بيروت

نيفين مسعد

 

عندما شرعتُ أكتب عما جرى في مرفأ بيروت قبل أيام وجدتني أختار لمقالي عنوان “بيروت” هكذا بلا أي إضافات، بدت لي عناوين مثل انفجار بيروت أو زلزال بيروت أو ١١سبتمبر بيروت غير ملائمة تماماً، أقول غير ملائمة لأنني اعتدت عندما أُفجَع أهرب. في كل لحظات الألم العظيم التي مررتُ بها في حياتي كنت أدخل في حالة إنكار وأتصرفُ كأن شيئا لم يكن، لكن هل يمكن أن أتصرف كما لو أن بيروت لم تحترق أو كما لو أن قلبي لم يحترق علي بيروت؟ مرتبكة جداً لكن دعنا نحاول. هذا المرفأ الذي تطاير شظايا وأشلاء وقطع زجاج بلورية شفافة تلمع وتذبح، هذا المرفأ رست عليه سفينة الجزائر التي ركبتها في رحلة أوائل الثانوية العامة عام ١٩٧٤ فمشيت من الميناء لأتعرف علي بيروت وأحبها لأول مرة. يقول إحسان عبد القدوس: في حياة كل منا وهم كبير اسمه الحب الأول، وأظن أنه لو أدخل إحسان بيروت في حسبانه لاحتاج لإضافة أداة استثناء إلي جملته الشائعة بحيث تُقرَأ هكذا: في حياة كل منا وهم كبير اسمه الحب الأول.. إلا حب بيروت، فهو حقيقة ولعله حتى الحقيقة. بالطبع لم يكن مرفأ السبعينيات كمرفأ ٢٠٢٠.. كان المرفأ القديم بلا نترات الأمونيوم فقط سفن وركاب وبضائع وسلام، لم يكن يحتاج المرفأ إلي نترات الأمونيوم في هذا التاريخ ولعله حتي لم يكن يعرف أنه سيحتاجها بعد أقل قليلاً من نصف قرن ليفجّر بها الحافة التي يقف عليها الجميع، لكن علي أي حال فإنه فيما بين التاريخين قامت متفجرات أخري بالواجب وأشعلت حريقا تلو آخر في لبنان.

***

قبل عدة أسابيع بلغني أن محل ملك البطاطا سكّر أبوابه بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة وعرض أصحاب المحل علي من يريد أن يستلم إدارته الاتصال بهم. ملك البطاطا هو أحد أشهر معالم شارع الحمرا في بيروت، هو لمن لا يعرفه مثل محل محمد أحمد في الإسكندرية أو محل التابعي في القاهرة فالشاورما في لبنان مثل الفول والطعمية في مصر، وشاورما ملك البطاطا كتير طيبة كما يقولون. اتصلت بالمحل لأتأكد بنفسي فأتاني صوت أحدهم مرحباً: يا هلا بمصر وأهل مصر، اللبنانيون هم دائماً هكذا بنفس الود ونفس البِشر ونفس الدفء. سألت: هل تعرضون المحل للبيع أم للإيجار؟ رد: كِيف ما بدك سِتْنا! ظن الرجل الطيب أني أريد شراء محله. اعتزمتُ أن أكتب مقالاً في وداع محل ملك البطاطا تماماً كما كتبتُ من قبل مقالاً في وداع فندق البريستول، ثم بدون سبب انتظرتُ.. انتظرتُ وكأني أشعر في داخلي أن وداعاً أكبر قادم في الطريق.. وداع الميناء والممشي وأحياء بيروت القديمة، أخشي وأنا أودع أثراً بعد أثر أن لا يعود شئ من بيروت حيث عشت وأحببت وانطلقت وذبت.. أعوذ بالله، لبنان خلق ليحيا ويقاوم.

***

أتاني صوت الصحاب من بيروت هلعاً مرتبكاً مصدوماً، كنت باقطع الطريق وقت صار الانفجار قال أحدهم، كنت داخل المحل وحمد الله ما كان عنّا زبونات قالت أخري، كنت مع عيلتي ع الكورنيش بدنا شمّة هوا قالت ثالثة، كنت في المنزل أو المكتب أو المقهى أو.. أو.. من فجرّ الميناء أحسن اختيار التوقيت.. الكل يقضي أغراضه قبل إقفال البلد لمنع انتشار كورونا، والكل أصابه من شظايا الزجاج شذرات. من بين عشرات الصور المؤلمة الكثيرة هزتني من رأسي لقدمي صورة لبنايات بيروت الحبيبة وقد باتت ليلتها بدون نوافذ، حرمة البيوت انتُهكت كما حرمة لبنان نفسه منتهكة من الجميع، ومع ذلك يثرثرون كثيراً عن مبدأ النأي بالنفس ويجعجعون دون طحين، ومن غير المعلوم بالضبط أين تكمن المشكلة علي وجه التحديد في شعار “النأي بالنفس” هل تكمن في كلمة النأي أم تكمن في كلمة النفس. يحدثنا مدير مرفأ بيروت قائلاً “كنا علي علم بخطورة المواد في المرفأ لكن ليس لهذا الحد”!!! نعم؟ ليقل لي أحدكم أني أحلم وأن صوت الانفجار الآتي من ضفاف لبنان عطّل حواسي فلم ألتقط جملة صاحبنا ع المضبوط.. كنا نعلم بخطورة المواد المتفجرة لكن ليس إلي هذا الحد، فأي حد إذن يُسمح به للمتفجرات أن تستكين آمنة في حضن المرفأ دون مشكلات؟ ريتك تمون علينا بشرح يا سيادة المدير .

***

أحد طلابي السابقين من الجزائر بعث لي بعلَمَين متعانقين أحدهما للجزائر والآخر للبنان، وتحتهما جملة تقول: كلنا معكم أمي. يظن الابن العزيز أنني من لبنان، من فرط حبي للبنان يظنني من أهله، لم أصحح له معلوماته -وهو علي أي حال ليس أول من يقول لي ذلك- ورددت عليه بجملة قصيرة كما كانت جملته قصيرة: شكراً لك، لكنه حين يقرأ هذا المقال سيعرف الحقيقة، سيعرف أنه ليس شرطاً للحب أن أكون حاملة للجنسية اللبنانية، ولا العكس أيضاً فكثير من أصحاب الجنسية اللبنانية لا يحبون لبنان، ولقد قالتها ماجدة الرومي بكل وضوح: أنّا كنّا منك نغار وكان جمالك يؤذينا.

***

يا بيروت يا ست الدنيا.. طمنينا ع حالك، احكِ لنا عن غضبك ووجعك وصدمتك وفضفضي، قولي لنا أنكِ تستحقين الأفضل والأجمل وأنكِ تعبتِ من الصراع والعراك وأزيز الطائرات، اطلبي منهم جميعاً أن يحملوا مشاريعهم إلي أرض الله الواسعة ويرحلوا عنك فقد أخذتِ نصيبك من الألم وزيادة. وإلي أن تتعافي حبيبتي وتعودي بيروت التي نعرفها، ستظل سفينتي هائمة لا مرفأ تقصده ولا ميناء، سأنتظرك سنة وسنة ولن أمل الانتظار فما عادت لي بعد ما جرى رغبة في الإبحار .

***

(*) كاتبة بجريدة الشروق

 

اترك رد