تحقيق سلمى بو عساف
السادسة وست دقائق من بعد ظهر الثلثاء 4 آب 2020، عصف انفجار 2750 طنا من نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت، الأول في لبنان والأهم من بين 10 موانىء على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لينهي بذلك 124 عاما من عمر هذا المرفق التاريخي والتجاري الذي تأسس في العام 1896 ويتعامل مع 300 مرفأ حول العالم، ليكون محطة هامة في عالم التجارة والنقل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.
154 قتيلا، 5000 جريح، 120 حالة حرجة، عشرات المفقودين، 300 عائلة من دون مأوى، 80 الف طفل من دون منازل، 6200 شقة متضررة بنسب متفاوتة بالإضافة الى مدارس وكنائس ودور عبادة، 15 مليار دولار قيمة الأضرار، خمسة مستشفيات من بينها ثلاثة جامعية هي الأكبر في لبنان أجلوا مرضاهم وأصبحوا خارج الخدمة بسبب تضررهم بشكل مباشر، تهدم قسم من المباني التراثية القديمة في منطقتي الجميزة ومار مخايل وتهاويه على قاطنيه وتصدع قسم آخر وتحول زجاجه المتطاير الى شظايا جرحت وقتلت العديد من الأبرياء، تحطم واجهات المحال التجارية عصب الحياة الاقتصادية وتبعثر محتوياتها، آلاف السيارات المتضررة والمدمرة.
إنه الإنفجار الأكبر في تاريخ لبنان!!!!
لم تسلم أي منطقة قريبة من المرفأ ضمن نطاق 24 كلم من حمم الانفجار وعصفه. فقوته التي عادلت هزة أرضية بقوة 3،3 درجات بمقياس ريختر بحسب الخبراء، جعلت بيروت مدينة منكوبة، بدءا بالمرفأ والكرنتينا والدورة، الى الأشرفية والرميل والصيفي والمدور ومار مخايل والجميزة والحكمة والجعيتاوي، وصولا الى ميناء الحصن وزقاق البلاط وعين المريسة وغيرها من المناطق، حتى أن مناطق في قبرص والأردن شعروا به، وشوهد الدخان من الحدود اللبنانية – السورية على بعد 80 كلم.
خسائر بشرية ومادية، جدران مهدمة، سيارات متضررة، أثاث محطم، زجاج مهشم تطاير من المباني والمحال، فاستقر جزء منه في أجساد سكان المنطقة وآخر غطى الشوارع ليكمل سوداوية المشهد. لحظات مرعبة فرضت واقعا صعبا ومأساويا على مواطنين، هم في الأصل يعانون منذ أشهر من تداعيات أزمة اقتصادية واجتماعية ومعيشية واستشفائية قاسية، بسبب تدهور سعر صرف الليرة والواقع الذي فرضته جائحة فيروس كورونا والبطالة والتشنج السياسي وغيرها من الأزمات.
ولكن، تماما كطائر الفينيق الذي ينفض عنه الرماد ليحلق عاليا من جديد، انتفض اللبنانيون من مختلف الطوائف والمذاهب لتقديم العون للمتضررين. إذ بعد لحظات من وقوع الانفجار، توافد إلى المناطق المتضررة أعداد كبيرة من الشبان الذين تطوعوا بمبادرات فردية لإنقاذ الضحايا، وباشروا فورا رفع ما استطاعوا من الأنقاض بأيديهم. فتمكنوا من إنقاذ عدد من الأرواح، ونقلوا الجرحى على أكتافهم في حين أن بعضهم استخدم الدراجات النارية لاستحالة عبور السيارات في الأحياء المتضررة، لنقل المصابين الى المستشفيات التي هي أيضا رزحت بفعل الانفجار، مما اضطر أطباؤها الى تقديم الإسعافات في باحاتها الخارجية من دون مواد مخدرة في ظل نقص كبير بالمستلزمات الطبية. ولبى عدد كبير من المواطنين من كل المناطق، نداءات التبرع بالدم، مما دفع بالمستشفيات والمراكز الصحية الى الطلب من الناس عبر وسائل الإعلام، التوقف عن التبرع بالدم بسبب الفائض في الوحدات.
