زياد حافظ(**)
تتفاعل التحوّلات الدولية والإقليمية والعربية على نحوٍ يقلب كل المفاهيم وموازين القوة السياسية التي تحكّمت في مسيرة الأمور منذ رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر، إذ إن موازين القوّة الدولية والإقليمية والعربية آنذاك تختلف عمّا هي عليه اليوم. لقد أشرنا في أبحاث وأوراق قدّمناها إلى المؤتمر القومي العربي[1] فحوى تلك التحوّلات التي نستند إليها لاستشراف المستقبل بوجه عام ومستقبل النظام العربي بوجه خاص.
من الواضح أن النظام العربي الرسمي القائم منقسم على نفسه ومنقطع عن الشعوب العربية. فجامعة الدول العربية التي تمثّل ذلك النظام، أصبحت تتكلّم وكأنها مجلس تعاون خليجي موسّع. لكن في المقابل، ظهرت تصدّعات في مجلس التعاون انعكست أيضاً على شكل ومضمون النظام العربي الرسمي. كما أن هناك دولاً في النظام الرسمي العربي لا تنضوي تحت المظلّة الخليجية، وبالتالي أصبحت تشكّل نواة منظومة مختلفة عن النظام العربي؛ فحواها خيار المواجهة مع المشروع الأمريكي – الصهيوني ومعه أطراف من النظام العربي الرسمي.
يعكس الانقسام بين المجموعتين أيضاً موازين قوّة متغيّرة على الصعيدين الدولي والإقليمي. ما زال النظام الرسمي العربي القديم، الذي سيطر عليه المال النفطي العربي، يتحرّك وكأنه لم تحصل أي تغييرات على الصعيد الدولي. فما زالت نظرية «99 بالمئة» من الأوراق في يد الولايات المتحدة تسيطر بها على عقول نخب النظام الرسمي. وتعتقد هذه النخب أن مواجهة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني عمل عبثي؛ بينما في المقابل، هناك من يعتقد أن كلفة المواجهة أقلّ كثيراً من كلفة الاستسلام لمشيئة القرار الأمريكي الصهيوني. ما زالت هذه النخب تعتقد أن الولايات المتحدة تستطيع إجراء أي تغيير أو تبديل تريده في البنية العربية؛ بينما الفريق الآخر يعتقد أن مع تراجع – إن لم نقل أفول – الحقبة الأمريكية لم تعد تلك المعادلة قائمة أو فعّالة. فهي فعّالة في عقول تلك النخب، ولا تنتبه إلى المؤشرات الواضحة للتراجع الأمريكي على الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، وقدرة الولايات المتحدة على إملاء القرار أصبحت غير ذي جدوى. فالإخفاقات التي تراكمت منذ احتلال العراق إلى الإخفاقات في الساحة السورية والعراقية مؤشّرات واضحة تعترف بها مراكز البحوث والقرار في الولايات المتحدة مع بعض الاستثناءات. لكن حالة الإنكار عند النخب العربية ما زالت تتحكّم بسلوكها وتجعلها تُراكم القرارات الخاطئة والعبثية في كثير من الأحيان.
ما كانت تستند إليه تلك النخب الحاكمة هو المال الناتج من النفط. غير أن القرارات التي اتخذتها في كل من سورية والعراق واليمن وليبيا وحتى في مصر أدّت إلى تبديد الاحتياطي المالي الذي كوّنته مع السنين. ومع وصول دونالد طرمب إلى البيت الأبيض اعتقدت تلك النخب أنه سيجاريها في تنفيذ أجندتها الخاصة بالمنطقة العربية وفي الإقليم، غير مكترثة لما قاله ويردّده دائماً، وحتى عند تنفيذ كلامه، أن الدول النفطية الخليجية ليست إلّا بقرة حلوب يجب حلبها حتى آخر نقطة ومن بعد ذلك يتوجّب ذبحها. ما زالت تلك النخب تعتقد أن السخاء المالي الذي أبدته تجاه الرئيس الأمريكي سيمكّنها وسيحميها من تداعيات السياسات الحمقاء التي اتبعتها في سورية والعراق واليمن، وعلى الصعيد الإقليمي بحق الجمهورية الإسلامية في إيران.
