِمانٌ، فَما أَعيَتهُ مَجاهِلُ العَرَبِيَّةِ يَومًا، ولا أَخَذَتهُ مِنها رَهْبَةٌ، وهو الَّذي ساكَنَها بِهُيامِ عاشِقٍ، مَدَى عُمرِه المَدِيد.
أَمَّا الجَمالِيَّةُ في تَعابِيرِهِ، وتَرَفُ المَطارِفِ في صَوْغِ إِنشائِهِ، على صُوَرٍ حَيَّةٍ، في سَبْكٍ مَرْصُوصٍ وَنَغَمِيَّةٍ ضافِيَةٍ، فَقَد أَوصَلاهُ في سَعيِهِ إِلى القِبْلَةِ المَنشُودَةِ، بِرَكْبٍ سَلِيمٍ مُعافًى.
إِنَّهُ لَها، هذه العَقَبَةِ الكَأْداءِ، يَجُوزُ عَبْرَها شِعابًا مُضنِيَةً، ونَظَرُهُ إِلى الذُّروَةِ ما اعتادَ إِلَّا نَسائِمَها العَلِيلاتِ، وعَبِيرَها البِكْر..
يُذَكِّرُنِي هذا الفاتِحُ مَجاهِلَ في لُغَةٍ شاسِعَةٍ بِأَجرَأ مُتَسَلِّقٍ لِلجِبالِ في العالَمِ، الإِنكلِيزِيِّ «جُورج لِي مالُورِي 1886 – 1924»، الَّذي سُئِلَ مَرَّةً عَن سَبَبِ إِلحاحِهِ في تَسَلُّقِ قِمَّةَ جَبَلِ «إِفرست» – وهِيَ أَعلَى قِمَّةٍ في العالَمِ، في جِبالِ هِمَلايا، وتَرتَفِعُ عَن سَطحِ البَحرِ 8848 م – بِالرُّغمِ مِنَ الأَخطارِ الكَبِيرَةِ المُحدِقَةِ بِهذهِ المُغامَرَةِ، فَكانَ جَوابُهُ: «لِأَنَّها هُناك»..
تُراهُ، صاحِبُنا، رَكِبَ التَّحَدِّي لِكَي لا تَبقَى كُنُوزُ لُغَتِنا «هُناك» حَتَّى يَبتَلِعَها الجَفاءُ، فَتُصبِحُ، مَع مُرُورُ الزَّمَنِ، مِنْ أَحافِيرِ التَّارِيخ؟!
وهو، مَهما قِيلَ في لُغَتِهِ، صاحِبُ كَنْزٍ مِنَ الأَلفاظِ الَّتِي يُنَزِّلُها في أَماكِنِها فَلا تُدافِعُها هُناكَ لَفظَةٌ أُخرَى، إِذ هي مُطابِقَةٌ لِلحالِ، مُتَناغِمَةٌ مع المَقالِ، لا هُجْنَةَ فِيها ولا تَتَطُّفُلَ على المَعنَى المَقصُود. ومِن مَيِّزاتِهِ الَّتي يُشهَدُ لَهُ بِها عَدَمُ التَّكرارِ لا في المَقالَةِ الواحِدَةُ وَحَسْبُ بَل في المَدَى الواسِعِ لِلكِتاب. ولو جَمَعنا تَعابِيرَهُ واشتِقاقاتِهِ وابتِكاراتِهِ لَخَرَجَ إِلى النُّورِ مُعْجَمٌ جَمالِيٌّ يَستَوِي بِأُبَّهَةٍ إِلى جانِبِ رَصِيعَةِ الشَّيخِ ابراهِيم اليازِجِيِّ «المُتَرادِفِ والمُتَوارِد»، وكان سَنَدًا مَكِينًا لِكُلِّ طامِحٍ في كِتابَةٍ سَلِيمَةٍ راقِيَة. إِنَّهُ البَيْدَرُ العامِرُ بِالحُبُوبِ الحَبالَى، لا يَضِيرُهُ أَن تَنقُدَ مِن خَيراتِهِ طُيُورُ الأَرضِ، فهو لا يَنضُبُ، ويُفرِحُهُ العَطاء.
