بقلم: أحمد فرحات
على بعد 210 كلم من العاصمة الهندية نيودلهي، ثمة قصر رائع، مبني وفق طرز هندية – أوروبية – إسلامية، هكذا في تشبيكة جمالية واحدة، كان بناه الأمير حامد علي خان (1889- 1930)، وحوّلته الحكومة الهندية بعد استقلال الهند في العام 1947، إلى مركز جديد لمكتبة رامبور الرسمية، ثم غيّرت اسم المكتبة لاحقاً ليصير “مكتبة رضا”، وذلك وفاء للأمير رضا علي خان، أحد حكام ولاية رامبور المتنورين، والذي كان جعل من المكتبة وقفية عامة، وزوّدها بالكثير من الكتب والمخطوطات واللوحات الفنية، وحوّلها، مع الإمارة كلّها، إلى مركز إشعاع فكري وثقافي في الصميم.
تأسست مكتبة رضا في العام 1737 على يد مؤسس دولة روهينة في شمال الهند، الأمير علي محمد خان، وكان حاكماً مثقفاً ومتنوراً للغاية، يقرّب منه نخب المفكرين والعلماء ورجال الأدب والفلسفة. وقد أودع ذخائره ومخطوطاته الشخصية فيها، ومثله فعل أعيان دولته من حواليه. وخلال حرب روهينة، التي جرت لاحقاً بين الإنكليز والأمراء “الروهينيين” في “روهيل كهند” في العام 1774، نقلت معظم كنوز وذخائر “مكتبة رضا” إلى “لكناو” (العاصمة الحالية لولاية أوتار براديش)، خوفاً من سرقتها وإتلافها. وتشاء الأقدار لاحقاً أن تعود المكتبة، فتنقل ثانية إلى رامبور، وذلك بعد سقوط ”لكناو” في العام 1857.
كانت الفترة ما بين 1894 و 1935 (أي منذ عهد الحكيم أجمل خان، إلى عهد السيد جيف مان) بمثابة العصر الذهبي للمكتبة، خصوصاً لجهة رفدها بالكتب والمخطوطات النادرة، من مختلف أصقاع الهند، والدول العربية والإسلامية، وكذلك من خزائن ومكتبات العديد من حكّام الولايات الهندية، وأمراء المقاطعات فيها، و”أطقمهم” البشرية المتنورين.
كنوز المكتبة
تضم مكتبة رضا في رامبور حالياً أكثر من 90 ألف كتاب قديم مطبوع باللغات العربية والأردية والفارسية والسنسكريتية والبشتية وغيرها. وثمة في المكتبة أكثر من 21000 مخطوطة، بينها 5500 مخطوطة عربية.. فضلاً عن 5 آلاف لوحة فنية من تصاوير ومنمنمات نادرة.. و3100 لوحة خطوط عربية، أبدعتها أيدي كبار الخطاطين العرب والمسلمين.
وممّا يدلل أكثر على أهمية هذه المكتبة ومركزها الإشعاعي، أنها تمتعت بإشراف ورعاية (عدا أمراء آل خان الذين تعاقبوا على ناصية حكم ولاية رامبور) جبهة مبرزة جداً من الشخصيات السياسية والأدبية والعلمية الهندية، مثل الشاعر الأمير ميناي، والبروفسور نور الحسن، حاكم ولاية البنغال الغربي، ومولانا أبو الكلام آزاد، ومولانا امتياز علي عرش، ومولانا نجم الغنى، والحافظ أحمد علي خان شوق وغيرهم.. وغيرهم.
وبوهج من قوة حضور المكتبة وتأثيرها، اندفع الأمير ميناي، مثلاً، في الاشتغال بحماسة على قاموسه المعروف: “أمير اللغات”، والذي كانت قد ذاعت شهرته وقتها، أي بعد إنجازه، وبات من علامات المكتبة الكبرى اليوم.
وكان للبروفسور نور الحسن، وزير التربية الهندي في العام 1975، خدمات جُلّى على مكتبة رضا، لم يبلغ غزارتها أحد سواه، بعد استقلال الهند؛ فبفضله مثلاً، أصبحت المكتبة، مكتبة وطنية شاملة، وازدادت ميزانيتها السنوية من 48 ألف روبية، إلى مئات الآلاف، بل الملايين من الروبيات الهندية اليوم.
