احتفظتْ أكثر من عامية عربية (مثل اللبنانية والمصرية وغيرها) بلفظ “بابور” للدلالة على السفن البخارية – الجديدة -، ابتداء من لفظه الأجنبي (vapeurs). وهي سفن غزت المشهد الاجتماعي، بل غيرت حسابات الزمن في المكان، في أي شكل من أشكال الانتقال الفردي والجماعي. وحلَّت هذه السفن، منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، في غمار البحر الأبيض المتوسط محل السفن الشراعية، ويسَّرت بل سرعت ونظمت، في كيفيات ومواعيد جديدة، حركة الانتقال من مرافئ أوروبية عديدة إلى بيروت وعكا والإسكندرية وغيرها. وهو ما تمثلَ في شركات ملاحية عديدة، ومواعيد وصول وإقلاع محسوبة بدقة أكبر من السابق.
ترد في “حديقة الأخبار”، في أكثر من عدد (120 و134 وغيرها)، إعلانات عن وصول البواخر البخارية، وعن مواعيد توقفها في هذا الميناء أو ذاك. ويمكن العودة إلى “حركة الميناء بهذا الأسبوع” (عدد 143) بما يشير إلى : أسماء السفن أو الرؤساء (أي الذين استأجروا خدماتها لنقل بضاعاتهم)، ومحمولها بالكيلو، ومواعيد سفرها من مدن مختلفة، وجنسها، وشحنها.
وهو ما تمثل أيضاً في عمليات شق الطرقات وتعبيدها، بما يجعلها صالحة للمركبات (طرق “الكرّوسة”، الخاصة بعربات خيل المسافرين)، في انتظار السيارات في العقدين الأولين من القرن العشرين. ولو شئتُ تمثيل هذه العملية لأشرتُ إلى ما أحدثتْه عملية شق طريق بيروت-الشام، ابتداء من العام 1859، من تغيرات، قد يكون أقلها أن ما كان يتطلب 3 أيام سفر بات يحتاج إلى 13 ساعة؛ وأن المسافر بات قادراً، استعداداً للصيف، على حجز مقعده مسبقاً فيها! فكيف إذا جرى الكلام عن آثار دخول التلغراف، في العام 1863 إلى بيروت، إلى حياة الناس اليومية، إلى الجريدة، إلى صلة الإنسان بالعالم! وهو ما تنقله “حديقة الأخبار” في هذا الخبر : “لا ريب أن أهالي هذه المدينة قد أشعروا في هذا الشتاء بمصاعب الطرقات التي طالما مانعت أقدامهم بوفرة الأوحال ونظروا حسن الطريق التي تمهدت للمركبات بين الحرش (حرش الصنوبر في بيروت) والمدينة حتى صارت مجالاً لتخطرات المتنزهِين، وبناء عليه تعلم أن كل رجل من بني بيروت الساكنين قي ضواحيها يشتهي أن تكون طريق بيته على هذا الأسلوب” (“حديقة الأخبار”، عدد 114، 1860).
مثل هذه التغيرات باتت توجه الفعالية الاجتماعية، ومنها المهن والتطلعات، في وجهات جديدة. وقد يكون الكلام عن بناء “الفندق” و”المقهى” هو التعبير الأوفى عن مثل هذه التغيرات، حيث إن قيام مثل هذه المباني الاجتماعية الجديدة بات يعني، من جهة، حضوراً أيسر للأجنبي، ومقداراً أوسع من الاختلاط، من جهة ثانية. وهو ما أصاب مدناً شاطئية أكثر من غيرها، مثل بيروت والإسكندرية (بعد دمياط) ومدينة الجزائر والدار البيضاء أكثر من غيرها، على حساب “مدن الداخل”، مثل فاس وبيت الدين وحلب والموصل وغيرها.
يلاحظ القاياتي في رحلته – السياحية “الداخلية” – براعة أهالي بيروت، حتى الفقراء منهم، في الاستفادة من أنواع التجارة الجديدة : الفقير منهم يبني مسكناً، ويعدّه لاكتراء الغرباء، الذين يُقيمون بها مدة الشتاء، فيسكن هو الطابق السفلي ويؤجر الطابق العلوي، فتكون تلك الحارة كأنها نوع من التجارة. كما يتحدث عن انصراف أهل بيروت إلى صنوف تجارية أخرى، زادت بفضل فتح الميناء فيها. وما يصف القاياتي عليه بيروت يُرينا مدينة مزدوجة، ذات بناء مركب، بين كونها “مدينة إسلامية ديناً”، من جهة، و”محمية أوروبوية نظاماً وبناء وخربية”، من جهة ثانية.