فاستبدال العداء التاريخي والوجودي للكيان الصهيوني بالعداء المستجد للجمهورية الإسلامية في إيران يعود إلى تعاظم نفوذ إيران في المشرق العربي بتبنّيها القضية الفلسطينية وجعلها أولوية أولوياتها على صعيد الإقليم، وذلك بعد خروج مصر من الصراع العربي – الصهيوني، وبعد تلكؤ أنظمة النفط الخليجي عن دعم القضية الفلسطينية. فمبادرة الملك عبد لله تجلّت في قرار يستبعد مقاومة الاحتلال ويتبنّى قرار الاعتراف والتفاوض خلافاً لقرارات قمة الخرطوم عام 1967.
حاول النظام العربي بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001 تطويع كل من رئيس السلطة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات (تم منعه من الحضور والتكلّم مع المؤتمرين في مؤتمر القمّة في بيروت عام 2002) ومن بعده تغطية احتلال العراق وإطاحة الرئيس صدّام حسين، ومن ثم محاولة ترويض الرئيس السوري بشّار الأسد. وقد تلازم ذلك مع محاولة القضاء على المقاومة في لبنان عام 2006. سمح التواطؤ الرسمي بإطاحة صدّام حسين ومن بعده القضاء على ياسر عرفات ومن بعده على معمّر القذافي. غير أنه فشل في القضاء على الرئيس السوري والمقاومة في لبنان وفي فلسطين في محاولات فاشلة للعدو على قطاع غزّة المحاصرة.
يحمّل النظام الرسمي العربي الجمهورية الإسلامية في إيران مسؤولية إفشال تلك المشاريع وكأن لا رأي لسورية والمقاومة في لبنان وفلسطين. وإذا أقرّت في رأي مخالف في سورية أو فلسطين أو في لبنان فإن المال لديها كفيل بتعديل الموقف وحتى الانقلاب عليه بسبب وجود نخب مستعدّة للقيام بتلك المهمات. فباستثناء انزلاق بعض الفصائل المقاومة في فلسطين مع وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في كل من تونس ومصر ودعم قطر وتركيا، ظل التوجّه العام الفلسطيني والسوري ومعهما المقاومة في لبنان ثابتاً في خياراته واستطاع إحباط كل المشاريع.
تجلّى البعد الإقليمي والدولي في المشرق العربي في تدخّل دول الغرب من جهة ودول محور المقاومة من جهة أخرى. فشل العدوان الكوني على سورية بالإمساك بها رغم الحشد بالمال والمقاتلين والسلاح والإعلام الذي ما زال يعبث بالعقول حتى اللحظة. لكن المهم في ذلك هو كشف ضعف الغرب بوجه عام عبر إحجامه عن تدخله العسكري المباشر واعتماد ما سمّاه «الحرب الذكية» – أي الحرب بالوكالة ما دامت دول وجماعات فاقدة للقرار أو مرتزقة جاهزة للقيام بالمهمة. لكن ذلك «الذكاء» هو تغطية لعجز موضوعي وذاتي عن القيام بالمهمة. فدرس العراق كان حاسماً في عدم تورّط الولايات المتحدة وحلفائها بصورة مباشرة في المشهد السوري. غير أن القوى المرتزقة على مختلف تسمياتها وتشكيلاتها لم تستطع كسر إرادة القيادة والشعب في سورية وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقاومة التي مثّلها حزب الله. فالأخيرة أدركت منذ اللحظات الأولى ومعها الرئيس السوري أن موجة الاحتجاجات لم تكن إلّا غطاء للحرب على سورية والمقاومة خدمة للكيان الصهيوني. فالحرب في سورية كانت من قبل دول الغرب لمصلحة الكيان. لكن لم تكن حسابات البيدر متطابقة مع حسابات الحقل.