في الخُلاصَةِ، تَعابِيرُ صَدِيقِنا مَوزُونَةٌ بِمِيزانِ جَواهِرِيٍّ حاذِقٍ، ودِيباجَتُهُ مُفَصَّلَةٌ على «هِنْدازَةٍ» خاصَّةٍ بِهِ ما عَرَفَتِ السَّاحَةُ الأَدَبِيَّةُ أَماثِلَ لَها، فَمَنتُوجُهُ، بِحَقٍّ، لَيسَ «إِيجازًا مُخِلًّا» وَلا «تَطوِيلًا مُمِلًّا»، بَل هو واحَةٌ لِلفِكرِ شَذِيَّةُ المَدَى، شَهِيَّةُ الثَّمَرِ، رَخِيَّةُ الظِّلال!
***
وللهِ دَرُّهُ، كَيفَ تَتَواءَمُ في نَصِّهِ، تِلقائِيَّةُ الوِجدانِ، وعَفْوِيَّةُ العاطِفَةِ، وصِدقُ البَثِّ، والشِّعرِيَّةُ الرَّاقِيَةُ، واللُّغَةُ العالِيَةُ المَنافِ، والأُسلُوبُ المَجدُولُ جَدْلَ الزَّرَد.
وَيا مَرارَةَ العُمرِ المُوَلِّي تَمُدِّينَ شُحُوبَكِ في غَضارَةِ الأَيَّامِ، فَالشَّمسُ إِلى مَغِيبٍ، والقافِلَةُ طَيْفٌ في الأُفُقِ النَّائِي اختَفَت مَلامِحُهُ فَغَدا سَوادًا في الأَدِيمِ البَعِيد. إِنَّكِ، في قَرارَةِ أَدِيبِنا ذِكرَى حارِقَةٌ، وخَيالُ شَجَرَةٍ ما تَزالُ جُذُورُها تَحفِرُ عَمِيقًا في الصَّدْرِ، فَتُخَلِّي حُرَقًا وأَشواقًا. نَقرَأُه يُناجِي، في «حُبٌّ وَذَهَبٌ أَصفَر»:
«… وَيا شَجَرَةً غَرَسَها القَدَرُ في بُستانِ وَحْدَتِي، لَقَد طَوَّفْتُ بِعَدْنِكِ طَوِيلًا، ولا زِلْتُ عند مَعاقِدِ شَعْرِكِ الَّذي أَوْرَقَ ومَدَّ أَغصانَهُ في صَدرِي، فَكَأَنَّما جَداؤُهُ أَن أَبقَى في اللَّاذَةِ ما أَفرَغَ اللهُ عَلَيَّ صَبرًا، أُهَدْهِدُ مِهادَكِ حَتَّى نَتْرَفَ مِنَ النَّشْقِ والضَّمِّ، ويَطلُعَ عَلَينا الفَجرُ بِلُسْنِ البَلابِلِ رَبِيعًا لا يَكُفُّ عن الصِّياح!
عِندِي في كِتْماتِ التَّهْيامِ أَنَّكِ في سَمائِي بَدْرًا ذَهَبَ سِمْعُهُ في النَّاسِ لا يَعرُوهُ أُفُولٌ، ولا يَخفُتُ لَهُ ضِياء!»
وَأَينَكَ مِن خَواتِمِهِ، هذا الفَذُّ في العَطاءِ الثَّمِين. ثُمالاتٌ مُسكِرَةٌ، مُقَفِّلاتٌ لِجُلِّ مَقطُوعاتِهِ، تَترُكُ القارِئَ في ذُهُولٍ عَن نَفسِهِ، وقد امتَلَأَ صَدرُهُ بِفَيضِ المَشاعِرِ تُثِيرُها إِيحاءَاتٌ تَطالُ أَعماقَ النَّفسِ، مِن بَلاغَةٍ سَلِسَةٍ، ووِجدانٍ مُتَضَرِّمٍ، وذِكرَياتٍ دافِئَةٍ يَستَلُّها مِن ضُلُوعٍ أَضناها أُفُولُ شَبابٍ، وخُمُودُ صَبَواتٍ في لَيالِي الهَوَى المِلاح.
