مِيراي عَبدَالله شحادة… زَهرَةُ الوَفاءِ!

 

(طَوافٌ في «يَومَ قَرَّرتُ أَن أَطِير»، الدِّيوانِ الباكُورَةِ لِلشَّاعِرَةِ مِيراي عَبدَالله شحادة)

مِيراي عَبدَالله شحادة…

شاعِرَةٌ ابنَةُ شاعِر. هو بَنَى شِعْرَهُ على شاقُولِ الخَلِيلِ، مُصَعِّدًا في سُلَّمِهِ العَرُوضِيِّ حَتَّى ذَلَّلَ عُبابَهُ وبَلَغَ مُنتَهاهُ، وهي حاكَت مَنثُورَها الشِّعرِيَّ على مِنْوالِ شُعُورِها الرَّقِيقِ، وسَتَرقَى، يَقِينًا، فَدِيباجَتُها حَسَنَةٌ، ونَسِيجُها حَرِيرٌ، وأَلوانُها مِن قَوْسِ سَحابٍ، ومَشاعِرُها مِن قَرارَةِ النَّفسِ الشَّفِيفَةِ، وهي لَمَّا تَزَلْ في بِدايَةِ الطَّريِقِ الشَّاقِّ الطَّويِل… وفي العَشِيَّاتِ يُستَشرَفُ الصُّبْحُ الوافِد.

ونَعرِفُها مُهَندِسَةً بارِعَةً في مِضمارِها، فَأَنَّى لَها أَنْ تَكُونَ شاعِرَة؟!

هكذا يَظُنُّ بَعْضٌ ضَلالًا، فَالعِلمُ، مُتَوائِمًا مع الشِّعْرِ، يُضْفِي عَلَيهِ مَتانَةَ التَّرابُطِ، ومَنطِقَ التَّسَلسُلِ، ومُجانَبَةَ التَّخَبُّطِ العَشْوائِيِّ، والهَذَيان.

والحَياةُ وَحْدَةٌ مُتَكامِلَةٌ، فَقَد تَجتَمِعُ الأَحاسِيسُ اللَّطِيفَةُ، ورِقَّةُ الخَيالِ مع العَقْلِ العِلمِيِّ المُنَظَّمِ، فَإِذا الحاصِلُ حَسَنٌ سَلِيمُ البُنْيان. ولَنا في الكَثِيرِينَ مِن أَعلامِ البَشَرِيَّةِ، في حُقُولِ العِلْمِ كافَّةً والسِّياسَةِ والقانُونِ، وفي مُختَلِفِ العُصُورِ، أَمثِلَةٌ على ذلك. ونَسُوقُ مِنهُم، تَمثِيلًا، مِن بَينِ ظُهْرانَيْنا، أَمِين نَخْلَة، أَنطُون قازان، نقُولا فَيَّاض، عَبدَالله لَحُّود، حَسِيب غالِب، خَلِيل سَعادَة. وحَسْبُنا ما قالَ إِيزُودُور دُوْكان: «أَلشِّعْرُ هو عِلْمُ الهَندَسَةِ بِامتِياز».

ثُمَّ نَستَذكِرُ ما كَتَبَ أَفلاطُون على بابِ مَنزِلِهِ: «مَنْ لَم يَكُنْ مُهَندِسًا فَلا يَدخُلُ مَنزِلَنا»؟!

ونَختِمُ على الطَّرْحَ بِقَولِ مارُون عَبُّود: «أَلإِرادَةُ أُمُّ الإِبداع»!

فَلْنَأْخُذْ دِيوانَ ابنَةِ العِلْمِ هذهِ، «يَومَ قَرَّرتُ أَن أَطِير»، وهو بِكْرُها في مَخاضِ الحَرْفِ، لِنَرَى إِنْ كانَ عِلْمُها قد أَعاقَها في شَوْطِ الأَدَبِ، أَمْ هي أَعلَت لِوَاءَهُ رَفَّافًا في الرِّيح، مُتَوَّجًا بِغارِ الجَمالِ الرَّشِيق!

الشاعرة ميراي عبدالله شحادة

 

***

تَقُول: «فَاستَيقِظِي يا نَفسِي وتَوِّجِي هامَةَ والِدِكِ بِإِكلِيلِ غارٍ مِن أَرضِ لُبنان!» (ص 14).

