الحسني غـابـري(**)
مـقــدمـة:
يطرح موضوع «الكتاب والقراءة» في الثّقافة العربيّة – الإسلاميّة العديد من القضايا والإشكاليّات التي تستوجب من كلّ من يرغب في تفسير واقعها التوقّف عندها، ذلك أنّ قراءة ظاهرة ما أو تفسيرها يستدعي ضرورة النّظر في مسارها التّاريخي حتّى لا يكون ما يُطلق من أحكام أو مواقف مجرّد انفعالات لا أساس علمياً أو موضوعياً لها. والكتاب في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة محور قديم متجدّد، قديم باعتباره كان مشغلاً من مشاغل منتجيها والقائمين عليها، وجديد باعتبار تغيّر القضايا الحافّة به. وقد اخترنا لهذا المقال عنوان «العرب والكتاب: من هواجس التّدوين إلى أزمة القراءة»، تشخيصاً لوضع الكتاب في الثّقافة العربيّة – الإسلاميّة، ماضياً وحاضراً، في محاولة لتبيّن المتغيّر في مسار العلاقة بين الإنسان العربي المسلم والكتاب، وسعياً إلى بيان ما بدا لنا من أسباب عميقة كامنة وراء هذا التّحوّل الحاصل في هذه العلاقة، علّنا نساهم ولو بقسط في تشخيص ما يبدو لجميع الملاحظين والمهتمّين بمثل هذه القضايا من واقع مَرَضِي، عسانا نسهم ولو بقسط كذلك في بلورة بعض الحلول لإعادة العلاقة بين الطّرفين إلى شيء من توازنها المفترض، باعتبار أنّ تشخيص الإشكال هو الخطوة الأولى والمحدّدة لتصوّر الحلول والبدائل الممكنة.
أولاً: هواجس التّدوين: ألق الكتاب وازدهار الحضارة
من المعلوم أنّ القضيّة المنطلق في تاريخيّة الكتاب في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة هي قضيّة التدوين التي كثر فيها الحديث، واختلفت فيها الآراء من حيث انطلاقتها وتركّزها وعلاقتها بالمشافهة وصلاً وفصلاً، أو اتّصالاً وانقطاعاً. ولئن اتّفقت أغلب الآراء على إرجاع مسألة التدوين إلى القرن الثاني للهجرة الذي يمثّل بحسبها تاريخاً لانطلاقتها الرسميّة، فإنّ المواقف حول هذا الرّأي السائد والغالب ليست واحدة، بل هي كثيرة، وتبدو أحياناً متباينة. من ذلك هذا الموقف لأحمد أمين في كتابه فجر الإسلام الذي يقول فيه «ذهب بعضهم إلى أنّ تدوين العلوم والأخبار لم يحدث إلا في القرن الثاني للهجرة، وهذا على ما يظهر لنا غير صحيح، فإنّ التدوين بدأ من القرن الأوّل، بل كان قبل الإسلام تدوين، وكان هذا التدوين كثيراً في البلاد المتحضّرة، كاليمن والحيرة، وقليلاً في بلاد الحجاز… فلمّا جاء الإسلام اتّخذ النّبيّ (ﷺ) كتبة للوحي… وعُني بعض الصّحابة بكتابة حديث رسول اللّه (ﷺ)… فهذا تدوين للقرآن والحديث والرّسائل»[1].
وكما هو ملاحظ، إذاً، فإنّ هذا الرّأي يبدو متعلّقاً ببداية التدوين أو بهواجس الإنسان العربي في تجاوز المشافهة التي كانت الأساس في الثقافة العربيّة، وهو أمر يرى فيه آخرون، وهم كثر، أنّه ساد الطّور الجاهلي، فلم يبدأ التدوين في تحسّس خطواته الأولى إلا مع مجيء الإسلام، ذلك أنّ العرب «لم يكترثوا في الجاهليّة بتدوين آثارهم، لأنّهم كانوا يعتمدون على الذاكرة لحفظ ما تنتج قرائحهم، وما يهمّ حياتهم الفكريّة. فقد حفظوا المعلّقات، وهي ذروة آثارهم الفكريّة، وكان الأدب ينتقل بالمشافهة، وكانت الذّاكرة سجلّ العربيّة الأوّل»[2].
وممّا يمكن إضافته في هذا الإطار أنّ اختلاف الآراء حول هذه المسألة لا ينفي الاتفاق حول ما تحقّق في مسارها، انطلاقاً من مجيء الإسلام، هذا الدّين الذي حمل رؤية جديدة للكون وللحياة، باعتبار ما قدّمه من إجابات عن أسئلة حيّرت الإنسان العربي بداية، والإنسان بشكل مطلق، منها ما يتعلّق بالغيبيّات في ما بين نشأة الإنسان ومصيره، ومنها ما يتعلّق بمجال الحياة اليوميّة، وما تقوم عليه من معاملات، وما تحتاج إليه من معارف، وهو ما وجّه المعرفة صوب تصوّرات جديدة تقوم على تفسير العالم بدل تأويله، كما يذهب إلى ذلك الكثيرون. كلّ ذلك جعل الفكرة الجوهريّة التي ستسود منذ تلك الفترة هي فكرة «النّظام» التي ستهيمن على كلّ مجالات الحياة والفكر[3]، وهي المنطلق، في رأينا، للحديث عن مسألة التدوين. ولكن، وإن كان هذا الرّأي على درجة من الصّواب، فإنّه يبقى محدوداً، وذلك بالنّظر إلى ما ذكر عن الاهتمام بالكتابة في الجاهليّة، بل لعلّنا لا نتجاسر حين نقول إنّ في احتفال عرب الجاهليّة بأشعارهم وشعرائهم في إطار أجواء التّنافس التي كانت تنشأ بينهم، وكتابة القصائد الفائزة التي عرفت بالمعلّقات، وتعليقها على أسوار الكعبة، ما يؤكّد حضور هاجس التدوين منذ تلك الفترة.