يَقُول في «عِشقُ دَجاجَةٍ مِن الرِّيف»:
«وتَبقَيْنَ، يا خَضرائِي، أَبَدًا رَنَّةَ أَقلامِي، وكِيمِياءَ أَحرُفِي وجَوايَ في هذا الكَونِ العَصِيب!
أَنْ تَحمِلِينِي على جادَّتِكِ،
وأَتَسوَّمَ بِسيْماكِ،
فَقَد وَسِعَنِي مِنكِ في هَواجِسِي
الزَّهرُ ثَمَرُهُ، والبُلبُلُ غَرادَتُهُ!
وهاتِ يا لَيالِي قَمْراءَ ضَوْعَ الياسِمِين!».
***
لَهُ اللهُ، هذا التَّقِيُّ، الوَرِعُ، المُتَهَجِّدُ لِرَبِّهِ ساعِيًا على دَرُوبِهِ، لا يُغرِيهِ بَهْرَجٌ، ولا يَجنَحُ لِضلالَة. أَلَا حَسْبُهُ مِنَ الصَّلاةِ صَرخَةُ قَلبِهِ المُؤْمِن، يُطلِقُها حارَّةً صادِقَةً في وَلِيدَتِهِ «نافِلَةٌ رِيفِيَّة»:
«قَضِّبْ أَغصانِي يا أَللهُ، واعْقِدْ لِي في حاضِرَتِكَ جِوارًا […].
رَبِّي!
نِعْمَ ما رَحمَتُكُم، وما أَجْمَعَ بَيادِرِي لِلحِصادِ لَو تَأخُذُونَ بِضَعافَتِي!».
***
كَلامٌ مِنَ القَلب
«كَلامٌ مِنَ القَلب»، سِجِلٌّ وَرْدٌ مِنَ المَوَدَّاتِ الصَّافِيَةِ، كَرَّسَها صاحِبُنا في مُفَلَّذاتٍ، ومَجامِعِ فَصاحَةٍ وبَلاغَةٍ، فَوَفَّى المَضامِينَ حَقَّها، وأَلبَسَها مَطارِفَ زاهِيَةً مِن حَرائِرِهِ النَّادِرَةِ، وَضَخَّ في عُرُوقِها نُسْغًا حَيًّا مِن مَعِينِهِ الَّذي لا يَدفُقُ إِلَّا كَوْثَرًا.
هو يَتَناوَلُ أُدَباءً ومَقاماتٍ في المُجتَمَعِ مَرمُوقَةً، فَلا يُطْرِي عَبَثًا، وإِنَّما يُضِيءُ مَكامِنَ التَّمَيُّزِ ولُمَعَ الجَمالِ في المَوضُوعَةِ الَّتي يَطرُقُ، على أَنَّهُ لا يَسعَى إِلى الهَناتِ يَتَرَصَّدُها بِغِلِّ الحاقِدِ والحَسُودِ، يَكشِفُها ويُجَرِّحُ مُتَشَفِّيًا، فَما هذه جِبِلَّتُهُ، ولا طابَ لَهُ يَومًا هَزَجٌ على خَرائِب.
وَيَستَدعِي الجَمالُ الجَمالَ، والإِعجازُ الإِعجازَ، فَإِذا كَلِمَةٌ لِلشَّاعِرِ الكَبِيرِ الدّكتُور جُوزف صايِغ، تَنوِيهًا بِأَدِيبِنا، تَنضَمُّ إِلى سِفْرِهِ النَّفِيسِ، فَتَتَرَبَّعُ مَعَهُ على القِمَّةِ المُضِيئَة. فَلِلَّهِ ما أَروَعَ أَنْ تَجتَمِعَ النُّسُورُ على الذُّرْوَةِ، وأَن يُناغِي كَوْكَبٌ أَخاهُ في مَتاهَةِ الفَلَك.