ومن جهته، قام مولانا امتياز علي عرش، بإعداد ونشر العديد من الكتب الشعرية والنقدية والأدبية والعلمية، وضخّها في عداد نفائس المكتبة.. وفي طليعتها ديوان شاعر الأردية الكبير، ميرزا أسد الله بك خان (1797 – 1869)، والشهير بمثنوياته وغزلياته وقصائده الوجودية، والذي جدّد من خلالها بالبنية الشعرية الهندية، لغة ورؤية ومضامين مغايرة. وما تزال دواوينه تطبع إلى اليوم، نظراً للإقبال الشديد عليها، ليس في دول شبه القارة الهندية وحدها، وإنما في شتاتها البشري على مستوى العالم كلّه.
وإذا أوغلنا بعد في ذخائر مكتبة رضا في رامبور، لوجدنا كتباً عدّة مرَ عليها أكثر من ألف سنة، وقد نسخ بعضها على الرقاع وأوراق النخل، ومن أبرزها المصحف الشريف، الذي يقال إن الإمام علي، كرم الله وجهه، كتبه بخط يده على رقاع من جلود الإبل، وبالخط الكوفي المعروف بجماليته الآسرة. وثمة نسخة أخرى من المصحف الشريف كتبت بخط يد عميد الخطاطين العرب والمسلمين، أبي علي محمد بن حسين بن مقلة البيضاوي البغدادي. وكان ابن مقلة رئيساً لوزراء بغداد وقتها، أي في العام 928 م، وهو الذي اخترع كتابة العربية بخط النسخ، بدلاً من الخط الكوفي، وهو المخترع الأول لخط النسخ وتحسينه.
وثمة نسخة من القرآن الكريم، خطّها وزيّنها بالذهبي، واللازوردي، والعقيقي، الخطاط البغدادي الشهير يعقوب المستعصمي، وهي نسخة وحيدة لا وجود لها في أيٍّ من المكتبات العربية والإسلامية. وممّا احتضنته مكتبة رضا، ولا وجود له في مكتبات أخرى أيضاً، مخطوط مهم جداً على مستوى تفاسير القرآن الكريم، وهو كتاب تفسير علي عبد الله سقيان الثوري، المتوفي سنة 777 م. ويرجع زمن النسخة إلى القرن التاسع الميلادي.
وثمة كتاب يعدّ الأول بين ذخائر الهند والعالم الإسلامي، ونعني به كتاب: “رسالة غرامية في السلوك” للمؤلف أحمد الغزالي، شقيق الإمام الغزالي، المتوفي سنة 1123، وقد احتوته المكتبة، مع مخطوطة نادرة لمؤلف “شرح الكفاية” للرازي.
وتضمّ المكتبة كذلك، مخطوط ” ديوان بابر”، أو “بياض بابر”، المكتوب سنة 1538 وهو يعدّ من الذخائر الأدبية والشعرية الاستثنائية في العالم كلّه، وقد أثبت “بابر” في الصفحة الأخيرة من “ديوانه” بيتين بخط يده.
كما تحتوي المكتبة على ديوان الخواجة حافظ شمس الدين الشيرازي، المتوفي سنة 1388، وهذا الديوان له شهرة عظيمة لما فيه من محاسن الكلم ونوادر الحكم. وقد اهتم الإمبراطور المغولي “أكبر” بنفسه، بديوان الحافظ، فأمر بترتيب نسخ عدّة منه، وإعمال التصاوير فيها كلّها، لتبقى تذكاراً تليداً على كرّ الدهور. وطبقاً لما فرضه منطق التاريخ إلى يومنا هذا، فلم يعد من تلك النسخ الشعرية الحافظية إلاستثنائية، سوى نسخة واحدة في الهند، وهي موجودة في مكتبة رضا الآن تحت الرقم: 336، وتشتمل على 402 صفحة.