هذه مشاهد حية بثتها معظم وسائل الإعلام المحلية مباشرة، أظهرت حماسة اللبنانيين واندفاعهم لمساعدة بعضهم البعض في أوقات الشدة، غير آبهين بمخاطر الإصابة بفيروس كورونا أو تعريض أرواحهم لخطر تهدم مبنى من هنا، وتنشق سموم مواد قيل في حينه إنها كيماوية من هناك، ووسط ظروف اقتصادية يرزح تحتها أكثر من نصف الشعب، وفي ظل غياب تام لأي خطة إنقاذية رسمية استباقية يعمل بها عند حدوث الكوارث، وبمبادرات فردية وجماعية مع طرق بدائية. تحولت هذه الوقائع الى بصمة مميزة في عالم الإنسانية والعطاء بمجانية والتفاني وبذل الذات في سبيل مساعدة كل محتاج ومنكوب.
وعلى أثر ذلك، شكر رئيس أساقفة فيينا الكاردينال كريستوف شانبورن في رسالة متلفزة، للبنانيين “الشهادة التي قدموها في هذه المحنة”، وأعرب عن تأثره الشديد بهذه “المبادرات الشجاعة التطوعية العفوية التي قدمها الشباب اللبناني من خلال مساعدة ضحايا هذه الكارثة”. وقال: “إيمانكم وإنسانيتكم وشجاعتكم هم قدوة لنا ويمنحوننا الكثير من الأمل”.
أما البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي فوصف هذه المبادرات التي تحمل قاسما مشتركا ب “العاطفة التعاضدية التي تجمع في أوقات المحن”.
ابنة الأشرفية نادين (30 عاما)، تفاجأت برؤية شابات محجبات وأخريات يرتدين “الشورت”، يعملن جنبا الى جنب في شوارع هذه المدينة المنكوبة “تنظفن الطريق من الزجاج والحطام وتقدمن الإسعافات الطبية البسيطة للمصابين الذين لم يتمكنوا من الذهاب الى المستشفى، وتدخلن البيوت لتقديم يد العون في أعمال إزالة الأثاث المحطم والتنظيف. هذا هو لبنان النموذج الذي حدثونا عنه. اليوم تأكدت من أن وحدة العيش فيه ليست مجرد شعار”.
وبمبادرة فردية، قدم أحمد (33 عاما) مجانا من على طاولة بلاستيكية نجت من الانفجار، 100 منقوشة للمتطوعين والمتضررين، اشتراها من ماله الخاص إيمانا منه بأن “الحجرة بتسند خابية”، وقدم معها عبوات مياه بلاستيكية صغيرة.
وفي أبرشية بيروت المارونية التي تضررت بشكل كبير، تطوع للمساعدة عدد من المهندسين من بينهم الشاب رامي رزق (32 عاما) الذي اعتبر أن “حب لبنان والانتماء اليه، يفرضان على كل مؤمن منا الحفاظ على هذا الإرث الذي حافظ عليه من قبلنا آباؤنا وأجدادنا في أصعب الظروف”. وقال: “حماسة ال 40 شابا وشابة الذين تطوعوا للعمل من مختلف الأعمار لافتة جدا. يعملون بصمت واندفاع. يرفعون بأيديهم الألواح المحطمة والحديد ويزيلون الغبار. كل ذلك والابتسامة على وجوههم في كل مرة نسألهم فيها عما اذا كانوا يحتاجون الى شيء ما. بمساعدتهم سنتمكن على مراحل، من تطبيق الخطة الإنقاذية التي وضعناها للأبرشية والمباني التابعة لها، بإشراف راعي الأبرشية المطران بولس عبدالساتر، من إزالة الركام وتصليح الأعطال الكهربائية ومساعدة السكان، مرورا بهدم الجدران المتصدعة، وإزالة بقايا الزجاج العالقة على الواجهات، وصولا الى تجميع كل الحطام وترحيله.
وختم: “أيقظوا فينا من جديد عنفوان الشباب الذي لا يقهر مهما كانت الظروف”.
ولفت انتباه السفير البابوي جوزيف سبيتيري خلال زيارته التفقدية للمطرانية، عمل هذه المجموعة من الشباب التي تحمل المكانس والرفوش بهمة ونخوة، مرتدية القفازات والكمامات للوقاية من فيروس كورونا. وباعجاب كبير وبعد إصراره على التقاط صورة معهم، قال لهم: “أنتم مستقبل لبنان الجديد، فكما تعاونتم في هذه الظروف القاسية لإزالة كل الشوائب باندفاع ومجانية، هكذا يمكنكم تنقية لبنان من كل شوائبه المسيئة. زرعتم الأمل في نفوسنا من جديد”.