ونَستَشهِدُ على رَأيِنا في لُغَةِ «مهَنَّا» بِرَأْيٍ لِـ «الصَّايِغِ» حَيثُ قالَ:
«صَعْبَةٌ؟ طَبْعًا. وَمَتَى كانَ الجَمالُ سَهْلًا والفَنُّ يُبِيحُ نَفسَهُ إِلَّا لِلمُتَمَرِّسِين. لا يَدخُلُ الهَيكَلَ إِلَّا المُؤْمِنُ، المُتَوَرِّعُ، ولا يَأخُذُ البَرَكَةَ أَوَّلُ القادِمِين».
وَقالَها المُتَنَبِّي: «فَصَعْبُ العُلَى في الصَّعْبِ وَالسَّهْلُ في السَّهْلِ»(4).
وَلَقَد تَمُرُّ بِصِياغَةٍ لَهُ، فَتَتَمَهَّلُ بِنَظَرِكَ، تَستَقطِرُ الحُرُوفَ شَهدَها، وَتَعجَبُ لِإِبداعِ السَّبْكِ، ورِقَّةِ الأَلفاظِ، والجَرْسِ المُتَهادِي في سَمْعِكَ صَدًى عَذْبًا لِعِبارَةٍ مَشدُودَةٍ كَوَتَرٍ، فَتَأخُذُكَ قُشَعرِيرَةٌ، وَيَشِيلُكَ انفِعال. إِنَّهُ البَدْعُ تَضافَرَت في خَلقِهِ عَوامِلُ المَوهِبَةِ في سَهَرِ اللَّيالِي، ما طَغَى مِنها عُنصُرٌ على آخَرَ، بَل تَكامَلَت في تَناسُقٍ (Harmonie) مُذهِلٍ، كَما تَناغَمَ حَفِيفُ سَماءٍ وسَقسَقَةُ بُلبُلٍ وَخَرِيرُ نَبْع.
نَقرَأُهُ، في كَلامٍ لَهُ على الشَّاعِرَةِ الدّكتُورَة يُسْرَى البِيطار:
«فَيا شاعِرَةً يَطِيبُ لَنا ضَرْبُ خِيامِنا في نُزُلِها الدَّاهِشَةِ، مع إِطلالاتِكِ البَرِيعَةِ عَرَفْنا سَمْحَ الضَّيافَةِ، وسَبائِكَ الذَّهَب!»
***
خَطَرات
بَرِيْعٌ كاتِبُنا، رَصِيفٌ في تَطوِيعِ اللُّغَةِ، ومُجانَسَةِ الأَلفاظِ، لِخِدمَةِ الفِكرَةِ وإِخراجِ الصُّورَةِ في أَبهَى مَظهَرٍ، فَإِذا الرَّمزِيَّةُ بِالكِساءِ الأَنسَبِ، والإِبلاغِ الأَقرَبِ، على الطَّرِيقِ الأَسَدّ. نَقرَأُهُ في «غابَةٌ تَبكِي»:
««لِغَمَّازَتَيْ» عُصفُورَتِي
خَناجِرُ وَرْدٍ،
تَعبَثُ بِسِياجِ أُغنِياتِي
فَأَغتَنِي بِزَغَبِ صَدْرِها
المُوْرِقِ بِأَلفِ رَبِيعٍ
وعَبَق!».
فَالخَناجِرُ هي فِعْلُ الغَمَّازاتِ، والوَرْدُ هو نَسِيجُها، والأُغنِياتُ هي الهَناءَةُ الَّتِي بَلبَلَها الوَلَعُ بِحَبِيبٍ مُوْرِقٍ صَدرُهُ بِأَلفِ رَبِيع..
هي الشِّعرِيَّةُ الضَّافِيَةُ اكتَمَلَت عُدَّتُها فَأسكَرَت، في صُورَةٍ تَضافَرَت في بَهائِها طَراوَةُ المُفرَداتِ، والإِيقاعُ العَذْبُ، والإِحالَةُ الذَّكِيَّةُ على ما في الطَّبِيعَةِ مِن بَهاء.