يمكن القول حينئذ إنّ ما يظهر من اختلاف حول عمليّة التدوين في الثقافة العربيّة هو بالأساس، في رأينا، اختلاف حول تحديد مفهوم التدوين في حدّ ذاته. فمن يراه مجرّد كتابة يُرجع ميلاده في الثقافة العربيّة ضرورة إلى ما قبل الإسلام، ومن يراه عمليّة كتابة تقوم على الجمع يعتبرها انطلقت منذ عهد عثمان، مجسّدة في جمع القرآن، ثمّ مع الصّحابة الذين عنوا بعد ذلك بتدوين الحديث أو السّيرة، قولاً وفعلاً، وهو ما يشير إليه الرّأي الذي يقول: «قبل انتهاء القرن الأوّل للهجرة أوعز الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز للإمام مالك بن أنس، عالم المدينة ومرجعها، أن يجمع حديث النّبيّ خوفاً عليه من الضّياع، ثمّ أخذ العلماء يحفظون بالكتابة، ولأسباب دينيّة وأدبيّة، أخبار فجر الإسلام، وسيرة النّبيّ، وتاريخ الفتوحات والشّواهد الأدبيّة، فانتشرت الكتابة، وتمّ تسجيل ما علق في الأذهان من الأدب القديم»[4].
وأمّا من يرى التدوين حركة تؤكّد ازدهار الكتابة من النّاحية المادّية/الكمّيّة، والنّاحية التّقنيّة/الفنّية التي تعني ضرورة الجمع مع التبويب والتّصنيف، فإنّه يؤخّر هذه المرحلة إلى انتشار الإسلام تدريجياً، الأمر الذي مكّن من الانفتاح على تجارب الأمم الأخرى، والاستفادة منها في هذا المجال. لذلك يرى البعض أنّه «لمّا اشتدّت النزعة إلى معرفة ثقافة الشعوب المتعدّدة التي دخلت في الإسلام، أصبحت التّرجمة عملاً منظّماً تشرف عليه الدّولة، وتنفق في سبيله أموال الخزينة. وقد ساعدت حركة النّقل على التأليف، وعلى حفظ الإنتاج العربي، وغير العربي، من الضّياع»[5].
فانطلاقاً من هذا الرّأي الذائع الانتشار لدى الدارسين والباحثين تقترن عمليّة التدوين، بل تطوّرها، بانفتاح الحضارة العربيّة على غيرها من الحضارات في إطار الإسلام، ذلك أنّ لهذه الأخيرة السّبق في مجال الكتب والتأليف، فكان لنشاط حركة التّرجمة الفضل في الاطّلاع عليها، ومن ثمّ كان سعي العرب إلى الاستفادة منها، كمّياً ونوعياً. والواقع أنّ أصحاب هذا الرّأي – وهم الأغلب – يستندون في ذلك إلى أنّ عمليّة التّدوين لا تعني مجرّد الجمع، وكذلك ليست مجرّد حفظ للموروث الثقافي العربي الإسلامي من الضّياع، وهي أيضاً ليست مجرّد تصنيف له حتّى يسهل تداوله، ولكنّ الأمر يعني «عمليّة إعادة بناء ذلك الموروث الثقافي بالشّكل الذي يجعل منه «تراثاً»، أي إطاراً مرجعيّاً لنظرة العربي إلى الأشياء، وإلى الكون والإنسان والمجتمع والتّاريخ»[6].
لا شكّ، إذاً، في أنّ العرب، حاملي رسالة الإسلام إلى غيرهم من الأمم، قد حملوا الجديد المقترن بهذه الرسالة نفسها، فأفادوا. ولكنّهم، وبفضل الإسلام، أيضاً، قد اطّلعوا على ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتها، فانتبهوا إلى ما تجاوزتهم فيه، وخاصّة في ما يتعلّق بالعلم والمعرفة، وما ينبغي على الإنسان في إطارهما لكي يغنم ويغيّر في واقعه، وفي واقع الأجيال اللاحقة إن هو أراد ذلك. وفي هذا السّياق، كان التدوين أمراً ملحّاً يحتاج إليه هذا الطّور الجديد لهذه الحضارة وهذه الأمّة. لذلك، كان من الضّروري أن يقوم على أسس جديدة ومتطوّرة تتجاوز خطواته الأولى التّقليديّة الوئيدة، وفي ذلك يقول أحمد أمين: «ويظهر ممّا عثرنا عليه أنّ التّدوين بدأ بتقييد العلم من غير أن تظهر فيه للمؤلّف شخصيّة ما، وليس له إلا الجمع. وكانت الكتب عبارة عن صحف يكتب عليها، وقد تكون صحفاً مفرّقة ومبعثرة. فلمّا دخل الفرس والروم في الإسلام – وقد كانوا ذوي حضارة قديمة، وكتب مؤلّفة من قبل – أدخلوا على اللّغة العربيّة بعد أن تعلّموها نظام تأليف الكتب بالمعنى الذي نفهمه الآن، من جمع ما يتعلّق بالموضوع الواحد في كتاب واحد»[7].
إنّ اختلاف الآراء بشأن قضيّة المشافهة والتدوين يؤكّد أنّها مسألة مهمّة، بل ومفصليّة في تاريخ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، نظراً إلى ارتباط مجموعة من الحقائق بها، إذ «تمثّل منعطفاً مهمّاً لم تكد تسلم منه أمّة من الأمم، إذ هو يشير إلى تحوّل جذري من نمط من العيش إلى نمط آخر، ذلك أنّ الانتقال من الحالة الشّفويّة إلى حالة الكتابة يغيّر الطّابع الاجتماعي للمعرفة. ولذلك مثّلت مرحلة الانتقال هذه بالنسبة إلى شعوب كثيرة منعرجاً كبيراً»[8].
وإذ يبدو البتّ في قضيّة المشافهة والتّدوين في الحضارة العربيّة على وجه الخصوص من العسر بشكل يحول دون إصدار موقف نهائيّ قاطع فلاتّصال هذه القضيّة بأنواع مختلفة من المعارف، كالحديث النّبوي والتّاريخ والشّعر والخطب وغيرها، وهي شعب بينها علاقات متينة ساهمت في تداخلها أحياناً، وفي تداخل السّابق منها باللاّحق في أحايين أخرى، وهو ما يدعو إلى ضرورة الرّجوع إلى ما لدينا من متعلّقات كلّ شعبة منها دراسةً ومقارنةً من أجل ضبط المراحل الكبرى التي وسمت هذا الانتقال من المشافهة إلى التّدوين[9].