يمرّ الغرب بأزمات حادة بنيوية وليست ظرفية. لقد شرحنا في أوراق وأبحاث متعددة أسباب تراجع وأزمات الغرب. وبما أن النظام القائم في الغرب لا يستطيع إلا إنتاج نخب حاكمة من النوع الرديء جدّاً فإن استمرارية الغرب في اتباع سياسات من دون أفق سياسي وحتى عسكري واقتصادي هي التي تسبّب في عجزه عن إعادة تعديل ميزان القوة لصالحه. في المقابل هناك من نجح على تثبيت استقلاليته في القرار السياسي والاقتصادي والمالي رغم سياسات المقاطعة والعقوبات التي فرضها (وما زال يفرضها) الغرب عليه. نقصد هنا مجموعة البريكس بوجه عام الثنائي الروسي – الصيني بوجه خاص. فالأزمة في شبه الجزيرة الكورية إذا ما انحلّت فيعود الفضل لنوعية القيادات الروسية – الصينية في توظيف ميزان القوة الجديد تلازماً مع رداءة القيادة الأمريكية وتراجعها. لقد بات واضحاً للقيادات العسكرية الأمريكية أنها غير جاهزة لمواجهة شاملة مع المحور الروسي – الصيني؛ رغم عنتريات المحافظين الجدد الذين عادوا إلى أروقة الحكم، أو تشدّد المتدخّلين الليبراليين الذين يعتبرون واجبهم الأخلاقي فرض الهيمنة الغربية على العالم كمنظومة قيم أرقى من المنظومات الأخرى. فهي الوجه الآخر للاستعمار القديم الجديد بلباس التمدّن والعولمة.
أما على الصعيد الإقليمي فالدول التي كانت تؤثّر مباشرة في مسارات النظام العربي شهدت تحوّلات مفصلية في دورها. فالكيان الصهيوني الذي كانت إحدى وظائفه الموضوعية حماية مصالح الغرب في المنطقة كشرطي أصبح بحاجة إلى من يحميه بعد الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه في احتلال لبنان ثم طرده بلا قيد أو شرط وفشله في إعادة الاعتبار له في حرب تموز/يوليو 2006. كما أن إخفاقاته في تغيير مسار الأمور في غزّة رغم ثلاث حروب متتالية ومتقاربة أظهرت محدودية قوّة «الجيش الذي لا يُقهر»، علماً أن الكيان يحظى بدعم بعض دول الجزيرة العربية. فالخطأ الذي ارتكبه الكيان ناتج من غرور وشعور بفائض القوّة؛ فتحقّق كلام الباري عزّ وجلّ: ﴿… وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾[2]. لقد استطاعت المقاومة عبر إيمانها وعلمها وعقلها جعْل الكيان الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت. أصبح تأثير الكيان الصهيوني في الوطن العربي محصوراً فقط في بعض دول النفط العربي مع محاولات للتأثير والتطبيع في المغرب العربي الكبير الذي تقاومه حركات شعبية واسعة ومتجذّرة. أما الدول التي أقامت علاقات مع الكيان فالتطبيع الشعبي بعد أكثر من ثلاثة عقود مُني بفشل ذريع رغم العلاقة مع الحكومات؛ وهذا أيضاً يدلّ على محدودية الدور الصهيوني.
الدولة الثانية الإقليمية التي كانت تؤثّر في المشهد المشرقي العربي هي تركيا. وهذه الأخيرة تمرّ بدورها في أزمات من صنعها، أو بالأخص صنع قياداتها التي حقّقت «إعجازاً» في استعداء جميع دول الجوار لها. فانتقلت من سياسة «صفر مشاكل» إلى سياسة «صفر أصدقاء». غير أن الظروف الموضوعية أملت عليها بداية مراجعة دورها الإقليمي والدولي بسبب إخفاقاتها في سورية. كما أن تدهور علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي الذي يرفض عضويتها فيه والتنافر الواضح مع الولايات المتحدة تجعل الحليف الأول للأطلسي في المنطقة، أي تركيا، يتقارب مع روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران. وفي الولايات المتحدة هناك من يعتقد أن تركيا لم تعد صديقة للولايات المتحدة وإن كانت «حليفة» لها. وحتى ذلك التحالف أصبح موضع شكوك كما ظهر في كتابات ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية المرموق لمالك المجلّة المعروفة فورين أفّيرز. أما علاقاتها العربية فهي أيضاً في حال تدهور، وبخاصة مع مصر وعدد من دول الجزيرة العربية. وفي ما يتعلّق بسورية، فتركيا متورّطة إلى حدٍ كبير، وهو ما يجعل طريق التفاهم ومن بعده التصالح مع سورية، دولة وشعباً، من الأمور الصعبة جداً، الأمر الذي ما يؤثّر سلباً في دورها الإقليمي.