تَرَكَها الوالِدُ الشَّاعِرُ وهي في غَضارَةِ الصِّبا، فَكانَ رَحِيلُهُ مَرِيرًا على الجَناحِ الطَّرِيِّ، فَزَرَعَ في شَغافِها أَلَمًا لَن يُفارِقَها على العَمْر. وبَقِيَت أَسِيرَةَ حُبِّهِ رُغْمَ عُقُودٍ مَرَّت على غِيابِهِ، فَتَحَرَّرَت مِن تَوافِهِ الأُمُورِ، وحَلَّقَت في أَثِيرِ الحَرْفِ المُنَزَّهِ عن الصَّغائِر. وسَمَت بِرُؤْيَتِها ورُؤْياها حِينَ تَناوَلَتِ المَحَبَّةَ، جَوْهَرَ الوُجُودِ وقُصارَى التَّجَلِّي الإِنسانِيِّ، فَقالَت:

«بِالمَحَبَّةِ أَوصانا الله

  دَعُوها تَتَكَلَّمُ فِيكُم، تَتَحَكَّمُ بِكُم، تُسَيطِرُ عَلَيكُم!» (ص 91).

وتَختِمُ بِطِباقٍ بَدِيعٍ اختَرَقَت بِهِ قاعَ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ بِحِذْق: «مَتَى أَسَرَتِ المَحَبَّةُ حَرَّرَت» (ص 91).

وَها إِنَّ تَا شاعِرَتَنا تُذَكِّرُنا، ولَو على تَمايُزٍ قَلِيلٍ، بِجُبران خَلِيل جُبران القائِل: «أَمَّا أَنتَ إِذا أَحبَبتَ فَلا تَقُلْ: اللهُ في قَلبِي. بَل قُلْ: أَنا في قَلبِ الله»، حِينَ تَقُولُ هي:

«بِها [المَحَبَّة] يَستَيقِظُ الإِلهُ الغافِلُ في قَلبِنا

 ورُوحُنا تَستَيقِظُ في قَلبِ الإِله…» (ص 92).

وفاضَت سَرِيرَتُها حَسْرَةً ودَمْعًا سَخِينًا، فَلَجَأَت إِلى قَلَمِها تَبُثُّهُ جَواها وحَسَراتِ الجَنانِ، وتَبكِي، في عِتابٍ، على الأَبِ الَّذي طارَ، وما أَرادَ، حامِلًا بَينَ أَضلاعِهِ طُيُوفَ عائِلَتِهِ المَفجُوعَةِ الَّتِي رَعاها بِالعَرَقِ وضِياءِ العَيْن. تَقُول:

«ولكِنْ، لِماذا طِرْتَ مِن أَيْكَةِ قَوافِيكَ وتَرَكتَنِي كَالعُودِ بِلا وَتَر؟!

  كَالزَّهرَةِ مِن دُونِ عَبِير؟!» (ص 14)

وتَوْجَعُ لِذِكرِه:

«ثَلاثُونَ عامًا مَضَت

  ويُوجِعُنِي وَرِيدِي…

  وبَعضِي هُناكَ لَدَيهِ

  وبَعضِي مُشتاقٌ إِلَيهِ

  إِنَّهُ لَن يَأْتِيَ…» (ص 144)

وَ:

«وإِلَى أَن تُسدَلَ سَتائِرُ غَسَقِي

  سَأَبقَى، هُنا أُصَلِّي، وأَنتَ هُناك» (ص 155)

ولِلأُمِّ، في حُرْقَتِها، نَصِيب. تَقُول:

«وكُلَّما بَسَطتُ يَدَيَّ عَلَّنِي أَجنِي القُبُلاتِ وأُعَتِّقُها في خَوابِي الذِّكرَياتِ وَجَدتُ شَوْكًا يا أُمِّي وعَلْقَمًا ومَرْمَر!» (ص 162)

مِن كَلِماتِها يَنضَحُ الصِّدْقُ، وتَبرُزُ مَوهِبَةُ انتِقاءِ الأَلفاظِ، فَإِذا بُكاؤُها غُصَّةٌ في حَلْقِ كُلِّ قارِئٍ بَلاهُ الدَّهرُ كَبَلائِها، وسَكَبَ اللهُ في رُوحِهِ مُرْهَفَ الحِسّ. وبَلايا الدَّهْرِ جَمَّةٌ، وَ «بِقَدْرِ الشُّعُورِ يَكُونُ الأَلَم» على حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ القَرَوِيّ، تَوازِيًا مع واقِعٍ مَحتُومٍ أَشارَ إِلَيهِ أَبُو العَلاءِ المَعَرِّيّ: «هِيَ الأَيَّامُ لا تُعطِي قِيادا»(1)!