أحد الرحالة الفرنسيين الدكتور لويس لورته (1836-1909) زار لبنان مرتين، في 1875 و1880، وضم ملاحظات الرحلة في كتاب بعنوان “سوريا اليوم”، ومما يقوله في الكتاب ملاحظات عن نظام البناء والأثاث : يتحقق فيه من دخول الأثاث الأوروبي الفخم إلى بيوت الأغنياء. ويتحدث كذلك عن وجود مقاهٍ عديدة في بيروت، بصحبة النارجيلات. كما ينزل المسافرون في الخانات، وهي خلو من الفرش، فيضطرون أن يحملوا معهم كل ما يحتاجون إليه. غير أن الأوروبيين يجدون ما يحتاجون إليه في فنادق فخمة شُيدت منذ سنوات قليلة على شاطىء البحر في طرف المدينة الغربي.
الدارس يتحقق، في “تقارير” و”رحلات” عديدة، من أن الفندق كما المقهى بُنيا للأجنبي قبل “البلدي”، عدا أن فنادق عديدة، سواء في استانبول أو بيروت أو القاهرة وغيرها، عرفت المقهى في عداد مبانيها ووظائفها، قبل أن ينفرد المقهى، أو “يتحول” بعض المقاهي، إلى مبان منفصلة.
وكانت بيروت قد عرفت، وغيرها من المدن العربية والإسلامية، قبل القرن التاسع عشر، “الخان” أو “الواحة” أو “الدحل” (كما تقول العربية القديمة)، لاستقبال الضيف في الخيام، أو محطة الاستراحة في قوافل الحج والسفر والتجارة وغيرها، إلا أنها لم تعرف صيغة “الفندق”، قبل القرن التاسع عشر، في بيروت، كما في “حي الإفرنج” في استانبول. فكيف نشأ “الفندق” في بيروت بصيغه العصرية؟
يؤكد جورج برجي أن بيروت عرفت قبل غيرها هذا النوع من الأمكنة المؤثثة والمخصصة للإقامة لقاء بدل مادي، وذلك منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر. وهذا ما يؤكده إداور بلونديل في كتابه الموضوع بالفرنسية، “سنتان في سوريا وفلسطين”، المطبوع في باريس، في العام 1840، بعد أن أمضى عدة أسابيع في بيروت خلال سنتي 1838 و1839 : “منذ أن انتظم خط الإبحار في السفن ذات المحركات البخارية (بين بيروت وغيرها)، وزاد عدد المسافرين عليها، تبدت الحاجة في بيروت لإقامة فندق فيها، وبعد أن نجح أحد رجال الإعمال في ذلك، سارع آخر إلى الاقتداء به”. قبل ذلك كانت الإقامات المتقطعة موقوفة على بعض الأديرة، كما يرد خبر ذلك في غير تقرير عند المسافرين الأوروبيين، مثل الأميركي جوناس كينغ، الذي يفيد، في رحلته في العامين، 1826 و1827، أن الأديرة كانت المكان الأكثر “هناء” للإقامات هذه، إذا ما قورنت بخانات المسافرين، التي كانت “غرفاً من دون أسرة، أو كراسٍ، عدا اختلاط النيام بعضهم مع بعض ومع أسرجة الخيول. وكانت خانات المسافرين تقي المسافر من الشمس والريح والمطر، إلا أنها ما كانت توفر له هناءة العيش السلمية”.
هكذا اختار المسافرون الأوروبيون في بيروت الإقامة، على سبيل المثال، في دير الكبوشيين حتى ثلاثينات القرن التاسع عشر، فيما كان المسافرون الآخرون يعتمدون على استقبال البعض لهم. أما السكان المحليون فيكتفون بالإقامة في الخانات، بعد أن يصطحبوا معهم سجادة بمثابة سرير، و”مشلحاً” مثل غطاء لهم. كما توفرت في بيروت عدة خانات لإقامة الدلالين والسياح والمواطنين، فيحلون في غرف صغيرة خالية من الأثاث والأمتعة، ومن الصعوبة بمكان إيجاد غرف مؤثثة في المدينة.
