كعادته، قبل أن يترك والدي الدركي البيت إلى المخفر، رشف فنجان الصباح، وألحقه بتنهيدة باردة، فيها من المعاني والدلالات ما فيها، وكلّمني بهدأة الخائف أن تسقط كلمة من نصائحه، على الدرب بين فمه وأذني، واضعا يمناه على كتفي: ومتى نضجت في العلم، يا بنيّ، وحصّلت من الشهادات أحلاها وأعلاها، لا تظنّن أنك ختمت العلم في اختصاصك، فهذا أول دركات السقوط.. وإياك، إياك أن تدعّي معرفة كاملة أو تحتكر الحقيقة في أمر، فتنتقص من قدرك وتضّيع رصيدك بين الناس.. فأصغيتُ وقبلّتُ يده وأشربته فنجانا ثانيا من ركوة صغيرة، ليُرب فيزيد. حضنني وأردف: وإن أنعم الربّ عليك برضاه، وتسلّمت مسؤوليّة أو وصلت إلى مركز، أوصيك بأن تسهر على الوزنات، وتحافظ على ثقة رؤسائك ومحبّة مرؤوسيك، فهذه ثروة الأوادم.. ولا تنسى أن تكتب بخطّ يدك حكمة عتيقة تضعها أمام ناظريك معناها ( ما من عزّ إلا وسيزول… وما من شدّة إلا وستؤول)، واختر معاونيك من الأوادم وكبار النفس، وباسِمي الوجوه، وهادئي الروح.
كُن لهم أبا يوجّه، وأخا يداري، ومسؤولا يحمي الكرامات. إياك والتسلّط، والأحتماء بحرفيّة النصوص والقانون. تذكّر أن الثواب رحمة، وأن العقاب نقمة ومجلبة للغضب… فقلم العقاب يا ولدي حبّره الشيطان.. وإن أُحوجت الى العقاب مرّة، فاستبدله بالتقويم، أداته البسمة وإغماضة عين، أو بالعتب، ومادّته الكلمة الطيّبة والصوت الخفيض…
وإن جرّبك الشيطان، أكثر لا تيأس من الإرحام.. وإن اضطرّتك الأيام للتأنيب، فألمح الى التجاوز بلطف، وإن أفشل الغيُّ مسعاك، فصوّب المسار بلا ضجّة وبلا حقد، ولا تتسلّح بالأنظمة ومواد القانون، مهما قسا عليك الزمن، وطالتك المظالم.. إرم النصوص ولا تحتمِ بـ (ضرورات المصلحة العامة) لتبرير أيّ تصرّف أسود، فالخير، يا بُنيّ، واضح كالشمس، والشرُّ وحده يحتاج إلى براهين..
وإن ذلّ بك الشك إلى مظنّة بأحد، أسرع بالاعتذار إليه فالاعتذار من الصغير، فرضُ صلاة، مردوده غفرانات واسعة، ورحماتٌ بخوريّة، يستنزلها الضعيف على أرواح موتاك… فلا تهرب من بركة الضعفاء، إنهم الملائكة غير المجنّحين.. رجوتك، لا تمنع الرحمة عنّي في ترابي يا ولدي، فكلّما أحسنت إلى واحدٍ من هؤلاء الطيبّين، ومنعت ظلما عن المقهورين، رفعت بخورا عن أنفس أهلك، وترضّت عليك عظامهم والتراب، نعم يا بُني، إن رحمة الضعيف هي جنّاز الأتقياء…
إحفظ عنّي يا ولدي، أن النفس الكبيرة، تظلّ كبيرة، ولا تقوى الأحوال على تغييرها، فقط لأنّها أصيلة.
… وأوصى ما أوصيك به، أن ترى نهايات الأمور في بداياتها، فلا يشقّ عليك أمر، ولا تفتقد لعزّ أفل. وإذا استحققت مرتبة أو رفعتك ثقة مسؤول إلى وظيفة أو مكانة، كُن أكبر من المنصب، وتعامل مع المسؤوليّة من حيث أنّها باب إلى الخدمة لا للتسلّط والنفع.
… ولحظة تدخل مكتبك لتسلّم مهامك عِش لحظة التّرك بكرامة، وسلّم الأمانة بعزّة الواثق من نفسه، وفرحة الباسم للحياة، والفاتح قلبه لنعمة الربّ، والشارح صدره لرضى أهله في البيت والعمل..
نقش أبي كلامه فيّ نحتا أزال منّي نتوءات، وصنع منّي ولدا أبيض يستعطي رحمة موتاه من أفواه الراحمين، ويختم صلاته المسائيّة بقولة من قاموس الدرك: نُفّذ الأمر يا أبي…
***
(*) من كتاب، مزامير الصباح، لـ البروفسور جورج ميخائيل كلاّس، منشورات إتحاد الكتاب اللبنانيين، طبعة أولى 2005، مزمور الدرك، صفحة 117.