وإذا كان الاختلاف حول هذه القضيّة أكيداً، فإنّ محاولات علميّة كانت، وما زالت، تبذل من أجل ضبط حدود حقيقيّة مقنعة لمراحل التّدوين وازدهاره في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، من ذلك الآراء التي اتّجهت صوب الجانب العملي أو التّقني، فتعرّضت إلى تاريخ العناصر الفاعلة في عمليّة التّدوين من ضبط للخطّ إلى انتشار للورق مرتبط بمناسبة أسعاره للمهتمّين بالكتابة، إلى إشراف لأجهزة مسؤولة تدفع بهذه العمليّة، ولا يمكن أن تكون غير الدّولة. لكلّ ذلك، كان الحديث عمّا شهده القرن الأوّل للهجرة من محاولات لضبط الخطّ العربي، فكانت الإشارة إلى وضع أبي الأسود الدّؤلي (ت 69هـ) لرموز تدلّ على الحركات مع نسبة زيادة النّقط إلى رسم المصحف إلى تلك الفترة. يضاف إلى ذلك أنّ الورق المتوفّر في تلك الفترة هو ورق البردي، وهو ورق باهظ الثّمن، لذلك كان يقتصد في استعماله حتّى في الدّواوين، ما يعني أنّ انتشاره في الأوساط المهتمّة بالكتابة لم يكن على النّحو الذي يسمح بانتشارها واتّساع دائرتها، وهو ما يؤكّد احتمالاً آخر يتمثّل باقتران انتشار الكتابة والتّدوين بسهولة باختراع الورق المصنوع من الخرق وانتشاره لزهد ثمنه. وقد حدث ذلك في القرن الثّاني للهجرة، علماً أنّ تأسيس أوّل مصنع للورق في بغداد يعود إلى عهد هارون الرّشيد (حكم بين 170هـ و193هـ)[10].
صحيح أنّ محاولات التّدوين قد بدأت في فترات متقدّمة من تاريخ الحضارة العربيّة قد ترتبط بفترة الجاهليّة، كما ذهب إلى ذلك الكثيرون، وإنّ هذه المحاولات بدأت تشهد تطوّراً ملموساً مع مجيء الإسلام، وتأكّد الحاجة إلى الكتابة تثبيتاً لأسس الرّسالة الجديدة، ودعماً لانتشارها واستمرارها. ولكنّ المؤكّد أنّ هذه العمليّة ما كان لها أن تتطوّر وتزدهر بالشّكل الذي صارت عليه، والذي مكّننا بعد ذلك من الاتّصال بتراث الأوائل، ومن اطّلاع الأمم الأخرى عليه لولا إشراف جهاز رسمي قويّ يتبنّاها حتّى تكون أمراً منظّماً قائماً على أسس. وهي مواصفات لا يمكن أن تتوفّر إلا في جهاز الدّولة التي يبدو أنّها بدأت هذا التبنّي منذ القرن الثّاني. لذلك يقول محمّد القاضي في محاولة للحسم في هذه القضيّة: «علينا أن نقبل بما يقال من أنّ عمليّة التّدوين تمّت بإشراف الدّولة، ابتداء من عهد المنصور العبّاسي الذي ولي الخلافة ما بين سنة 136هـ وسنة 158هـ، وطبعت الحياة الفكريّة والاجتماعيّة العربيّة الإسلاميّة بطابعها فترة من الزّمن امتدّت نحو قرن أو يزيد. فالحركة إذاً لم تكن حركة يضطلع بها أفراد، وإنّما كانت خطّة مرسومة، أسهمت الدّولة فيها بنصيب وافر، وكان للتّغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة فيها دور بارز»[11]. بهذا، يمكن أن نطمئنّ إلى ما ذهب إليه نصيب وافر من المؤرّخين والباحثين – نعتقد أنّه الغالب – إلى أنّ القرن الثّاني للهجرة هو بلا منازع تاريخ الانطلاقة الرّسميّة للتّدوين وفق التّعريف الأقرب إلى العلميّة، بمعنى أنّه التّاريخ الذي بدأ فيه هذا الأمر يشكّل ظاهرة بارزة لافتة للأنظار، لا يحتاج حضورها ولا أثرها إلى تأكيد. إنّها «مرحلة التّدوين الكبرى التي سترسم ملامح الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، وتحدّد خطواتها الكبرى، وبداية التّرجمة عن الثّقافات الأخرى واستيعاب فكرها وأدبها»[12].
وإذا كان القرن الثّاني قد عدّ لحظة انطلاق التّدوين بمفهومه الواضح والأقرب إلى الإجماع عليه من قبل أهل الاختصاص، فإنّ القرن الثّالث يشهد على قطعه لخطوات أكبر وأعمق، ولا سيّما في مجال الأدب، إذ «تمّت فيه – أو كادت – حركة الجمع والتّدوين للتّراث الجاهلي، كما خطت حركة التّعريب خطوات مهمّة بما مكّن من ظهور الوعي بضرورة ترتيب الإنتاج النّثري وتصنيفه ضمن مجالات متمايزة»[13]. ولعلّ خير ما يمثّل هذا الوعي أديب هذا القرن الجاحظ الذي أولى عناية فائقة للتّصنيف والتّرتيب والتّبويب ظهرت في القول والممارسة، ممارسة في مؤلّفاته من حيث طريقة ترتيبها وتبويب موضوعاتها، وقولاً في ما يظهر من شواهد كثيرة تؤكّد الوعي بهذا الأمر. على أنّ قيمته في هذا المجال لا تعني أنّه كان ظاهرة فرديّة أو معزولة، بما أنّ هذا الأمر قد كان هاجس أدباء هذا القرن ومفكّريه واهتماماتهم، وهو ما يظهر في مختلف المؤلّفات والمنتجات الفكريّة التي لا يمكن أن نعدم فيها أو في أغلبها هذا البعد، وإن اختلفت الآراء والأحكام بشأن قيمتها.