أما الجمهورية الإسلامية في إيران فدورها المتنامي في المشرق العربي وفي الخليج وفي جنوب الجزيرة العربية يجعل دورها كبيراً في الخيارات السياسية. غير أن الشعور بفائض القوى يُسبّب لها انزلاقات على لسان بعض النافذين في الحكم وخارج الحكم، وهذا ما يعزّز شعور الريبة عند بعض العرب ويغذّي السردية التي تروّجها بعض دول الجزيرة العربية في إحلالها في مكانة العداء للعرب. فالجمهورية الإسلامية في إيران أصبحت محور انقسام حاد بين الدول العربية، بغض النظر عن أحقّية أسباب الخلاف أم لا. لكن لا يمكن إلّا تسجيل الدور الفعّال والمميّز لها في دعم القضية الفلسطينية ودعم المقاومة فيها كما في دعم المقاومة في لبنان ودعم الدولة السورية، سواء كان الدعم من منظور عقائدي أو جيوسياسي. ففلسطين هي البوصلة والمعيار اللذان يتمّ تقييم العلاقات والمواقف وفقهما. من هنا نفهم تراجع دور بعض دول الجزيرة العربية في التأثير بسبب الإحجام عن دعم القضية الفلسطينية وترك الساحة للجمهورية الإسلامية في إيران.
في ضوء هذه التحوّلات أصبح النظام العربي الرسمي في موقف حرج جداً. فبعد أن كان عاجزاً عن التصدّي للكيان الصهيوني والهيمنة الغربية بعد رحيل جمال عبد الناصر، أصبح «قادراً» على تغطية العدوان الغربي والصهيوني على الوطن العربي. وهذا النظام هو الذي غطّى احتلال العراق وتدمير كل من سورية واليمن وليبيا، وهو الذي أيضاً غطّى تنامي قوى التعصّب والغلو والتوحش التي أصبحت تهدّد أيضاً تلك الدول التي ساهمت في تنميتها. لكن الإخفاقات الميدانية لتلك الجماعات، ومن ورائها الدول الداعمة لها عربياً وإقليمياً ودولياً، جعل من النظام العربي الرسمي عاجزاً حتى عن الاستمرار في ضرب الثوابت العربية. هذه كانت نتائج قمة الظهران الأخيرة التي كان من المتوقع أن تخرج بقرارات كبيرة تؤدّي إلى إنهاء القضية الفلسطينية عبر ما تمّ تسميته «صفقة القرن»، والتي تحوّلت إلى «صفعة القرن»، رغم التصريحات والبيانات. فالحقائق الميدانية تقول عكس ذلك، أي إمكان تحقيق الصفقة، وليس هناك ما يدلّ على إمكان تغييرها على الأرض. فكان الكلام اللفظي حول «التمسّك» بالقدس خلافاً لما صدر عن عدد من المسؤولين في بعض دول الخليج.
ماذا بعد؟
نعتقد أن التحوّلات التي ذكرناها ستفرز نظاماً عربياً جديداً يختلف عمّا كان عليه خلال العقود الأربعة الماضية:
– النظام العربي الجديد لن يكون قائماً على قطريات مغلقة (القطر أولاً) القائمة على هويات فرعية مصطنعة خارجة عن الموروث التاريخي والوجدان الجمعي، بل على قاعدة التكامل والتشابك، الحافظة للسيادة الوطنية على الصعيد القطري وعلى الصعيد الدولي.