وَمَن قالَ إِنَّ هذا اللُّغَوِيَّ الرَّزِينَ لا يَكتَوِي بِدَلالِ المِلاح؟!
ولِلَّهِ ما أَرَقَّهُ، يَذُوبُ في بَوْحِهِ وَجَواهُ، وَيَشتَهِي.. ولكِنْ بِتَعالِي المُتَرَفِّعِ، ونُعُومَةِ النَّسِيمِ البَلِيل. فَلا ضَرَمَ في حَواسٍّ مَشبُوبَةٍ، فَالنَّارُ المُستَعِرَةُ سُرعانَ ما تَستَحِيلُ إِلَى رَماد. يَقُولُ في «القَمَر»:
«يا زَهرَةَ القَرَنْفُلِ
ذَوَّبَنِي الوَجْدُ…
في خاطِرِي:
لَو أَنِّي في سَرِيرِها
القَمَر!».
في النَّفسِ رَغبَةٌ جامِحَةٌ بِسَوْقِ أَمثِلَةٍ أُخرَى، وما أَكثَرَها، وكُلُّها تُغرِي بِالقِطافِ، ولكِنَّ المَجالَ ضَيِّقٌ، ومِنَ الإِجحافِ تَوجِيهُ القارِئِ، فَلْنَدَعْهُ يَتَخَطَّرُ في الرِّياضِ، ويَنتَقِي مِن كُلِّ خَمِيلَةٍ ما يَطِيبُ لَهُ مِن أَزاهِرَ، ومِن كُلِّ شَجَرَةٍ ما تَهَبُ مِن أَعْسال..
***
مُختَتَم
أَلأَدَبُ الحَيُّ هو الَّذي يَعبُرُ الأَجيالَ، وبِقَدْرِ ما يَبقَى حاضِرًا في ضَمِيرِ الجَماعَةِ بِقَدْرِ ما تَكُونُ صِحَّتُهُ سَلِيمَةً، لِأَنَّ عَجَلَةَ الزَّمَنِ سَتَطوِي في النِّهايَةِ كُلَّ دابٍّ وجامِدٍ، «فَمَا قَبْلُ وَمَا بَعْدُ مَصِيرُهُ النِّسيَان»(5).
وأَنتَ مَعَهُ، قارِئًا مُدرِكًا عَظَمَةَ الكِتابَةِ الحَيَّةِ، في رَصِيعَتِهِ المُدَبَّجَةِ بِإِتقانِ اللُّغَوِيِّ البارِعِ، والأَدِيبِ المُرهَفِ، يَستَغرِقُكَ اِئتِلافٌ عَجِيبٌ بَينَ وَعيِكَ لِتَقانَةِ اللُّعبَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وخَدَرِكَ في مُوسِيقَى التَّعابِيرِ المَرصُوفَةِ، وانسِياحِكَ في خَيالٍ تَستَحِثُّهُ الصُّوَرُ المُتَوالِيَةُ على السُّطُور.
وحِينَ تَمُرُّ بِنَدْرِ القَوْلِ في مُحبُوكاتِهِ لا تَنفِرُ عن صَحِيفَتِهِ، ولا يُمِضُّكَ استِبهامٌ، فَالقَولُ لِباسٌ مُحْكَمُ التَّفصِيلِ، كامِلُ الأَناقَةِ، لِمَقُولٍ نابِضٍ حَياةً وجَمالًا.
وَناهِيكَ مِنْ مُستَملَحِ الصِّياغَةِ، والتَّشابِيِهِ، والمُعْجَمِ الرَّاقي. وهو، إِنْ أَغْرَبَ في مَواضِعَ، فَإِغرابُهُ يَلِجُ النَّفسَ في رَكْبٍ سَلِسٍ رَخِيٍّ مِنَ التَّعابِيرِ المُبتَكَرَة.. ويَبقَى الرَّجُلُ سَيِّدَ الكَلامِ، وفارِسَ الحَلبَةِ، وأَمِيرَ الأَدَب.