وإذا كان هذا شأن التّدوين في القرنين الثّاني والثّالث للهجرة، فإنّ حاله قد شهدت نهضة كبيرة وتطوّراً واضحاً في القرن الرّابع للهجرة، ظهرت آثارها في قيمة هذا القرن على المستوى الثّقافي، حيث باتت الثّقافة سمته المميّزة، على الرّغم من التّراجع السّياسي والاقتصادي. لذلك عدّ «أحسن الأزمان وأسوأ الأزمان، لأنّه كان عصر التّفكّك والاضطراب والتّناحر، وعصر ازدهار العلوم والمعارف والآداب في آن»[14]. إنّه العصر الذي أبطل الأطروحة التي تلازم بين الحياة السّياسيّة والحياة الثّقافيّة، نهضة أو انحطاطاً، ذلك أنّ بعض مظاهر الانحطاط السّياسي، على سبيل المثال، قد كانت عاملاً من عوامل تشجيع الثّقافة وازدهارها. ففي هذا الإطار، يتحدّث أحمد أمين عن دور استقلال الدّويلات وانفصالها وما له من أثر في المجال الثّقافي، فيقول: «فلمّا استقلّت الأقطار أصبحت كلّ عاصمة قطر مركزاً مهمّاً لحركة علميّة وأدبيّة، فأمراء القُطر يعطون عطاء خلفاء بغداد، ويحلّون عاصمتهم بالعلماء والأدباء، ويفاخرون أمراء الأقطار الأخرى في الثّروة العلميّة والأدبيّة»[15].
وإذا كان تشجيع السّاسة وتنافسهم عاملاً من عوامل ازدهار الثّقافة كان له انعكاساته على حركة التّدوين بلا شكّ، فإنّ من أبرز ثمار ذلك انتشار المكتبات والمؤسّسات العلميّة التي بات روّادها من طلبة العلم في ازدياد، وكذلك أرصدتها من الكتب[16] التي تشهد على جهد المؤلّفين والنّسّاخ، وعلى ما يبذل من مال في سبيل ذلك من قبل الجهات المعنيّة[17]. على أنّ ما يجدر تسجيله أنّ هذه الأرصدة قد غذّاها ازدهار حركة التّرجمة التي بدأ فعلها في السّاحة الثّقافيّة في ازدياد بتجاوز العرب المسلمين مجرّد نقل الكتب والمؤلّفات الأجنبيّة إلى التّفاعل معها، فهماً وشرحاً، بل محاكاة وتطويراً. وفي هذا يرى أحمد أمين «أنّ حركة التّرجمة التي نقلت ذخائر الأمم المختلفة، وخصوصاً الأمّة اليونانيّة، وضعت أمام أعين المسلمين ثروة علميّة هائلة باللّسان العربي، فكانت الخطوة الثّانية أن تتوجّه إليها الأفكار العربيّة تفهمها وتشرحها وتهضمها وتبتكر فيها وتزيد عليها، وهذا ما فعله عصرنا هذا»[18].
وفي هذا الاتّجاه يذهب أغلب النّقاّد الذين يعتبرون القرن الرّابع للهجرة أكثر القرون إنتاجاً وتأليفاً، بل ابتكاراً وتنظيماً، فهو «أغنى القرون معرفة وثقافة، وأعمقها فكراً، وأبعدها أثراً، وأكثرها علماء وفلاسفة، وأغزرها إنتاجاً، وأعظمها ابتكاراً»[19]. وهو ما يعني أنّ حركة التّدوين قد تطوّرت على مستوى الكمّ والنّوع، حيث كثرت المصنّفات، وتطوّرت طرق تصنيفها وتنظيمها[20].
كلّ ذلك يؤكّد أنّ الكتاب كان هاجساً محورياً من هواجس أهل الفكر والثّقافة، دعمته هواجس السّاسة، سواء منها ما كان تحت تأثير النّزوات الفرديّة أو بدافع استراتيجي انطلاقاً من وعي الكثيرين منهم بجسامة الدّور الموكول إلى هذه الأمّة، وهذه الثّقافة. لذلك كان السّعي بوسائل مختلفة إلى التّشجيع على إنتاج الكتاب وترجمته، استفادة من تجارب الأمم الأخرى، وبالتّالي قراءته، الأمر الذي جعله في فترات محدودة عنواناً لهذه الثّقافة، مسجّلاً لإنتاجها، حافظاً لذاكرتها، شاهداً على مساهمتها في الثّقافة الإنسانيّة، مؤكّداً أنّ هذه الأمّة كانت أمّة قارئة، منتجة لموضوع القراءة، مستجيبة لسنّة التّفاعل مع غيرها من الأمم في موضوع القراءة. لذلك كان للكتاب الدّور البارز في نحت كيانها، وفي تحقيق نهضتها، فكان عاملاً مهمّاً ورئيسيّاً في ميل ميزان الثّقل الحضاري لصالحها في فترات تاريخيّة محدّدة اختصّت فيه بأسباب الرّقي والازدهار. فما الذي تغيّر؟
ثانياً: تراجع قيمة الكتاب: أزمة في الثّقافة لا مجرّد أزمة قراءة
إذا كان هذا شأن الحضارة العربيّة الإسلاميّة مع الكتاب الذي تعاظمت من أجله هواجس التّدوين عبر عصور مختلفة، ونشطت لأجله حركة التّرجمة، وبُذلت في إطارها الجهود والأموال، واتّجهت صوبها اهتمامات السّاسة، حتّى أمكن لنا أن نقول من دون وقوع في المبالغة إنّها كانت ضمن استراتيجيّات الدّولة الإسلاميّة في عصر قوّتها، الأمر الذي يعني إدراكاً ووعياً بقيمة الكتاب والقراءة ودورهما في نحت صورة الإنسان القادر على تحمّل مسؤوليّة نهضة الأمّة.