المدعو جوزيبي باراسيهيفا، اليوناني المولود في مالطة، هو الأول، حسب شهادات أكثر من رحالة أوروبي، الذي افتتح فندقاً، أو نزلَ ضيافةٍ مدفوعةِ الأجر، منذ 1830، بعد أن استقبل غير واحد منهم، مثل طبيب الليدي ستانهوب وغيره. ثم أقدم الإيطالي المدعو باتيستا على إقامة فندق ثان، وردت أخباره في تقارير عدد من الرحالة الأوروبيين. وفي ما خلا هاتين “اللوكندتين” لا يعثر المسافر على نزل، سواء في سوريا أو في فلسطين، إلا في الأديرة، على ما يؤكد بلونديل. ومع إنشاء هذين الفندقين، التغير كبير ومفاجئ، وهو ما لا يعدم تسجيله غير رحالة أوروبي، مثل البروفسور الإلماني فون شوبرت الذي يُعبر عن فرحته إذ يجد نفسه “من جديد في فندق مرتب وفق الطريقة الأوروبية”.
يمكن التنبه بعد ذلك، منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، إلى أخبار فندق ثالث، فندق “بيانكي”، الذي تعود ملكيته وإدارته لأنطونيو بيانكي، المالطي في تقرير، والإيطالي في تقرير آخر، وهو يقع خارج سور مدينة بيروت من ناحيتها الغربية، قرب “ميناء الحصن”. ثم يقيم أحد الأوروبيين فندقاً رابعاً، قبل أن يقدم اللبناني حبيب رزق الله على إنشاء فندق بدوره؛ وهو الذي عاشر الأوروبيين قبل ذلك وخبر عاداتهم، إذ أتقن الإنكليزية وتنقل بصحبة بعضهم في غير بلد أوروبي، واحتذى حذوهم في تأسيس الفنادق. هذا ما فعله بدوره نقولا بسول، في خمسينات القرن التاسع عشر، وبعد أن عرف مسار رزق الله عينه، في معاشرة الأوروبيين، والاعتياد على تقاليدهم.
بات وجود الفندق ملازماً لبيروت، عدا إن سمعة هذه المؤسسات الجديدة بلغت الأوروبيين في مدنهم، بعد أن تناقل الرحالة والقناصل أخبارها. وانتقلت عمليات تأسيسها منذ منتصف الأربعينات إلى مرحلة ثانية، يمكن أن نرمز إليها بتسميات الفنادق نفسها، إذ إنها حازت على أسماء خاصة بها، مثل : “فندق بيلفي” (المنظر الجميل)، أو “فندق أوروبا”، أو “فندق الأونيفير” (فندق الكون)، بعد أن كانت تُنسَب إلى أسماء أصحابها في المرحلة الأولى.
النقلة أكيدة، لكن التنقل لم يكن سهلاً قبل ذلك العهد، إذ إن معظم المسافرين كانوا يتنقلون أرضاً في مسالك وعرة، على الجمال عموماً بين المدن الكبرى، كما كانت الدواب المستأجرة من “المكارية” وسيلة المسافرين لانتقال الجماعات والقوافل بين حاضرة وأخرى. وبدأ في منتصف القرن التاسع عشر بإنشاء شبكة طرق برية حيدة، وهي طرق “الكرّوسة”، أي التي للعربات. وكانت قوافلُ المسافرين على الدواب تعبر طرق طرابلس وبيروت وصيدا وسواها حتى ثمانينات القرن التاسع عشر.
انتظمت الحركة، إذًا، حتى إن مروجي الدعاية للفنادق المنشأة باتوا يستقبلون السياح بمجرد ركوبهم في القوارب الصغيرة، التي كانت تقلهم من السفن ذات المحركات البخارية الراسية في مرفأ بيروت، على ما يؤكد غير تقرير أجنبي. كما انتظم مع هؤلاء المروجين خط الشرّاح ومرافقي السياح في تنقلاتهم واحتياجاتهم، وراجت بالتالي، مع ذلك، عادات تعلم اللغات الأجنبية، الإيطالية أو الفرنسية أو الإنكليزية. ومع انتشار الفنادق وكثرتها قام التنافس فيما بينها، وباتت العناية باستقبال الزبائن، وبتوفير أسباب الراحة لهم، عناوين مختلفة لأشكال التنافس. وهو ما تمثل كذلك في تحسين الأثاث والزينة في غرف الفنادق، إذ باتت الحيطان، حسب أحد التقارير، مزدانة بالزخارف واللوحات الزيتية (بل بصور طباعية عنها)، وأرض الغرف مكسوة بالسجاد، والأسرة مغطاة بستائر “الموسلين”، عدا تمتع الغرف بشرفات مطلة على مناظر جميلة.