وَيَعْيا في مَسعاهُ مَن بات وُكْدُهُ التَّفتِيشَ، في إِبداعاتِهِ، عَن هَناتٍ لُغَوِيَّةٍ، أُسلُوبِيَّةٍ أَو نَحْوِيَّةٍ، فَصاحِبُنا أُستاذٌ في هذا الشَّأْنِ، وقَلَمُهُ مَنارَةٌ لِلأَقلامِ النَّاهِدَةِ إِلى مَكانٍ لَها في دُنيا الخَلْق.
وَإِمَّا يَقذِفَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِحَصاةٍ، فَالقِمَمُ لا يَرُودُها إِلَّا الأَنجادُ الصِّيْدُ، ويَبقَى العاجِزُونَ على حَصْباءِ الوادِي يُهَوِّمُونَ في خُمُولِهِم والنُّعاس.
وإِنَّهُم، هَؤُلاءِ جَمِيعًا، في إِنكارِهِم مُبتَكَراتِهِ العَصِيَّةَ على التَّقلِيدِ، إِنَّما «يَنفُخُونَ في غَيرِ ضَرَمٍ».. وَبِئْسَ الخاسِئُون!
ثُمَّ نَأْسَى لَهُم، ونَستَذكِرُ الشَّاعِرَ الياس فَرْحات:
«يا نافِخَ القَمَرَ الزَّاهِي لِيُطفِئَهُ تَفنَى قِواكَ ولا يَدرِي بِكَ القَمَرُ»!
صاحِبُنا أَدِيبٌ عَزَّ نَظِيرُهُ، ونَجْمٌ ثاقِبٌ اختَرَقَ فَضاءَ العَرَبِيَّةِ لامِعًا كَالشَّمسِ، وأَمثالُهُ لا يَتَكَرَّرُونَ إِلَّا في فَتَراتٍ مُتَباعِدَةٍ في الزَّمَنِ قَد تَتَعَدَّى القُرُون.
ومع التَّقدِيرِ الكَبِيرِ، والإِعجابِ بِما يُبدِعُ في العَرَبِيَّةِ، فَإِنَّنا نَأسَى لِجُهُودِهَ المُضنِيَةِ، وسَهَرِهِ الدُّؤُوبِ، كَي يَخرُجَ البِناءُ مِن بَينِ يَدَيهِ شامِخًا يَتَحَدَّى الحِقَبَ، خالِدًا خُلُودَ حَرفِنا المُضِيءِ، كما نُشفِقُ مِن أَيَّامِنا هذه، حَيثُ اجتاحَتنا وَسائِلُ العَصرِ بِمُغرِياتِها الَّتِي لا تُقاوَمُ، والَّتِي حَرَفَتِ العُيُونَ عَنِ الجَمالِ الحَقِيقِيِّ الكامِنِ في الأَدَبِ الرَّاقِي والشِّعرِ الشَّفِيفِ، وجَعَلَت أَمثالَهُ يُجابِهُونَ السَّيفَ الصَّارِمَ بِقَضِيبِ الخَيزُرانِ الطَّرِيّ.
ولكِنْ..
«نُعَلِّلُ النَّفسَ بِالآمالِ»، فَلَئِنْ أَجهَضناها فَإِنَّنا نَئِدُ كُلَّ تَوْقٍ إِلى جَمالٍ أَدَبِيٍّ خالِصٍ، ونَحكُمُ على عَرَبِيَّتِنا المَفخَرَةِ بِالضُّمُورِ والعِلَلِ القاضِيَة.
فَيا صَدِيقَنا
قُرَّ عَيْنًا، فَإِنْ تَجاهَلَتكَ أَيَّامُنا العِجافُ، وشَبِيبَتُنا اللَّاهِثَةُ وَراءَ حُلْمٍ قَد يَكُونُ في تَلافِيفِهِ العَدَمُ، فَلَن يَطْمِسَ عَلَيكَ نِسيانٌ في قابِلٍ، ولَن تُسدَلَ على أَدَبِكَ سُتُورُ الإِهمالِ، فَلَأَنتَ مَعْدِنُ خَيْرٍ وعَطاءٍ، أَصِيلٌ لا يَصدَأُ، ولُغَتُكَ مِن أَرُومَةٍ مُبارَكَةٍ جازَت قُرُونًا وبَلَغَتنا على صَحائِفِ كِبارٍ وَلَّوْا وبَقِيَ إِشعاعُهُم يُنِيرُ دُنيانا.