فما الذي تغيّر؟ ولماذا تتحدّث الدّراسات اليوم عن أرقام هزيلة لقرّاء الكتاب؟ ولماذا هذا التندّر بضعف الإقبال على القراءة؟ هل يعود الأمر إلى أسباب عامّة قد يشترك فيها العرب والمسلمون مع غيرهم من أبناء جلدتهم؟ أم هي أسباب خاصّة عميقة ذات أبعاد مختلفة تفترض التقصّي والجرأة في كشفها من دون تقزيم أو تضخيم؟
كثيرة هي المؤشّرات التي يمكن الاعتماد عليها في تبيّن صورة الكتاب والقراءة في الواقع العربي اليوم، وإن كان البعض منها قد يحمل بعداً دراميّاً كاريكاتوريّاً في الوقت نفسه من قبيل ما يتناهى إلى أسماعنا من أرقام، كانحصار معدّل قراءة الطّفل العربي في 6 دقائق في السّنة، أي أنّ معدّل ما يقرِأه هو 6 صفحات، وأنّ معدّل قراءة الشّاب يتراوح بين نصف صفحة ونصف كتاب في السّنة، وأنّ معدّل قراءة المواطن العربي لا يتجاوز أكثر من 10 دقائق، فإنّ الأرقام الدّقيقة أو المقاربة للموضوعيّة المستندة إلى مؤشّرات ملموسة وواقعيّة لا تكاد تبتعد عن مثل تلك المؤشّرات التي قد تكون خاضعة لسلطة المبالغة أو موجّهة من قبل جهات لها مصالح في ذلك. فالتّقرير العربي الأوّل للتّنمية الثّقافية لسنة 2007، على سبيل المثال، يشير إلى أرقام ضعيفة وهزيلة في ما يعتمد عليه من أسس للتّنمية الثّقافية، ذلك أنّ نسبة الأمّية «الألف بائيّة» في المنطقة العربيّة تقارب 27.802 بالمئة، أمّا العدد الإجمالي لمنشورات الوطن العربي من الكتب في هذه السّنة نفسها، فهو 270809 عناوين تقريباً، الأمر الذي يعني أنّ 11.950 مواطناً عربياً قد أنتجوا عنواناً واحداً من إجمالي الكتب المنشورة أو أصابهم منها عنوان واحد، وهو رقم لا يتناسب مع أدنى مستوى مقبول من إنتاج المعرفة والفكر والإبداع. ولعلّ الإحساس بضآلة هذا الرّقم يتعاظم إذا ما قورن بنظيره في بعض دول العالم الأخرى، من ذلك انكلترا التي كان عدد السّكان المعنيين بكتاب واحد فيها هو 4980313، بينما كان في إسبانيا 713.5، وكان في ألمانيا 911.26[21].
ولكن رغم هذه المؤشّرات وغيرها، فإنّ الكثير من الآراء السّطحيّة تتّجه إلى تفسير تراجع قيمة الكتاب في هذه الحضارة، انطلاقاً من تفاقم ظاهرة العزوف عن القراءة بأحد أمرين: الأوّل على علاقة بمسألة الوقت، حيث إنّ انشغال الإنسان بأبعاد حياته المادّية بما فيها من تدبير شؤون معاشه واللّهاث خلف مطالبه المتكاثرة التي لا يتّسع الوقت لقضائها يجعل من الحديث عن وقت مخصّص للقراءة أو المطالعة ضرباً من العبث أو الحلم الذي لا أساس واقعياً له. أمّا الثّاني فهو على علاقة بالتّقدّم التّقني أو الثّورة التّكنولوجيّة التي كان من نتائجها تطوّر وسائل الإعلام والاتّصال، بدءاً بالإذاعة والتّلفزيون والهاتف، وصولاً إلى عالم الإنترنت الذي أتاح للإنسان إمكانات هائلة في الوصول إلى المعلومة بأقلّ ما يمكن من الجهد. لكن ألهذا تراجع دور الكتاب وقيمته في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة؟ أليس من السّطحيّة حصر هذا الإشكال في هذه الأسبابِ، وإن كان لها حقيقة مساهمة في ما آل إليه وضعه؟
يبدو من البديهي القول إنّ قضيّة الكتاب اليوم وشأنه مع القراءة أعمق من أن تُحصر في هذه الأسباب أو العوامل. فهي قضيّة مجتمع أو أمّة في طور محدّد، وفي أوضاع محدّدة، لعلّ أبرز سمة لها هي التّراجع على صُعد مختلفة، ارتباطاً بما شهده تاريخها المعاصر من تغيّرات ارتبطت بالأساس بانتكاسات متتالية، كان أهمّها وأعمقها تأثيراً خضوع بلدانها للاستعمار الذي لم يقتصر دوره على نهب ثرواتها والتّحكّم في مقدّراتها، بل استهدف كلّ ما يمكن أن يشكّل أساساً ليقظتها، ومن ذلك بلا شكّ البعد الثّقافي الذي كان الكتاب أحد أهمّ ركائزه. لقد خلّف الاستعمار أوضاعاً مفزعة من الأمّية، كان الفقر أحد أهمّ أسبابها، بل من أسبابها الرّئيسيّة، فعلى الرّغم من الاختلافات بين قطر وآخر على مستوى الأوضاع الاقتصاديّة، فإنّ السّمة العامّة فيها هي ارتفاع نسبة الفقر، وهو ما تؤكّده غالب الآراء المهتمّة بهذا الشّأن، من ذلك الرّأي الذي يختزله القول التّالي: «لو أخذنا الوطن العربي ككلّ، فإنّنا سنصل إلى صورة تختلف بشكل جذري عن الصّورة التي يمكن الحصول عليها من استعراض وضع كلّ قطر على حدة. فالصّورة الجليّة التي تبدو من هذا الاستعراض هي أنّ ثلثي السّكّان في الوطن العربي يقيمون في الأقطار المنخفضة الدّخل ولو افترضنا أنّ معدّل الفقر في قطرين هما مصر والسّودان هو30 بالمئة، فإنّ هذا يعني وجود ما يقرب من 28 مليوناً من الفقراء في هذين القطرين وحدهما»[22].
والواقع أنّ مثل هذه الأرقام المفزعة، وإن كانت من مخلّفات الاستعمار، فإنّ الأنظمة التي خلفته لم تكن أكثر رأفة بهذه الشّعوب، بل كانت شريكة في عدم السّعي الجادّ إلى تقليصها. ولذلك، أيضاً، لم تكن هذه الأنظمة أقلّ استهدافاً للثّقافة والكتاب. فقد أدّت سيطرة الأنظمة الفرديّة الاستبداديّة على المنطقة العربيّة لعقود إلى تكريس «ثقافة جديدة» تابعة محورها الشّكل والقشور، لا الجوهر، وفي ذلك يقول هشام جعيّط في محاولة لتشخيص واقع الثّقافة الإسلاميّة في علاقتها بالثّقافة الغربيّة: «الإشكال عندنا هو أخذنا بالقشور: الحكم والسّياسة وهي تابعة، الاقتصاد وهو ضعيف، وسائل الإعلام وهي محتكرة، المال المهدور بغباوة، اللاّمبالاة أمام المجهود العلمي والفكري حتّى يعترف به الغرب»[23].
