نسمة سلامٍ من طائر الفينيق

 

يوسف طراد

 

هل هي عصارة فكرٍ أو أمثولة دهرٍ أو لغزٌ حُلَّت طلاسمه باجتماع أرواح العصور الغابرة؟ إنها كلّ ذلك وأكثر، إنها مرسحيّة بيركليس المدوّنة بقلم الأستاذ أمين ألبرت الرَّيحاني ضمن كتاب صدر عن دار سائر المشرق للنشر.

عتبة الكتاب تعريفٌ بشخوص المرسحيّة وفق دخولهم المرسح، يصبح القارىء متلبِّسًا بمعرفة تفاصيل المرسحيّة لأنه يجد في الشخوص تكاملًا لناحية الغاية السياسية الصادقة، وتباعدًا في الزمان والمكان (زمن فخر الدين في صيدا ودير القمر، عصر بيركليس في أثينا).

الجديد في مرسح الكتاب نظرته إلى الوجود الكياني الوطني فقد طرحها كتّاب المرسح مرّات ومرّات بأساليب مختلفة، فأوبيريت فخر الدين الرائعة للأخوين رحباني عرضت حياة الأمير العطائية والجهادية من أجل لبنان بكلّ مراحلها بطريقةٍ ملحميةٍ، عارضة النشاطات الاجتماعية في ذلك الزمان، لكنها لم تدمج أزمنة في شخوص وتدخلها الخشبة كما فعلت مرسحية بيركليس، فقد نسفت قوانين المرسح الوطني من أساسها، بتبنّيها أسلوبًا جديدًا بمعاني الكلمة السامية لعصر سابق هو عصر بيركليس، وبلورتها في فكر أمير لبنان، الذي آمن بالكلمة ولم يستطع ترجمتها لقصر حياته.

أصبح أسلوب المرسحيّة ومضمونها كلًّا لا يتجزأ، فهي لم تعبّر عن العبث الاجتماعي، العقم السياسي، التشتت الوطني والحروب غير المتكافئة، لكنها عرضت حلولًا لكل هذه الآفات من خلال شخصيات تنبع الأصالة من صلب تكوينها، ففي كل مرّةٍ يحضر فيها طيف بيركليس أمام الأمير فخر الدين الثاني الكبير، ويملي عليه نصائح قد عمل بموجبها لرقي أثينا، تحضر أمامنا هذه الآفات كخيال حكام دائمين متشبثين في مراكزهم، وفي آذانهم صممٌ عن مطالبٍ محقةٍ، فحبذا لو قرأوا النصوص وتمعنوا بين السطور عن الفرق بين البطولة التي تصنع الموت والقيادة التي تصنع الحياة، علاقة الإصلاح بالهدم وهروب الظلمة من أمام النور.

أربعة فصولٍ تتضمّن سبعة عشر مشهدًا، رسمت حكمة عظماءٍ من التاريخ ممزوجة بقداسة روحهم التي تُرجمت من أجل أوطانهم. من بين السطور يصلنا صوت وطننا الموجوع حين ينبعث الطائر الأسطوري ويحمل إلينا نسمة سلام إلى عروق لبنان. هذا الكتاب يصلح دستورًا لكل العهود والأجيال مادام هناك فسادٌ في الأرض، لأنه تضمن صلوات حبٍ للوطن، جمال تعابيرٍ، إبداعًا لكل عاشقٍ للديمقراطية الحقّة وملامح أساطير ترقص مع العواصف زبدًا على ساحل وطن الفنيق من صور سيدة البحار إلى إرواد جزيرة الأفق.

على هذا الواقع الأليم الذي يسيطر على الوطن ألقى الرَّيحاني بقعة ضوءٍ، ركّز عدسته المكبرة على خشبة مرسح تمقت القتل في مجتمعٍ مجبر على أن يقتل، فكانت هذه العدسة واضحة العين، حزينةً كالغروب، شامخةً كأرز لبنان، صادقةً في ترجمةٍ نزيهةٍ لفكر بيركليس ونقلها إلى زهو أمير في نفسه تعطّش إلى سماع حقيقة عن مبادىء أرست العدالة في مجتمع الإغريق، فكانت هذه الحقيقة زئبق الفكر يقيس مدى تسلق الحكمة إلى كراسي القرار من جراء غليان الشوارع بسبب الفساد.

الكتاب حمل وجهة نظرٍ واضحة عندما دمج حكمة بيركليس بإقدام الأمير فخر الدين، لو كُتب لهذه المرسحيّة أن تُعرض على مرسحٍ ما ستكون شاشة ملتهبة بالحكمة والإقدام تغرس فيها الحكّام الذين يستحقّون إعتلاء عروش العدل بيارقهم المتوهجة. أو إذ اعتمدت من ضمن مقررات كليات الآداب و الفنون، ستكون نصوصها إلهامًا لشعاراتٍ تهتف بها الحناجر خلال ثوراتٍ ضد الفساد والحكم الجائر بعد عقودٍ وعهودٍ.

مع هذا المرسح نُصبح في عالمٍ مختلفٍ يتضمّن التجارب التاريخية الواقعية والاختبارات الذاتية لشخصياتٍ متألّقةٍ عبر الدهور، فقد وُلدت معانٍ جديدةٍ مدموجة في زمنين متباعدين، شخصيات حملت معاناة شعوبها ونظرتهم إلى الحياة القاسية، لما تعانيه من ظلم الواقع ورجاله الذين سيّسوا الحياة الدنيوية، فالمرسحيّة هي تجربةٌ جميلةٌ من خلال حقيقةٍ ومدرسةٍ وطنيةٍ شخّصها الكاتب أمين ألبرت الرَّيحاني بأبهى معانيها من خلال (صناعة وطن من خيوط “ربيع اليأس”).

الجمعة 22 تشرين الثاني 2019

***

(*) Monliban

 

 

اترك رد