ومن بين المخطوطات العربية التي تحتوي عليها المكتبة، وعددها كما ذكرنا يقارب 5500، ثمة من بينها 673 مخطوطة تمتاز بجودة خطها، ونضارة صفحاتها، على الرغم من قدمها، وهي تتناول موضوعات في الأدب العربي والتصوّف والفلسفة والطب والفلك والرياضيات، والأديان.. والكثير منها ينتظر التحقيق والنشر من جديد.
وثمة مخطوطات بلغة بشتو الكابولية. وهي اللغة القومية لأهل روهينة، الذين أسسوا ولاية رامبور في “روهيل كهند”. وهذه المخطوطات تشتمل على آداب بشتوية، من شعر ونثر ونوادر وحكم وقصص وسرديات تاريخية، وبعضها مصور مثل “ديوان رحمان”، و”ديوان خابور”، و”الديوان الأزرق” للشاعر الغزنوي رحماني زهيدي، صاحب المقولة الشهيرة:”الشاعر هو من يعيش كما يفكر، لا من يفكر كما يعيش”.
في العام 1984 زار الهند وفد أفغاني من مجمع بشتون في كابول، وعلى رأسه كلّ من المفكرين الكبيرين: عبدالرحيم جدران وزلمي هوامل. وقد جال الوفد على عشرين مكتبة هندية تحوي مخطوطات باللغة البشتوية، وكانت نتيجة الزيارة، وضع فهرس علمي لهذه الذخائر، قوامه 144 مخطوطة، بينها 55 تحتضنها مكتبة رضا وحدها.
وفي مكتبة رضا أيضاً مخطوطات سنسكريتية وهندية، وأخرى بالعديد من اللغات المحلية، لا يقلّ عددها جميعاً عن ألف مخطوطة. وقد نسخ بعضها بخط “ديونا غري” (نوع من الخطوط الهندية يعشقه الكثير من الفنانين التشكيليين في الهند وسائر العالم الإسلامي غير العربي) والخط الكوفي. كما يوجد بين هذه المخطوطات، النسخة القديمة من “بد ماوت” لمؤلفها “منك محمد الجائسي”، شاعر اللغة الهندية الكبير، المتوفي سنة 1541 م.
وثمة في المكتبة أكثر من 1700 مخطوطة باللغة الأردية، وفي نحو 80 موضوعاً، معظمها مكتوب بخط مؤلفيها. وهناك كذلك، كتب منقولة إلى الأردية من لغات أخرى مثل ترجمة “راماينا” لأحمد خان غفلت، ومسودات حول تاريخ رامفور، وكتابات للمولوي عبدالمجيد خان، ومؤلفات لعلماء رامفور في الفقه والحديث والتاريخ والدرس الفلسفي الآسيوي.
مكتبة رضا في رامبور ثروة علمية وثقافية، ليس للهند وحدها، وإنما للعالم بأسره. وقد اعترف كثيرون من أهل العلم والثقافة، في الشرق والغرب معاً، بكونها أعظم مكتبة آسيوية، لما تتضمنه من كتب قديمة وذخائر علمية نادرة. قال العلامة شبلي النعماني، الذي زار المكتبة في شهر إبريل / نيسان من العام 1914: “جلت في مكتبات الروم ومصر وبغداد ودمشق الكبرى كلّها، ولم أجد بينها ما هو أغنى وأغزر وأندر من نفائس مكتبة رامبور الهندية، وقد استفدت منها أضعاف ما استفدته من غيرها، داخل الهند وخارجها”.
من يزر مكتبة رضا في رامبور، وكاتب هذه السطور زارها، يخرج بانطباع تكرسه فيه “رهبة المعرفة المتناوبة”، فيقول في سره والعلن: حقاً إن الثقافة بصروحها الكبرى، هي فعل استراتيجي حقيقي في قلب عملية التحوّل التطوري للشعوب والأمم.
والهند، إنما حقّقت ما حقّقته حتى الآن، من تطوّر علمي وثقافي، فبفضل اتباعها تلكم الاستراتيجية الثقافية وصروحها قطعاً.
**********
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق
كلام الصور
1- 2- 3- مخطوطات عربية في مكتبة رضا