وقد كان الأسلوب الرّئيسي لهذه الثّقافة المغالطة عبر الأرقام الموهومة والاهتمام بالجوانب الشّكليّة الظّاهرة، خصوصاً في مجال التّعليم والتّربية، من دون التّركيز على ما هو جوهري في هذه المجالات الدّقيقة والحسّاسة، فكانت الثّقافة ومحورها الكتاب مجرّد واجهات تجمّل صورة هذا النّظام أو ذاك خارجيّاً، فتعطيه شرعيّة تضمن له تواصل مسالك الدّعم، وتزيّن صورته داخليّاً تسويغاً لاستمراره. وقد كان لسيطرة مثل هذه الأنظمة الدّور البارز في ما شهدته هذه البلدان من تخلّف اقتصادي مردّه إلى سوء التصرّف في الثّروة، بل وتوجيهها إلى إثراء فئات محدودة وفي بعض البلدان أو أغلبها إلى عائلات محدودة، الأمر الذي كان سبباً في تردّي المقدرة الشّرائيّة للمواطن، بشكل أصبح قوته اليومي المهدّد هاجسه الأساسي الذي بات يخشى من عدم قدرته على توفيره، فما بالك بتوفير ثمن كتاب يشهد سعره غلاء متعاظماً؟ وبذلك كان التّفكير في سدّ جوعه المادّي مقدّماً على التّفكير في سدّ جوعه الفكري أو الثّقافي، وهو ما نجد صداه لدى نسبة كبيرة من المتعلّمين أو المثقّفين الممثّلين في أغلبهم للطّبقة الوسطى من المجتمع التي باتت الدّراسات والإحصاءات تشهد على تقلّصها أو اتّجاهها نحو الاضمحلال، نتيجة السّياسات الاقتصاديّة العقيمة التي انتهجتها هذه الأنظمة[24].
ومن الأسباب العميقة كذلك، يمكن الحديث عن أسباب تربويّة على علاقة بتراجع دور الأسرة والمدرسة، وعدم اضطلاعهما بوظيفة التّرغيب في القراءة. فالأسرة كما هو معلوم تمثّل البيئة الرّوحيّة والاجتماعيّة الأولى للأطفال، وتوجيههم نحو المطالعة يُفترض أن ينطلق منها، وهو الحاصل في بعض البلدان الغربيّة، حيث «أثبتت أحدث الدّراسات العلميّة أنّ تربية الأبناء على المطالعة تبدأ في الأسرة في سنّ مبكّرة جدّاً. فالعناية بالقراءة والمطالعة اتّجهت في بعض المجتمعات الأوروبّية إلى الرّضّع والأطفال في سِنيّ طفولتهم الأولى، وذلك باعتبارهم يمثّلون جمهوراً خاصاً جلب اهتمام الاختصاصيّين في المطالعة»[25].
وإذا كان هذا شأن الطّفولة في البلدان المتقدّمة، فإنّ الاهتمام بها في بعدها الثّقافي في بلداننا العربيّة يبقى متواضعاً، رغم الجهود المبذولة في بعض الدّول، بل إنّه في غالب الأحيان يظلّ مقترناً بالأوضاع المادّية للأسر، «وإذا كانت وسائل ثقافة الأطفال لا تصل إلا إلى النُّخبة من أبناء مجتمعنا ممّن أتاحت لهم ظروف أسرهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة فرصاً للاطّلاع على وسائل ثقافة الأطفال. ولمّا كانت المؤسّسات الرّسميّة والأهليّة على السّواء لا توفّر بشكل كافٍ وسائل ثقافة الأطفال، فهذا يعني أنّ انتشار وسائل ثقافة الأطفال في بلادنا محدود، ولا يتناسب مع أهمّيتها بالنّسبة إلى تربية الأطفال وبناء المستقبل»[26]. أمّا المدرسة، فإنّها باتت تشكو غياب حصص المطالعة عن برامج العديد من المستويات الدّراسيّة، وخصوصاً في المرحلة الابتدائيّة في الكثير من النّظم التّربويّة العربيّة. وإن خُصّصت لها حصص ضمن المستويات الدّراسيّة المتقدّمة، كالمرحلة الإعداديّة أو الثّانويّة، فإنّه لم يخصّص لها ما يكفي من إمكانات مادّية لدعمها وتأكيد جدّية الاهتمام بها، بل إنّ هيكلة النّظام التّربوي قد تستحيل إلى عدوّ للمطالعة منفّر منها، وهو ما يشير إليه خالد ميلاد، على سبيل المثال، في حديثه عن تجربة النّظام التّربوي التّونسي، حيث يقول: «إنّ شبابنا المدرسي والطّالبي لا يطالع لأنّ مناهج التّعليم لا تولي المطالعة مكاناً مركزياً في منظومتها التّربويّة، فدور التّلميذ لا يتجاوز دور من يستهلك المدرسة طبق جدول للأوقات مجزّأ وخال من كلّ تنظيم يدفع التّلميذ إلى اللّهاث وراء إنجاز فروض منزليّة لا تنتهي، ودروس خصوصيّة في العلوم التي رسّخت المدرسة كونها مقياساً لكلّ نجاح وجواز مرور إلى المستقبل الأفضل»[27].
ومثل هذه الأمور تقودنا ضرورة إلى الحديث عن فشل الأنظمة التربويّة في الوطن العربي في جعل الكتاب والمعرفة عموماً، جوهراً لها، ومحورها المركزي، وذلك لغياب استراتيجيّات واضحة في أغلب هذه النّظم أو كلّها، لارتهانها للخيارات الأجنبيّة بحكم تبعيّة ثقافيّة كرّستها التّبعيّة الاقتصاديّة، وغذّتها تبعيّة النّخب التي أوكل لها شأن هذه النّظم، تخطيطاً وتسييراً و«إصلاحاً»[28].
لقد بات الكمّ هو السّمة المميّزة لأغلب أنظمتنا التّربويّة، لذلك ازدادت نسب التّمدرس، وتعاظمت الأرقام في هذا المجال من بلد عربيّ إلى آخر، كما ازدادت ساعات الدّراسة بالنّسبة إلى جميع المستويات الدّراسيّة، وازدادت الكتب المخصّصة لكلّ مستوى، لكنّ ذلك لم ينجح في توطيد العلاقة بين الكتاب وقارئه، بل لعلّنا لا نجانب الصّواب إن قلنا إنّ هذا التّركيز على مسألة الكثافة قد أدّى إلى نوع من الجفوة أو النّفور في العلاقة بين التّلميذ أو الطّالب والكتاب داخل المؤسّسات، ناهيك بـخارجها[29].