– سيتأثر النظام الجديد كثيراً بالدور المحوري لسورية؛ فالحرب الكونية التي شُنّت عليها لتدميرها فشلت، وبالتالي ستخرج سورية لا منتصرة فقط، بل أقوى كثيراً مما كانت عليه، وفقاً للمقولة إن لم تقتلك المحنة فستخرج أكثر قوّة مما كنت عليه.
– محورية سورية تعني محورية بلاد الشام بوجه عام. فسورية ولبنان وفلسطين، وبطبيعة الحال الأردن، هي بلاد الشام. ستتواصل بلاد الشام مع بلاد الرافدين حيث التكامل والتشابك سيكونان شبه كاملين. سينعكس هذا التشابك أيضاً على مصر التي ترى منذ بداية التاريخ أن بلاد الشام والرافدين امتداد لأمنها القومي. فاستقلالية بلاد الشام وبلاد الرافدين ستعزّز النزعة الاستقلالية في مصر، وبخاصة في الدولة العميقة التي تشكّل القوّات المسلّحة مع المؤسسة الإدارية العمود الفقري لها. بدأت مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 وتصحيحها في ثورة 30 حزيران/يونيو 2012 استكمال ثورة 23 تموز/يوليو 1952 التي انحرفت عن مسارها الاستقلالي في عهدَي السادات ومبارك. ما زال الطريق طويلاً، ولكن وتيرة التحوّلات قد تُقصّر من طوله. إن تتويج استقلالية مصر يكون عندما تنتهي من اتفاقية كامب دايفيد. وهذا سيساعدها على ضرب الخناق على الكيان الصهيوني بسبب محور المقاومة بوجه عام وبسبب ضربات المقاومة بوجه خاص؛ فيجب ألّا ننسى أن العقيدة القتالية للجيش المصري ما زالت تعتبر أن عدو مصر كان وما زال الكيان الصهيوني رغم كامب دايفيد.
– ستفتح مسيرة استعادة مصر لاستقلاليتها المجال لتوحيد الموقف في بلاد وادي النيل والقرن الأفريقي (السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر) ومن وراء كل ذلك القارة الأفريقية بأكملها التي أهملتها حقبات السادات ومبارك. استعادة توحيد الموقف في بلاد النيل ستتلازم مع تكامل اقتصادي وسياسي له امتداداته على الصعيد الجيوسياسي. فبحر الأحمر سيعود بحراً عربياً بامتياز بعد إخراج قوّات الأطلسي من القرن الأفريقي ومن على باب المندب.
– ستفرض الكتلة الجغرافية السياسية المشكّلة من بلاد الشام والرافدين مع بلاد وادي النيل بقيادة مصر، ظلالها على الجزيرة العربية التي سيتمّ توحيدها تحت رعاية اليمن الموحّد وصاحب الحضارة العريقة وبعد إغلاق القواعد العسكرية الأطلسية فيها. هذا التوحيد للموقف الممتد من بلاد الشام والرافدين إلى وادي النيل فالجزيرة العربية هو الذي سيحقّق الأمن القومي للمشرق العربي بأكمله. لم تكن الحمايات الأجنبية في يوم من الأيام حريصة على الأمن القومي العربي الذي يشكّل قاعدة الاستقرار في الخليج والمنطقة العربية. كما أن هذه القواعد لن تستطيع حماية العروش إذا لم تقم هذه الحكومات بمراجعة سياساتها العربية والإقليمية. من يحميها هو شعوبها وتلاحم الشعوب العربية معها وليست الجيوش الأجنبية. وكلفة التلاحم الشعبي أقلّ كثيراً من كلفة الجيوش الأجنبية التي لم تحافظ على حلفائها في مصر وتونس.