وإِنَّما وِجدانُكَ الغامِرُ حُرُوفَكَ رَنِيمٌ سَتَلتَقِطُهُ الآذانُ المُرهَفَةُ، وَ «الدَّهرُ نَقَّادٌ يَختارُ الجِيادَ» لِمَحافِلِ الإِبداعِ في كُلِّ زَمان..
وَإِنَّكَ لَباقٍ!
***
أَن نُحصِيَ، في هذه المُقَدِّمَةِ المُحَدَّدَةِ مَدًى وإِطارًا، كُلَّ المَزِيَّاتِ الأَدَبِيَّةِ والمَهاراتِ اللُّغَوِيَّةِ عِندَ هذا الكاتِبِ الفَرِيدِ، بِانتِقائِنا باقَةَ أَقاحٍ مِن حَقلِهِ المُتَرامِي تَستَغرِقُ جَمالاتِ هذا الحَقلِ وطُيُوبَهُ وأَطايِبَهُ..
نَقُولُ
إِنَّهُ سَعْيُ مَن يُفْرِغُ الدَّنَّ المُتْرَعَ في قَدَحِ شَراب. لِذا نَترُكُ لِلقارِئِ اللَّبِيبِ مُتعَةَ الكَشْفِ عَن خُدُورِ العِباراتِ المِلاحِ، والأَخيِلَةِ الصِّباحِ، عِندَ هذا المُبدِعِ الرَّمَّاحِ اللَّمَّاحِ، وَ«نَكتَفِي مِنَ القِلادَةِ بِما أَحاطَ بِالجِيْد»(6).
***
صَدِيقَنا…
رِيفِيَّاتُكَ سَتَبقَى ما دامَ الأَقاحُ شَذِيًّا في تِلالِنا، وما دامَت في حَنايانا جِمارُ الحَنِينِ مَشبُوبَةَ الأُوارِ، وَ «سَيَكُونُ نَشْرُها كَأَرِيجِ لُبنَان»(7)!
لَقَد أَعَدتَ إِلى لُغَتِنا كَثِيرًا مِن عَظَمَةِ ماضِيها، الَّتِي غَفَلنا عَنها فَكادَ يَطوِيها الإِهمالُ، مُتَناسِينَ، أَو جاهِلِينَ، أَنَّ اللُّغَةَ هِي الأُمَّةُ بِعَينِها(8)، فَما سَقَطْتَ في ارتِباكِ القَرِيحَةِ، وجاءَ وَلِيدُكَ سَلِيمًا نَصِيعًا، يُشرِقُ صِحَّةً، لا تَعتَوِرُهُ شائِبَةٌ، أَو يُشَوِّهُهُ عَيْبٌ يُذكَر.
أَلَا رَحِمَ اللهُ شاعِرَ القُطْرَينِ، خَلِيل مُطران، الَّذي استَشعَرَ الخَطَرَ المُحدِقَ بِالعَرَبِيَّةِ فَصَرَخ:
«إِذا ما القَومُ بِاللُّغَةِ استَخَفُّوا فَضاعَت، ما مَصِيرُ القَومِ؟ قُلْ لِي!»!
فَيا أَيُّها المُبدِعُ كُلُّ المُبدِعِ، أَلَا أَسرِجْ حِصانَكَ فَالجُلَّى أَنتَ فارِسُها، شُقَّ بِمِبضَعِكَ السَّنِينِ دُمَّلَ الخُمُولِ تُشرِقِ الصِّحَّةُ في الجَسَدِ العَلِيلِ، واضرِبْ يَراعَكَ المِعْوَلَ في تُربَةٍ تَشَقَّقَت مِن جَفافٍ طَوِيلٍ يَضحَكِ النَّوْرُ في المُرُوجِ وتَتَغاوَى السَّنابِلُ في الحُقُولِ، وتَتَلَأْلَأُ في أُفُقِنا الدَّاكِنِ نُجُومٌ حَجَبَتها سُجُوفُ النِّسيان..