كلّ ذلك ينتهي بنا إلى القول إنّ تراجع قيمة الكتاب في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة مرتبط في المطلق بأسباب حضاريّة تتمثّل بواقع التّخلّف الاقتصادي والاجتماعي، والتّراجع الثّقافي المرتبط حتماً بأسباب سياسيّة داخليّة وخارجيّة أدّت إلى أزمات عميقة مسّت الذّات العربيّة الإسلاميّة التي باتت مستسلمة لواقع الهزيمة النّفسيّة، واليأس من إمكانيّة التّغيير واللّحاق بركب الشّعوب والثّقافات المتقدّمة والفاعلة التي يدرك الجميع، باختلاف مستوياتهم التّعليميّة، أنّ المحدّد فيها هو العلم والمعرفة المرتبطان بالضّرورة بالقراءة، إذ «لا يمكن للعرب والمسلمين أن يلجوا باب الحداثة والمشاركة في العالم المعاصر إلا إذا كوّنوا لأنفسهم طموحاً عالياً في مجالات الفكر والمعرفة والعلم والفنّ والأدب»[30]، وهو ما يُفترض أن يتجلّى في استراتيجيات الدّول في ما تُعدّه للقراءة والثّقافة بشكل عام من خطط وبرامج، وما ترسمه لها من أفق، وخصوصاً في ما تهيّئه لها من بنى تحتيّة تساعد على تحقيق أهدافها، وهي التي لا تزال شبه غائبة أو ضعيفة في أغلب البلدان العربيّة، ذلك أنّ «الثّقافة المعاصرة للحضارة والمشاركة فيها لا تنشأ وتزدهر وتترعرع وترتقي من دون بنية تحتيّة مناسبة، فهي التي تولّد الزّخم الثّقافي على المستوى الوطني والقومي. والبنية التّحتية في معظم البلدان النّامية والعربيّة، وبدرجات متفاوتة، لا تزال متواضعة للغاية»[31].
ولأجل ذلك، يمكن القول إنّ أزمة القراءة التي يشهدها واقع العرب والمسلمين هي أزمة عميقة لا يمكن حصرها في أسباب ظاهريّة بسيطة، وإن كان لها فعلها وأثرها، ولكنّها أزمة في الثّقافة تتداخل فيها العوامل الاقتصاديّة والعوامل الاجتماعيّة، وخصوصاً العوامل السّياسيّة التي ساهمت إلى وقت طويل وممتدّ في تكريس ثقافة الهزيمة والتّبعيّة واليأس والعجز والاستهلاك، بل وتوجيه النّاس صوب ثقافة الرّبح السّريع، واغتنام الفرص أو انتهازها، والوصوليّة، الأمر الذي همّش دور الكتاب، فتقلّص عدد قرّائه انطلاقاً من الاقتناع بتراجع دوره على المستويين المعرفي والاجتماعي.
خـاتـمـة
يمكن القول إذاً إنّ للكتاب مع الثّقافة العربيّة الإسلاميّة مسيرة طويلة، إذ، وإن بدأت هذه الثّقافة شفويّة، فإنّ هواجس التّدوين قد انطلقت مبكراً، فكانت لبناتها الأولى مع العربي الجاهلي، ثمّ اتّجه القائمون عليها، من ساسة ومعنيّين بالثّقافة باختلاف فروعها وشُعبها، إلى تطوير جهودهم في هذا الإطار، لأسباب دينيّة مقترنة بمحوريّة «القراءة» في الدّين الجديد، وأخرى حضاريّة تدعّمت من خلال الفرص التي أتاحها انتشار الإسلام في الانفتاح على أمم وحضارات أخرى ذات شأن في هذا المجال.
وقد كان إيمان منتجي الثّقافة والمشرفين عليها، من ساسة وأصحاب قرار، بدورها في تثبيت الفعل الحضاري لأمّتهم ومجتمعاتهم، سبباً مهماً ومحورياً في الاهتمام بالكتاب، إنتاجاً وقراءة، انطلاقاً من الإيمان بأنّ الثّقل الحضاري لا يمكن أن يميل إلا لمصلحة الحضارات المنتجة التي تؤدي فيها الثّقافة الدّور البارز والرّئيسي، وهو ما أهّل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة لنوع من الرّيادة والسّيادة لفترة من الزّمن، تلتها فترات انحطاط وتراجع، ساهمت فيها جملة من الأسباب أدّت إلى ما يمكن اعتباره أزمة في القراءة، حاولنا أن نقف على ما بدا لنا منها مهمّاً وعميقاً، ما جعلنا ننتهي إلى أنّ الأمر يتعلّق بأزمة في الثّقافة ساهمت فيها عوامل متعدّدة، طبعت الإنسان العربي المسلم، والثّقافة العربيّة الإسلاميّة، بجملة من السّمات، أبرزها الشّعور بعدم القدرة على الفعل الحضاري الذي يجب أن يستثمر ما حصل في المنطقة العربيّة من تحوّلات في السّنوات الأخيرةِ، وخصوصاً في ما أتيح من مُناخات الحرّية لإعادة بناء أسس ثقافيّة جديدة محورها القدرة والنّصر والنّدّية والاعتزاز بالهُويّة والتّوازن، وما يدور في فلك هذه المصطلحات من مفاهيم، وضرورة تربية النّاشئة عليها، مع ربط ذلك بمحوريّة العلم والمعرفة، حتّى نضمن للكتاب ألقه المتجدّد، ولهذه الثّقافة حضورها في المشهد الثّقافي العالمي، ولهذه الحضارة فعلها المستمرّ.
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 440 في تشرين الأول/ أكتوبر 2015.
(**) الحسني غـابـري: أستاذ مساعد للتّعليم العالي في المعهد العالي للّغات في قابس، جامعة قابس – تونس.
[1] أحمد أمين، فجر الإسلام، ط 15 (القاهرة: مكتبة النهضة المصريّة، [د. ت.])، ص 166.
[2] ريمون طحّان ودنيز بيطار طحّان، مصطلح الأدب الانتقادي المعاصر، ط 2 (بيروت: دار الكتاب اللبناني؛ مكتبة المدرسة، 1984)، ص 45.
[3] انظر: عبد العزيز شبيل، نظرية الأجناس الأدبيّة في التراث النثري (جدليّة الحضور والغياب) (صفاقس: دار محمد علي الحامّي؛ سوسة، تونس: كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، 2001)، ص 207.
[4] طحّان وطحّان، المصدر نفسه، ص 45.