تحسنت الفنادق، بل تحسنت الحياة خارجها كذلك، بدليل أن أحد المسافرين الأوروبيين لا يجد غضاضة من البقاء في بيروت لأيام مزيدة، بعد أن أصاب سفينتهم المنتظرة ضررٌ ما أعاق وصولها إليهم في الوقت المحدد لها، وهو ما قاده إلى تذوق الحياة في بيروت أحسن تذوق، بمباهجها العديدة وعاداتها المتمدنة والمترفة، من سهر ورقص وغيرها. وبات الأوروبي فيها يشعر، على ما يؤكد غير واحد منهم، كما لو أنه في مدينته، لا خارجها، طالما أن الاعتيادات الأوروبية تكرست فيها، ولا سيما في أوساط الجاليات الأوروبية، التي تزايد عددها في بيروت منذ منتصف القرن التاسع عشر. وهو ما دفع إميل جنتيل إلى الكتابة عنها في العام 1852 بوصفها “أجمل” مدن الشرق، وهو ما تسميه إحدى الأميرات بقولها، في العام نفسه، إن بيروت هي “أقل” المدن آسيوية في مدن آسيا، و”أكثر” المدن أوروبية بين مدن آسيا. وهو ما بلغ وتيرة عالية في نهايات القرن التاسع عشر، حيث زاد، بل فاق عدد الفنادق (16 في العام 1889) على عدد الخانات.
بيروت البلدة
أتحقق في هذه الأخبار وغيرها من أن دخول بيروت في هذا المسار يعود في المقام الأول إلى مبادرات تجار أوروبيين نقلوا أعمالهم التجارية من عكا إليها، إثر مضايقات من والي عكا، ومن القيم على ماليته، حييم فرحي، حتى بدت بيروت، في تقرير أحد القناصل، منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، “جمهورية التجار”، كما يسميها. إلا أن دخولها هذا يبقى غير أكيد، أو حاسم بالضرورة على تطورها اللاحق، إذ إن عدد السكان فيها لا يزيد على تسعة آلاف نسمة، ولا تعدو كونها بالتالي بلدة كبيرة، أو مدينة صغيرة للغاية، تحيط بها الأسوار المعززة ببرجَين، ولا يزيد طول سورها من “باب السراي” إلى “باب إدريس”، أي من شرقها إلى غربها، على 370 متراً، ومن مرفئها القديم إلى “باب الدركة”، أي في الجهة الجنوبية منها، على 570 متراً. وكانت بيروت، بالتالي، مدينة عثمانية كغيرها من دون أي ميزة، ولا تحسن أو تعتاد على استقبال الغرباء فيها، إذ يتم فيها مثل غيرها إقفال بواباتها عند غروب الشمس، ويمنع على المارة التجوال في أحيائها من دون قنديل، على ما ينقل أحد المستشرقين. وهو ما يدعو جيرار دي نرفال إلى الاستغراب، عند زيارته لها، “إذ إنها لا تناسب الفكرة الرائجة عنها في أوروبا، وهي أنها عاصمة لبنان”. إلا أن استغراب دي نرفال لا يُخفي، مع ذلك، سرعة التطور الذي يقتضيه دخول بيروت في خطوط المواصلات التجارية الأوروبية مع الشرق، وهو ما يُجمع على وصفه وتأكيده غير رحالة، بأوجهه المختلفة.
إن دخول بيروت في هذه الدورة التجارية، الأوروبية-المحلية، يتبعه ويؤكده تطور تجاري متعدد الأوجه، مثل تعلم اللغات أو فتح المصارف أو استقبال الإرساليات التبشيرية ذات الدور التعليمي المنشط والقوي. وهو الدور الذي ستستكمله بيروت مع توسيع مرفئها، وتحسن خطوط النقل فيها، منها وإليها. وهو ما يقوله جون ديربين، مدير إحدى المدارس في بنسلفينيا، إذ يقول إن “الوصول إلى بيروت يكاد يكون مشابهاً لعودتنا إلى بلادنا”.