وكانَ ما شَاءَت، والنَّفْسُ إِذا عَزَمَت تَرتَفِعُ بِالهَيكَلِ الخائِرِ وتَكشَحُ عَنهُ هُمُومَ العَيشِ، والعَدْوَ وَراءَ «كَفافِ اليَوم». وإِذ بِالمَرأَةِ، المَكلُومَةِ على الوالِدِ الَّذي تَرَكَها وهي في أَضْعَفِ العُمْرِ، «تُصارِعُ التِّنِّينَ» في الحَوْمَةِ العَسِيرَةِ، وتَخرُجُ لَآلِئَ تَلتَمِعُ على الجَبِينِ، وكَنْزًا يَزهُو في القَبْضَةِ النَّاعِمَةِ، هو نِتاجُ الأَبِ الشَّاعِرِ رافِلًا في المُطْرَفِ الأَنِيقِ الرَّاقِي.

وَلَرُبَّ قائِلٍ: وهل ذا عَمَلٌ مُعْجِزٌ، وَكُلُّ ابْنَةٍ بِأَبِيها شَغُوف؟

فَنَقُولُ: كُلُّ الوُلْدِ مُولَعُونَ بِآبائِهِم – إِلَّا في حالاتٍ شاذَّةٍ – أَمَّا حُبُّهُم هذا فَيَبقَى عَبِيرًا طَيِّبًا ولكِنْ مِن دُونِ ثِمارٍ إِذا لَمْ يَنصَهِرْ في بُوْتَقَةِ التَّضحِيَةِ، والبَذْلِ الأَقصَى. ونُراجِعُ في الأَمْرِ أَمِيرَ الشُّعَراءِ شَوقِي قائِلًا:

«فَلا خَيْرَ في الحُبِّ حَتَّى يَذِيعَ          وَلا خَيْرَ في الزَّهرِ حَتَّى يَنِمّ».                                   

فَحَيَّاكِ اللهُ يا بارَّةً بِأَبِيها، وواهِبَةً عُشَّاقَ البَدْعِ بَدْعًا يُقْصَدُ ولو بِسَفْحِ اللَّيالِي.

إِنَّما أَنتِ زَهرَةُ الوَفاءِ، وما لِعَبِيرِها أُفُول!

ويا صَدِيقِي عَبدَالله…

لَنْ يَكُونَ النِّسيانُ حَتْمًا عَلَيكَ وقد خَلَّفْتَ ابنَةً لا تُرْهِبُها الجُلَّى، والشَّأْنُ العَصِيبُ، وفيها إِيمانُ الرُّسُلِ لا تَثنِيهِم عن الهَدَفِ المَنشُودِ عَقَبَةٌ ولو كانَت كَأْداءَ، حِينَ هي على طَراوَةِ الأَزهارِ، وسَجْعِ البَلابِلِ!

 

                               ***

أَلحُبُّ، في رِيشَةِ هذه الشَّاعِرَةِ، على مَسحَةِ كَآبَةٍ عَمِيقَةٍ قد تَكُونُ جُذُورُها في تُربَةِ خِذْلانٍ ما، وجُرْحُ الخِذْلانِ في صاحِبِ الشُّعُورِ الدَّافِقِ نازٌّ أَبَدًا. ويَلُوحُ مِن سُطُورِها، في مَواضِعَ ومَواضِعَ، حُزْنٌ دَفِينٌ، وضَياعٌ يَسرِقُها مِن نَفسِها، فَنَقمَتُها بَيِّنَةٌ بارِزَة. تَقُول:

«وإِثمِي، إِثمِي أَنَّنِي دُفِنتُ يَومًا في حُبِّكَ رَضِيعًا» (ص 48)

وأَيضًا:

«بَلابِلَ الشَّوقِ إِبقِي مَعِي!