– محورية دول الجزيرة العربية بعد رحيل الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر تلازمت مع ارتفاع أسعار النفط. المال مكّن هذه الدول وبخاصة بلاد الحرمين، من تأدية دور مفصلي تجلّى مؤخراً بالسيطرة على النظام الرسمي العربي وإدخال الوطن العربي في مطبّات ومتاهات ومآسٍ أكثر من أن تُحصى. غير أن الاكتشافات النفطية والغازية في بلاد الشام ستقلّل من أهمية المال الخليجي في الضغط على الدول الأقلّ ثراءً. لا نستبعد تراجع دور دول الخليج الذي قد ترافقه هجرة معاكسة من الدول العربية ما يزيد الكتلة البشرية الموجودة فيها ضعفاً بسبب النفط والغاز. وسيؤثّر ضعف الكتلة البشرية في الجزيرة العربية في تكوين ميزان القوة ويعيد الدول إلى الحجم الذي كانت عليه قبل الطفرة النفطية والغازية. فالطاقات البشرية التي استقطبتها دول الخليج من دول بلاد الشام ووادي النيل قد تعود إلى بلادها؛ وبخاصة أن القرارات الخاطئة بالنموذج الاقتصادي المعتمد يكرّس الانكشاف تجاه الخارج. فحتى محاولات تنويع البنية الاقتصادية للتخفيف من الاعتماد على النفط لم ولن يؤدّي إلى ترسيخ قاعدة إنتاجية ذاتية بل إلى قطاع خدماتي طفيلي يعتمد على الخارج ولا يخدم اقتصاداً إنتاجياً محلّياً أو إقليمياً أو عربياً. فقطاع الخدمات بوجه عام، والمالية بوجه خاص، يعتمد على مشيئة الغرب ليس إلّا، ولا تختلف استقلالية القرار الاقتصادي عن استقلالية القرار السياسي شبه الغائب. ويعود ذلك الأمر إلى اصطناع تلك الدول من قبل المستعمر البريطاني الذي خرج من الباب ليدخل من شبّاك «الاستشارة» التي تصنع القرار.
– أما تباشير تراجع، إن لم نقل أفول، دول الجزيرة العربية فتجلّت ليست فقط في الميدان السوري والإخفاق الكبير في اليمن، بل حتى لبنان أصبح خارجاً على نحوٍ ملموس عن «مشيئة» حكومة الرياض وإن كان حريصاً على علاقة ندّية مع تلك الحكومة. فالخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته حكومة الرياض بحق رئيس مجلس وزراء لبنان في احتجازه الأحمق أدّى إلى تراجع نفوذها في لبنان. وقد أظهرت الانتخابات النيابية اللبنانية أنها الخاسر الأكبر رغم الضغوط والمجهود الانتخابي المبذول من جانب دبلوماسيين تابعين لها عبر الشحن المذهبي للتأثير في مسار الانتخابات. فهذا المجهود لم يستطع أن يعبّئ البيئة التي اعتبرتها خاطئة أنها في جيبتها. فإذا لم تعد تستطيع السيطرة على بلد مثل لبنان فماذا يمكن توقّع أن تنجزه في المستقبل وسورية منتصرة وقوية؟
– نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية بعد تأجيل الانتخابات ثلاث مرّات لها عدة دلائل، منها أنها من إرهاصات نهاية الحروب في المنطقة. فبعد التأجيل الذي كان من مستلزمات استمرار الحرب الكونية على سورية جاءت نتائج الميدان لتقول إن هذه الصفحة أصبحت قيد الطيّ رغم استمرار بعض الجيوب التي سيتم تطهيرها. فتحت الانتخابات اللبنانية الطريق لتكريس معادلات سياسية جديدة قد تأخذ بعض الوقت لتظهير نتائجها السياسية ولكنها تصب في إطار انتصار سورية على العدوان الكوني عليها.
– أما في بلاد المغرب الذي يضم كلاً من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، فعمودها الفقري هو المحور الجزائري – المغربي الذي ما زالت قضية الصحراء المغربية تفصل بين القطرين وتمنع تحقيق الاتحاد المغربي. غير أن التطوّرات في بلاد الشام والرافدين مع بلاد وادي النيل ستسرّع من فضّ الخلاف المغربي – الجزائري وتحقيق الاتحاد العربي وذلك مع تراجع النفوذ الأوروبي والأمريكي.