دخلت بيروت، مع الفندق وبواسطته، عهداً مغايراً اتسم بالتفاعل والتخالط والخروج من عهد الانغلاق، حيث بات الاتصال بالأجنبي، بل التعايش معه، شأناً مألوفاً، وهو ما جعل السفر من اعتيادات الإنسان الجديدة، خاصة بعد تنامي وسائل النقل، وهي السفن ذات المحركات البخارية، على ما يقول الكونت دو برديو، في مطلع تقريره عن رحلته : “كنا نقضي (قبل هذا العهد) ثلاثة أيام بين (مرفأ) الهافر (في فرنسا) وبين باريس، وكنا نعمد إلى كتابة وصيتنا إذا ما اضطررنا إلى عبور حدود المملكة (الفرنسية). وكان أي رجل يقدم إلينا من الشرق، ووقع نظره على أحد الأتراك، شخصاً نادراً، وما كنا ننظر إليه من دون شىء من التبجيل. أما (اكتشاف) السفن البخارية فقد سهل علينا الأسفار (…) وبتنا، اليوم، نتحدث في صالونات باريس عن الشرق، سواء في الهند، أو في الصين، مثلما كنا نتحدث فيما مضى عن (المدينتين الفرنسيتين) روان وأورليان. وبات المسافر الذي قام برحلات، باتت اعتيادية، إلى إيطاليا وسويسرا، يمتنع تقريباً عن المشاركة في مثل هذه الأحاديث”. وباتت بيروت، بفضل السفن البخارية كذلك، قريبة في خطوط السفر للأوروبيين، وتحتاج السفينة للوصول إليها ثمانية أيام فقط، حتى إن البعض من الفرنسيين، على ما يقول أحدهم، مستعد لتمضية أيام فيها، “هي لا تعرف الشتاء أبداً”، بدلاً عن نيس أو من مدن أخرى على المتوسط.
غير أن الخروج “العلني” هذا لم يكن ميسراً، بل واجهته ممانعات ذات أسانيد مختلفة، دينية واجتماعية وقيميمة وغيرها، ما يظهر في أحياز جديدة باتت تتعين في العمران نفسه: فتكون أبنية صالحة للأجانب في المقام الأول، أو التمايز بين مقاه يرتادها الأجانب، وأخرى خاصة بـ”البلديين”، كالحديث بل التمييز بين “المقاهي” و”المقاهي العربية”، على ما يشير إلى ذلك “دليل بيدكر” السياحي، الصادر في مطالع القرن العشرين.
وينتبه الدارس إلى أن حال المقاهي “البلدية” كانت صعبة، بل متردية، خاصة وأن من يرودها في المقام الأول أناس هامشيون، أو من “عصابات السوء” وغيرهم. وهو ما يستوقف الكاتبين العرب ممن تعرفوا على المقاهي الأوروبية، مثل علي مبارك، الذي كتب في “المسامرة الحادية عشرة” : “سبحان الله، أرى الإفرنج يعتنون بإتقان جميع الأشياء، حتى خاناتهم ووكايلهم لا يتساهلون فيها كتساهلنا في خاناتنا ووكايلنا، فترى المسافر إذا نزل بمكان من خاناتنا ووكايلنا وجد المكان مجرداً من كل شيء، فلا يجد به ما يأكله أو يشربه أو يفرشه أو يستعمله، والويل لمن يمضي عليه بها الليل، لأنه يكون تحت تصرف أنواع الحشرات من البرغوث والقمل والبق والبرغش”. ويجد كلامه هذا صداه في زيارته التي أجراها لأحد المقاهي في مرسيليا : “أين من هذا غالب محلات القهوة في مصر، حيث يجتمع السوقة من الناس ولا ترى ما يقر الناظر ويسر الخاطر، ولا شيء فيها غير القهوة. وتراها لضيقها يهجم عليها الدخان المتصاغد من الكانون، وكذلك دخان النرجيلة والعود ونحو ذلك، حتى يراهم من يمر بهم كأنهم في حريق أو محل سجن مضيق، فهي منبع لكثير من الأمراض والعلل، ومأوى لأهل البطالة والكسل، خصوصاً المحلات التي يتعاطى فيها الحشيش فلا يسمع فيها إلا الألفاظ التي يمجها السمع، وينفر منها الطبع، وقلما خلت من السبب والضرب. فهي بهذه الكيفية لا تليق بالأمراء والأعيان والفضلاء” (للكلام تتمة).
***
(*) من كتاب : “العربية والتمدن : في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة”، جامعة البلمند مع دار النهار للنشر، بيروت، 2008.