(في رَحِيلِ الصَّدِيقِ الأَدِيبِ د. بَدِيع أَبُو جَودة، في 10/ 8/ 2020)
واليَومَ فارَقَنا، ولَن يَعُود…
هو الصَّدِيقُ الأَدِيبُ د. بَدِيع أَبُو جَودة، الَّذي ما رَأَيناهُ يَومًا إِلَّا نَحْلَةً تُطَوِّفُ بَينَ الأَقاحِ تَجنِي الشَّهْدَ المُذابَ، تَشتارُهُ بِنَهَمٍ ذَوائِقُ مَن يَفقَهُونَ الكَلِمَةَ الهادِفَة.
لقد غَصَّت قافِلَةُ الرَّحِيلِ بِالرِّفاقِ، تَمُرُّ بِهِم فَنَظرَةُ وَداعٍ دامِعَةٌ، ورَجاءٌ بِغَيْبٍ مَجهُول.
ونَحنُ واقِفُونَ على التَّلَّةِ الواهِيَةِ، نَلمَحُ غُبارَ الرَّكْبِ الآتِي، بِرَهْبَةِ الجَوارِحِ المُنهَكَةِ، تَهتَزُّ الأَقلامُ في البَنانِ الواجِفَةِ، فقد آذَنَ العُشْبُ في المَرْجِ، وأَذِنَّا بِالغِياب!
رَحمَةُ اللهِ، يا صَدِيقِي، على رُوحِكَ النَّقِيَّةِ، وَلَأَنتَ، يَقِينًا، في مَلَكُوتِهِ، فقد أَحسَنتَ تَدَبُّرَ وَزَناتِكَ فَطابَتْ غِلالًا، فَانتَظِرْ نِداءَ الرَّحِيمِ: «أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمِين! أُدخُلْ إِلى فَرَحِ رَبِّك»(1). أَوَلَيسَ ﴿مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(2)؟!
***
كُنتَ فِينا، لِلوَفا، خَيْرَ خَلِيلْ دَعَةً وَرْدًا، وقَوْلًا سَلْسَبِيلْ
كَيفَ غادَرتَ فَلَم نَدْرِ سِوَى بِصُراخِ النَّعْيِ كَالخَطْبِ الوَبِيلْ؟!
أَفَما كُنتَ خَلِيقًا بِالبَقا، نَيِّرَ العَقلِ، وبِالبَدْع ِجَزِيلْ؟!
أَفَما خَلَّفتَ نُورًا ساطِعًا في حُرُوفٍ زانَها السَّبْكُ الجَمِيلْ
كُنتَ فِيها القَلَمَ الحُرَّ، وفي صَوْلَةِ الحَقِّ لقد كُنتَ الأَصِيلْ
آهِ… كَم عَجَّلْتَ بِالنَّأْيِ، وكَم كانَ ذا الدَّهْرُ بِلُقياكَ عَجُولْ
فَتَرَكتَ «الجُودَة»(3)، الثَّكْلَى، ومَنْ دَرَجُوا في فَيْئِها الضَّافِي الظَّلِيلْ
يا صَدِيقِي… غِبْتَ لكِنْ لَم يَغِبْ عِطْرُكَ المَنثُورُ في الدَّرْبِ الطَّوِيلْ
فَلَأَنتَ البَسْمَةُ الزَّهراءُ، والأَمَلُ ـــــــــــ المُشْرِقُ في اليَأْسِ الثَّقِيلْ
وسَتَبقَى سامِرًا في لَيلِنا، كُلَّما طابَ مع اللَّيْلِ المَقُولْ!
***
(1): «أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمِين! كُنتَ أَمِينًا على القَلِيلِ، فَسَأُقِيمُكَ على الكَثِير. أُدخُلْ إِلى فَرَحِ رَبِّك» (إِنجِيل مَتَّى، 25: 21 – قالَها السِّيِّدُ لِخادِمِهِ الَّذي أَحسَنَ استِعمالَ وَزَناتِه)
(2): ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ – وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ المُؤْمِنُون، الآيَتان 102، 103)
(3): «الجُودَة»: مَعْهَدٌ أَسَّسَهُ الفَقِيدُ، واستَمَرَّ في النَّجاحِ المُطَّرِدِ عُقُودًا طِوال.