بقلم: د. مي العبدالله (رئيسة تحرير مجلة “الاتصال والتنمية”)
لعبت الشبكات الاجتماعية الإلكترونية دوراً رئيسياً في الإطاحة بالأنظمة العربية وجمع الحشود حول نفس القضايا ونفس الأهداف، وأتاحت للشباب ان يتواصلوا وينظموا تحركاتهم ويحققوا التغيير، وسمحت للشعوب أن تتحرر من الأنظمة الشمولية و الدكتاتورية، وأن تعبر عن استعدادها للمشاركة في عمليّة “الثورة” والتغيير، لكن هذه الشبكات تتطور بسرعة كبرى ويتزايد عدد مستخدميها، وهي في الواقع أدوات في أيدي المتلاعبين بالنظام الاقتصادي والسياسي العالمي وتخدم أغراضهم..
من هنا، يمكن ان نختصر إشكالية التأثير الاجتماعي لوسائل الإتصال الحديثة في العالم العربي في سؤال أساسي: هل سنرى في الإنترنت شكلا جديداً من أشكال السيطرة أو “الإمبريالية”، أم بدلا من ذلك فرصة حقيقية للبلاد العربية ستستفيد منها لإظهار ثقافاتها ووجهها الحقيقي وتشكيل ديمقراطياتها وتنمية مجتمعاتها؟
الجواب مرتبط ارتباطا وثيقاً بالرهانات الاقتصادية والسياسية لصناعة واستخدام وسائل الاتصال الحديثة: فنحن نعلم أن الإنتاج الثقافي لا بد أن يرتبط بحالة من التنمية الاقتصادية، وأن أية أزمة اقتصادية أو سياسية لها آثار اجتماعيّة غالبا ما يتم تجاهلها،. لذلك لم يعد من الممكن إنكار أو نفي مساحة الحكم الذاتي المطلوبة لوسائل الإعلام والاتصال ومجالات الإنتاج الثقافي، والحاجة إلى إدارة لوسائل الإعلام والاتصال العربية قوية ومستقلة تخطط للتطوير في جميع المجالات المتعلقة بنوعية الحياة والديمقراطية، كمشاركة المواطنين والظروف الاجتماعية وديناميات الإبداع، وبالطبع الاقتصاد والبنية التحتية…
ان التطورات السريعة في قطاع الإعلام والاتصال توجب على كل مثقف أو مسؤول إيلاء المزيد من الاهتمام للظواهر الاقتصادية التي تحكم هذا المجال، كمعدلات استهلاك وسائل الإعلام والاتصال بموازاة الزيادة في عدد أجهزة النقل والاستقبال والوسائط الحديثة، وارتفاع القوة الشرائية والمستوى الثقافي لدى المتلقي، وتفاعلات المستهلك مع التغيرات وسعر العرض ووطأة الضغوطات الاقتصادية، ومسائل التمويل…
لقد أدت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والرقمية إلى إقامة علاقات جديدة بين صناعات المحتوى وصناعات وسائل الاتصال وتقنياتها، والصناعات الثقافية الرقمية. لذلك يقتضي أي مشروع تنموي قياس الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه التغييرات، ودراسة خصائص اللاعبين الجدد في هذا القطاع في مختلف دول العالم، وابتكار نماذج جديدة لتنظيم الإنتاج والاستهلاك الثقافي…وكل هذا يتطلب إعادة تحديد الهياكل والاستراتيجيات المالية والصناعية، و تجديد السياسة العامة للتنظيم والمراقبة، وخلق عمليات جديدة للإنتاج والنشر واستخدام الإنتاج الفكري والفني، ودعم وتشجيع استخدام واستهلاك المنتجات المبتكرة. فالصناعات الثقافية ليست فقط عاملا اقتصاديا هاما، بل هي أيضا فرصة لتعزيز الشعور بالانتماء والوعي بالثقافة الوطنية، مع حماية التنوع الثقافي العالمي و الفهم المتبادل بين الدول…
مع كل الأزمات والتغيرات التي تشهدها، لا بد للدول العربية من اعادة بناء ثقافاتها لتتمكن من اعادة تركيب أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية. وهنا تعتبر وسائل الاتصال الاجتماعيّة أداة جديدة في غاية الأهمية والفعاليّة لتوزيع المعلومات وتسهيل التعبئة وتنظيم الأحداث، والاتاحة للشعوب لأن تعبر عن نفسها بشفافية وحرية ولأن تحاسب صناع القرار. هي أهم أداة للديمقراطية في تاريخ العالم العربي، وفي الواقع، لقد طوّرت إمكانية التعبير عن القدرات الفردية والجماعية، بما لم يشهده تاريخ الاتصال الإنساني من قبل.
سوف يمضي وقت طويل قبل أن تستقر الأنظمة العربية الجديدة وتجد طريقها للديمقراطية، وتبقى الرقابة الذاتية هي المعيار للتعبير عن الذات، ولكنها الى الآن لا تزال محفوفة بالمخاطر. فمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان تناضل لحماية الذين يعبرون عن أنفسهم على الإنترنت في العالم العربي، وضد التدابير المتخذة من قبل الحكومات للسيطرة على الأنشطة عبر الإنترنت… وتقدم شبكة الإنترنت أملا جديدا وفرصة جديدة للمواطنين لأن يتعلموا كيف يعملون ويفكرون لأجل التعايش بوحدة وسلام. وهذا يستلزم بناء ثقافات جديدة ، وهويات جديدة تقوم على تبادل المعلومات ، ولا تأخذ في الاعتبار أصل أو لون البشرة، أو المظهر الخارجي، أو دين الآخرين.. .لكن الرهانات الاجتماعية التي تواجهها وسائل الإعلام والاتصال الحديثة هي ذات أهمية قصوى بالنسبة لمستقبل الإنسانية، وتأتي من جهات ثلاث: الحكومات التي تسعى للحفاظ على السيطرة الاجتماعية على السكان، والشركات المصنعة التي تريد خلق سوق عالمية، وثالثا المستخدمين الذين يحلمون بالتقدم من خلال وجودهم العالمي على الشبكات الالكترونيّة.
لكن قوة هذه الوسائل تنبع من حقيقة أن المعلومات تأتي من الناس، والمستخدمون هم الجهة الفاعلة الحقيقية، فعلى المستوى السياسي مثلا، أصبحت شبكة الإنترنت أداة للمؤتمرات ولتوطيد ثقافات الاتصال وتجاوز المواقف الدينية والمذهبية والفئوية المتطرّفة…الأمل هو إذن في هذا التفاعل، فـ “ثقافات الاتصال” هي الأمل الجديد للشعوب العربية التي تتلمّس طريقها للتنمية الاجتماعية، والمستقبل رهن بهذا الأمل.
********
(*)الكلمة الافتتاحية للعدد الجديد من مجلة “الاتصال والتنمية” (9)، محوره “الاتصال السياسي والتنمية الاجتماعية.