  …

  أَضَعتُ عُودِي، أَضَعتُ لَحْنِي وشِعْرِي،

  أَضَعتُ حِبْرِي…» (ص ص 34، 36)

وهو الحُبُّ الَّذي ما ارتَوَى، فَزادَ أُوارُهُ، وشَحَنَ النَّفْسَ بِتَيَّارٍ أَقوَى، جُذُورُهُ في تُرْبَةِ الإِحباطِ، وقد تَنقَلِبُ طاقَتُهُ الكُبرَى إِلى إِحنَةٍ جَيَّاشَةٍ بِمِقدارِهِ، إِذا استَمَرَّ تَجاهُلُ الآخَرِ، أَو ازدِراؤُه. وقد لا تَكُونُ هذه حالَةَ شاعِرَتِنا الَّتي أَفصَحَت:

«أُحِبُّكَ كَثِيرًا كَثِيرًا

وأَنتَ لا تُبالِي…» (ص 79).

وَ:

«صامِتٌ جُرحِي…

ذَلِيلٌ…» (ص 94).

وَ:

«رَوَيتَ ثَغْرِي أَيَّامًا بِقُبُلاتِ يُوضاسَ

وبِعْتَ هَوايَ في لَيلَةٍ بِأَبْخَسِ الأَثمان» (ص 95).

هو الحُبُّ الَّذي أَوهَى الشَّكُّ أَساساتِهِ، فَباتَ مَصدَرًا لِلأَسَى، ومَوْرِدًا لِلوِجدانِ المُتَأَجِّجِ الَّذي يَكوِي القَلبَ بِنارِهِ، ولكِنَّهُ يَروِي نَبْتَةَ الشِّعْرِ بِمائِهِ الزُّلال. تَقُول:

«أَخافُ أَن يُصبِحَ وَطَنِي

مَدِينَةً لِأُخرَى

لا تَعرِفُ أَعماقَ وَطَنِي

ونَبْضَ الشَّرايِينِ في وَطَنِي،

أَخافُ عَلَيكَ مِن أُخرَى

لَن تَكتُبَ لَكَ الشِّعْرَ

ولَن تَقرَأَ في عَينَيكَ كُتُبَ الدُّنيا…» (ص ص 80، 81).

ومَوطِنُها لَيسَ إِلَّا قَلبُ مَحبُوبِها الذَّاهِلِ الغافِلِ عَمَّا يَجِيشُ في صَدرِها مِن عاطِفَةٍ وَضَعَتهُ قِبْلَةَ عَينِها وفُؤَادِها والمَشاعِر.

وكَيفَ لا تَكُونُ الخَيبَةُ قاسِيَةً، على مَنْ شَفَّها الحُبُّ، مِمَّنْ رَنَّمَت له أُغنِيَةَ الهُيام:

«لَوَّنتَ أَحلامِي بِرِيشَةِ أَحلامِك

  […]

  ثُمَّ وَلَدتَنِي مِن جَدِيد

  امرَأَةً عاشِقَةً بِلا قُيُود» (ص 119)

وَ:

«وَجَعَلتَنِي مَلِيكَةً على عَرْشِك» (ص 120)

وَ:

«وَأَحلامِي… مِنكَ أَنجَبتُها

  وقد حَمَلتُها في أَحشائِي سِنِين…» (ص 125)

ولَكَم نَقَعُ على الكَثِيرِ مِنَ الصُّوَرِ، والتَّعابِيرِ اللَّطِيفَةِ، والسَّبْكِ الجَمِيلِ يُرافِقُهُ الجَرْسُ العَذْب. تَقُول:

«في عَينَيكَ حَكايا طَوِيلَة

  قَرَأْتُ فِيهِما عَن قَوْسِ قُزَح

  وعن طَبِيعَةٍ جَمِيلَة

  قَرَأْتُ ثُمَّ قَرَأْتُ

  حَتَّى غَفَوتُ بَينَ رُمُوشِكَ الكَحِيلَة» (ص 127)

ويَتَبَدَّى الحُبُّ، في المُؤَلَّفِ مَوضُوعِنا، عاصِفَةً تَنشُدُ السُّهُوبَ الفِيْحَ مَدًى تَنشُرُ فيه جَناحَها، فَتَجبَهُها الشَّواهِقُ العَصِيَّةُ، فَيَتَحَوَّلُ إِلى استِعطافٍ وتَرَجٍّ، ويَنتَثِرُ المِدادُ فَراشاتٍ تَملَأُ صَدْرَ الصَّحِيفَةِ، وخَمْرًا تُدفِئُ لَيالِي السُّهاد. نَقرَأُها:

«لَو كُنتَ تَدرِي

  ما خَمَّرْتُ لَكَ في الخَوابِي

  لَبَحَثتَ في داخِلِكَ عَنِّي، وَوَجَدتَنِي

  عاشِقَةً

  تَسكُنُ مِن زَمَنٍ في مَعْبَدِ عَينَيك» (ص 99).