– سنشهد في كل الحالات، عندئذ، حالات تشبيك في البنى التحتية وتكاملاً على الصعيد الاقتصادي وتحقيق موقف سياسي موحد. وهذا سيجعل من الكتلة العربية الجديدة بغض النظر عن شكلها الدستوري السياسي لاعباً أساسياً وامتداداً لمنظومة شانغهاي. هذه المنظومة ستوصل بحر الصين بالمحيط الأطلسي عبر طريق الحرير، والتواصلية والكتلة الجغرافية والبشرية المتحدة ضد الهيمنة الغربية ستجعل البحر المتوسط امتداداً أيضاً للبحور التابعة لذلك المحور.
هذه هي الخطوط العريضة للنظام العربي الجديد الذي سيتشكّل في رأينا خلال جيل من الزمن (20 سنة). هناك من سيسارع في الاستخفاف بهذا التصوّر، كما استخفّ من توقعاتنا في ذروة احتلال الولايات المتحدة للعراق. قلنا آنذاك إن العد التنازلي للولايات المتحدة قد بدأ بسبب احتلالها للعراق. فذلك الاحتلال كان هروباً إلى الأمام من أزماتها الداخلية وسيسرّع في تفاقم الخلل البنيوي السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها كما شرحناه في مقاربة أولها كانت عام 2003 وتواصلت حتى 2010 عندما تأكّد التراجع ثم الأفول – إن لم نقل أكثر – وما زلنا متمسّكين بتلك المقاربة. كما تحقّقت أيضاً وجهة نظر الرئيس بشار الأسد الذي توقّع هذا التراجع بسبب المقاومة للاحتلال في العراق وبالتالي دعمها، كما استمرّ في دعم المقاومة في لبنان على قاعدة كلفة المواجهة للهيمنة الأمريكية والمشروع الصهيوني أقلّ كثيراً من كلفة الاستسلام له.
لم يعد بمقدور الغرب بوجه عام، ومعه الكيان الصهيوني والرجعية العربية، تغيير مسار الأمور وموازين القوّة. فالمعارك التي تخوضها هي معارك خلفية قد تؤخّر النتيجة ولكن لن تلغيها. أما الكلام عن مواجهة شاملة ضد محور المقاومة فهي قائمة منذ عدّة سنوات، ولكن إذا ما أخذت طابعاً آخر أكثر تصعيداً وشراسة فلن يكون الكيان الصهيوني والقواعد العسكرية الأطلسية في المنطقة والعروش في الجزيرة العربية بمنأى من تداعيات الحرب. فهي تعرف ذلك وتلجأ إلى الحرب النفسية لعلّها تحقق من خلالها ما لا تستطيع تحقيقه في الميدان. أما الجيوش التي لا تدعمها الشعوب فلا تستطيع تحقيق أي شيء. فحاجز الخوف من قوّة النار الأمريكية والصهيونية قد تمّ تجاوزه. لكن هزيمة ذلك المشروع لا يعني حتمية انتصار نهضة الأمة. فربما هزيمة المشروع الأمريكي الصهيوني أسهل من مشروع إقامة النهضة العربية عبر نظام سياسي يستطيع مواكبة وإنجاز أهداف المشروع، سواء في تحقيق وصيانة الاستقلال الوطني في إطار دولة الوحدة، أو على الأقل في إطار الموقف العربي الموحّد الملتزم بالثوابت؛ بدءاً من تحرير فلسطين إلى تحقيق التنمية المستدامة وعدالة اجتماعية تمكننا من إعادة إنتاج وتجديد حضارة عربية صاحبة رسالة للعالم أجمع.
***
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 472 في حزيران/يونيو 2018.
(**) زياد حافظ: أمين عام المؤتمر القومي العربي.
البريد الإلكتروني: zhafez@gmail.com
[1] زياد حافظ، المشهد العربي والإقليمي والدولي (بيروت: منتدى المعارف، 2017).
[2] القرآن الكريم، «سورة البقرة،» الآية 15.
***
(*) مركز دراسات الوحدة العربية