[5] المصدر نفسه، ص 45 – 46.
[6] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ط 4 (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1991)، ص 64.
[7] أمين، فجر الإسلام، ص 169.
[8] محمد القاضي، الخبر في الأدب العربي (دراسة في السرديّة العربية) (منوبة، تونس: منشورات كليّة الآداب منّوبة؛ بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1419هــ/1998م)، ص 147.
[9] المصدر نفسه، ص 147 – 148.
[10] للتوسّع، انظر: المصدر نفسه، ص 149 – 150.
[11] المصدر نفسه، ص 169.
[12] شبيل، نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري (جدليّة الحضور والغياب)، ص 239.
[13] المصدر نفسه، ص 261.
[14] المصدر نفسه، ص 297.
[15] أحمد أمين، ظهر الإسلام، 4 ج (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، [د. ت.])، ج 1، ص 94 – 95 وانظر تأكيد هذا الموقف وتفصيله من قبله في الجزء 2 من الكتاب نفسه، ص 2 – 3. والواقع أنّ مثل هذا الرّأي لأحمد أمين ومن يذهب مذهبه في الرّبط بين انقسام الخلافة إلى دويلات وازدهار الحياة الثّقافيّة وتطوّر مختلف مجالاتها – بفعل التّنافس بين الملوك والأمراء في جعل بلاطاتهم وجهة أفضل الفلاسفة والشعراء واللغويّين والأدباء والمفكّرين بشكل عام بالتّحفيز والإنفاق من أجل بروزهم هم وإشعاعهم – يشهد على نوع من الوعي بقيمة الأدب والثقافة عامّة وفعلها في المجال السّياسي، بل وفي إعطاء السّاسة شرعيّة يستعيضون بها عن الشّرعيّة السّياسيّة والدينيّة التي افتقدوها.
[16] لمزيد من التفصيل، انظر: آدم ميتز، الحضارة الإسلاميّة في القرن الرّابع الهجري أو عصر النّهضة في الإسلام، نقله إلى العربيّة محمد عبد الهادي أبو ريدة، 2 ج (تونس: الدار التونسيّة للنشر؛ الجزائر: المؤسّسة الوطنية للكتاب، 1405هـ/1986م)، ج 1، ص 290 ـــــ 296.
[17] انظر: أمين، المصدر نفسه، ج 2، ص 222.
[18] المصدر نفسه، ج 1، ص 94.
[19] محمد عبد الغني الشيخ، أبو حيان التوحيدي: رأيه في الإعجاز وأثره في الأدب والنقد (تونس؛ ليبيا: الدار العربية للكتاب، 1983)، ص 7.
[20] انظر مثلاً: أحمد أمين، ظهر الإسلام، فصلي «التّاريخ» و«الجغرافيا»، ج 2، ص 202 – 217، للنّظر في تطوّر هذين العلمين من حيث طبيعة البحث وطرق التّصنيف. وفي السّياق نفسه، انظر: ميتز، الحضارة الإسلاميّة في القرن الرّابع الهجري أو عصر النّهضة في الإسلام، ج 1، ص 285 وكذلك في ما يتعلّق بتطوّر علوم اللّغة، ص 385 – 388.
انظر أيضاً: عبد العزيز شبيل: نظريّة الأجناس الأدبيّة في التّراث النّثري (جدليّة الحضور والغياب)، ص 311 – 312 لتبيّن تطوّر المصنّفات النّقدية بفعل الاستيعاب الكبير للإنتاج اللّغوي والأدبي وأثرها في هذا الأخير.
[21] لمزيد من الاطّلاع على هذه الأرقام والمؤشّرات، انظر: التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية، ط 2 (بيروت: مؤسسة الفكر العربي، 1430هـ/2009م)، ص 405 – 406.
[22] عبد الرّزاق الفارس، الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001)، ص 13.
[23] هشام جعيّط، أزمة الثقافة الإسلامية، ط 3 (بيروت: دار الطليعة، 2011)، ص 17.
[24] يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ العلاقة بين الفقر والأمّية أو عدم التّعليم أو القراءة هي من الظّواهر التي لا تحتاج إلى كثير جدال لتأكيدها. ولذلك، فإنّ رهان الأقطار أو العائلات داخل القطر الواحد هو مدى النّجاح في فكّ التّلازم هذا بين عدم التّعليم والفقر، وخاصّة على المدى الطّويل، ولمزيد من التّفصيل والتّوضيح، انظر: الفارس، المصدر نفسه، ص 84.
[25] خالد ميلاد، «الشباب والمطالعة بين المحامل الورقية والرقمية،» في: الشباب والكتاب (حمام الأنف، تونس: الجمعيّة التّونسيّة حول ثقافة الشّباب، شركة المطبعة الثقافية، 2004)، ص 97.
[26] نجلاء نصير بشّور «وسائل ثقافة الأطفال العرب بين الواقع والطموح،» في: نحو خطة قومية لثقافة الطفل العربي (تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1994)، ص 79.
[27] ميلاد، المصدر نفسه، ص 101.
[28] كثيراً ما تكون خيارات إصلاح التّعليم مرتبطة بإملاءات الجهات المانحة للقروض، فتكون الإصلاحات المأمولة في ظاهرها جيّدة، ولكن في جوهرها وعمقها لا يمكن أن تكون إلا سبيلاً لتفاقم الأزمة بحكم عدم قابليّة تحقيقها، انطلاقاً من عدم ملاءمتها للظّروف المادّية والبيداغوجيّة المتوفّرة في البلدان العربيّة.
[29] يقول خالد ميلاد في هذا الصّدد «على هذا السّبيل أصبحت المدرسة أوّل عدوّ للمطالعة بكثافة برامجها، هذا إضافة إلى افتقادها فضاءات المطالعة القادرة على جلب الشّباب واستيعابه في ما توفّره له وتنظّمه من وقت فراغ». انظر: المصدر نفسه، ص 101 – 102.
[30] جعيّط، أزمة الثقافة الإسلامية، ص 17.
[31] إبراهيم بدران، أفول الثّقافة (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، 2002)، ص 213. مع الملاحظ أنّ الكاتب يقصد بالبنية التّحتية المكتبات العامّة والمسارح والمعاهد المتخصّصة وإنتاج الكتب والوثائق المسموعة والمرئيّة ووسائل الاتصال والمجلات المتخصصة والمحطات التثقيفية وغير ذلك.