فَسِرْ، يا أَخِي، سِرْ، فَـ «أَنتَ على الطَّرِيقِ الَّتي تَبحَثُ عن مُسافِرِين»(9)، ولا بُدَّ مِن أَن يَنضَمَّ إِلى الرَّكْبِ رُوَّادٌ كُثُرٌ، فَالقِبْلَةُ واحَةٌ تَمُورُ نَخِيلًا، أَعنابًا، ماءً وظِلالًا…
وَلَن تَستَعصِيَ عَلَيكَ شَوارِدُ اللُّغَةِ، وقد ذَلَّلتَ بِيْدَها، وأَسلَست لَكَ القِيادَ، فَأَنتَ جَلُودٌ لا يَنحَنِي لَكَ كاهِلٌ، «والصَّعْبُ يُرْكَبُ بَعْدَما جَمَحَا»(10).
أَنتَ، يا صَدِيقَنا، حُرٌّ وَ «الحُرُّ لا يَصدُرُ إِلَّا بَعدَ مَورِدِهِ»(11).
وَإِنَّكَ لَها!
***
ويَطِيبُ في صاحِبِنا الشِّعر…
فَلْنُنْهِ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): وَأَصبُو إلى ذَاتِ الصِّبَا عَن صَبابَتِي إِذا لَم يَكُنْ لِي في الهَوَى مِن مُشَارِكِ (مَجنُون لَيْلَى)
(2): («الوِساطَة» لِعَبد القادِرِ الجَرَجانِي، ص 181 طَبعَة القاهِرَة سَنَة 1945. والقَولُ مَأخُوذٌ مِن مَقالَةٍ لِجَمال مُرْسِي بَدْر المُحامِي الوارِدَة في مَجَلَّةُ الأَدِيبِ، إِبرِيل 1953، ص 66)
(3): «اللَّفظَةُ كَالمَرأَةِ، مَتَى كَثُرَ عُشَّاقُها لا تَبقَى تِلكَ العَقِيلَةَ المَصُونَةَ»
(مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 4، ص 171)
(4): «ذَرِيني أَنَلْ ما لا يُنَالُ مِنَ العُلَى فَصَعْبُ العُلَى في الصَّعْبِ وَالسَّهْلُ في السَّهْلِ» (المُتَنَبِّي)
(5): «فَمَا قَبْلُ وَمَا بَعْدُ مَصِيرُهُ النِّسيَان» (سِفْرِ الجَامِعَة، الآيات 4-11)
(6): عِبارَةٌ لِلأَدِيبِ أَحمَد فارِس الشّدياق، مِن كِتابِهِ العامِرِ «الجاسُوس على القامُوس».
(7): «سَيَكُونُ نَشْرُهُ كَأَرِيجِ لُبنَان» (الكِتَاب المُقَدَّس، العَهد القَدِيم، سِفْر هُوشَع، إِصحَاح 14، عَدَد 6)
(8): «أَللُّغَةُ بِأَهلِها» (إِبراهِيم اليازِجِي)
(9): «أَنا على الطَّرِيقِ الَّتي تَبحَثُ عن مُسافِرِين» (القِدِّيس أُوغُوسطِينُوس)
(10): «عُسْـــرُ النِّسـاءِ إِلى مُياسَـَـرةٍ والصَّعْبُ يُرْكَبُ بَعْدَما جَمَحَا» (بَشَّار بِنْ بُرْد)
(11): «قَالَت عَنِ الرِّفْدِ طِبْ نَفْسًا فَقُلتُ لَهَا لا يَصدُرُ الحُرُّ إِلاَّ بَعدَ مَورِدِهِ» (المُتَنَبِّي)