من كل المناطق الى شوارع بيروت، توجهت الجمعيات والحركات الكشفية وغيرها لتقديم مساعدات ميدانية وأخرى لوجستية.
لوري (21 عاما) طالبة سنة ثالثة في كلية طب الأسنان ومنتسبة الى فوج دليلات لبنان، انطلقت وزميلات لها من منطقة كسروان الى الأحياء المتضررة في بيروت، فقمن بتنظيف الركام وقدمن المساعدات الغذائية الى العائلات المتضررة. وقالت: “لم أكن أتوقع ابدا كمية المساعدات التي تبرع بها الناس، على الرغم من الضائقة المادية والاقتصادية. فوجئت بتعاطف الناس القوي وسخائهم وكرمهم، وتمكنا من توضيب حصص غذائية وفيرة في وقت قليل. وبعض ممن التقينا به في السوبرماركت قدم لنا مبالغ مالية كبيرة لنساعد بها أكبر عدد من المتضررين. وعند وصولنا الى الأحياء المنكوبة، فوجئنا بالأعداد الكبيرة للمتطوعين الذين يعملون على الأرض ويقدمون الخدمات. والمؤثر، أن عددا منهم استضاف في منزله قسما ممن فقدوا المأوى. وكنا في كل مرة يطلب منا التوجه الى مكان معين نصل اليه لنرى ان هناك الكثير ممن لبوا النداء. الكل يعمل بمجانية مطلقة ومن دون اي قيد او شرط”.
وتمنت لوري “لو ان هذا التضامن يترجم بين المسؤولين، فيتخلون عن مصالحهم الخاصة ويعملون فقط من أجل خير الإنسان في لبنان، كما يحصل اليوم مع هذه الشبيبة”.
أما المهندس الميكانيكي إيلي (25 عاما)، فتوجه مع مجموعة من أصدقائه لمساعدة زميل لهم تضرر منزله بشكل كبير، وأصيبت العاملة فيه بإصابات بالغة. فنقل الوالدان المتقدمان بالسن الى أحد منازل هذه المجموعة للاهتمام بهما، والعاملة الأجنبية إلى المستشفى لمعالجتها، فيما تعاون باقي الشبان لإزالة الركام وإحصاء الأضرار التي لحقت بالمسكن.
وعن تجربته قال إيلي: “ما لمسته من محبة وشجاعة وتضحية لدى زملائي أيقظ في من جديد الأمل والرجاء بلبنان الذي لطالما تمنينا تحقيق أحلامنا على أرضه”.
وعن تجربة كلودي (50 عاما) التي أصيبت مع زميلتها في أثناء تأديتهما مهمتهما الإعلامية، تروي: “كنت أقدم رسالة على الهواء لحظة قذفني الانفجار الى الجانب الآخر من الطريق. لم أدرك أنني أصبت. كنت أنزف، ولكنني كنت أحاول مساعدة زميلة لي تأذى وجهها بفعل الزجاج الذي سقط عليها. لم أستطع تركها لأنني لمست خوفها الكبير وصدمتها. كنت أحاول طمأنتها وتهدئتها لحين تقديم المساعدة لها. ولكن في اللحظة التي اكتشفت فيها إصابتي وقفت وصرخت طالبة المساعدة من أحد المتطوعين. بقينا معا نشد على أيدي بعضنا، على الرغم من قساوة مشاهد الدمار والقتلى والجرحى التي رأيناها حتى وصلنا الى المستشفى”.
وختمت: “لم يكن هناك مكان للأنانية ولحب الذات أبدا. تصرف اللبنانيون بعفوية مطلقة وظهرت طبيعتهم الطيبة وسط هذه الكارثة، فخففوا آلام بعضهم البعض، على أمل أن تنتهي الأيام الصعبة التي يمر بها لبنان”.
معدودة هي الدقائق التي فرضت واقعا جديدا على العاصمة، فباتت بيروت المنكوبة بدلا من بيروت ست الدنيا، ولكن، من رمادها وركامها وحطامها انبعثت من جديد حرارة محبة أبنائها وتضامنهم وشجاعتهم واندفاعهم، علها تتأجج وتتسع لتشمل بقاع هذا اللبنان الذي على الرغم من نكباته، نحبه… نحبه… نحبه!!!!
***
(*) الوكالة الوطنية للإعلام