وَ:

«فَهَلُمَّ يا مَلاكِي، رَأْفَةً!

  يا قَدَرِي الفَتَّاكَ، رَحْمَةً!

  أَنِرْ ظُلمَتِي بِوَجهِكَ الوَضَّاء،

  وأَزِحِ الحَجَرَ عَن قَبرِي،

  وامْحُ أَحزانِي!» (ص 113).

ويَمَضُّ العَجْزُ الشَّاعِرَةَ العاشِقَةَ، فَتَعِيشُ أَوهامَها لَحَظاتٍ هانِئَةً سُرعانَ ما تَستَفِيقُ مِنها واهِنَةً مُحبَطَة. نَقرَأُها:

«أَركُضُ وَراءَ أَوهامِي،

  وأَهرُبُ مِنها مُرتابَةً،

  فَمَلاكِي بِقُربِي وبَعِيدٌ عَنِّي

  وأَنا لا أَدرِي كَيفَ أُنادِيه…» (ص 101).

فَنَتَذَكَّرُ، إِثْرَها، صَيْحَةَ الشَّاعِر:

«ومِنَ العَجائِبِ، والعَجائِبُ جَمَّةٌ،         قُربُ الحَبِيبِ وما إِلَيهِ وُصُولُ

   كَالعِيسِ في البَيداءِ يَقتُلُها الظَّما       والماءُ فَوقَ ظُهُورِها مَحمُولُ»

مُعظَمُ الكِتابِ نَجاوَى نَفْسٍ، ومُسارَّاتٌ حارَّةٌ مع حَبِيبٍ أَدارَ ظَهْرَهُ لِحُبٍّ نَما وأَزهَرَ وكادَ يُثْمِرُ لَولا طَعْنَةٌ نَجْلاءُ في صَمِيمِهِ مِنَ اليَدِ الَّتي كانَ عَلَيها أَنْ تَسقِيَهُ دَمْعَ العَيْنِ، وتُهَدهِدَهُ بِالحَنانِ ولُهاثِ الحَنايا. تَقُول: «في مَوطِنِكَ تَعَمَّقَت جُذُورِي» (ص 66)، والجَزاءُ أَنْ تَرَكَها «امرَأَةً حَزِينَةً لا تَستَطِيعُ أَنْ تَفْرَحَ» (ص 69)، لَكَأَّنَ حُزنَها لا كُوَّةَ في ظَلامِهِ المُهَيْمِن.

وتَرُوحُ الشَّاعِرَةُ، في خَطَراتِها، تَستَلُّ كَلِماتِها مِن حُبٍّ أُجْهِضَ ولَمَّا يَزَلْ «جَنِينًا في رَحِمِ الحَياةِ» (ص 20)، كَلِماتٍ فِيها جِمارُ الوَجْدِ وصَقِيعُ التَّخَلِّي، وفِيها الأَمَلُ والأَسَفُ، فهي «مَمزُوجَةٌ بِالفَرَحِ والأَنِين» (ص 20)، لِأَنَّها ابنَةُ الحَياةِ، والحَياةُ إِنِ ابتَسَمَت حِينًا لَتَعْبِسُ أَحيانًا. هي آهاتُ شاعِرَةٍ مَكْلُومَةٍ تُثِيرُ الأَسَى في القارِئِ ولكِنَّها تُخَدِّرُهُ بِمَحاسِنِ التَّعابِيرِ، وتَترُكُ فِيهِ عَمِيقَ الأَثَر.

وهي تَجِدُ نَفسَها في دُوَّامَةٍ لا مَناصَ مِنها، فَطَعْمُ الحَياةِ وجَدْوَى عُبُورِها يَمْتَحانِ مِنْ حَبِيبٍ يَملَأُ الوُجُودَ، ولكِنَّهُ… سَراب.

فَهَل مَرارَةٌ أَقسَى على كائِنٍ رَقِيقٍ كَكِمامِ الوَرْدِ، ضَعِيفٍ أَمامَ مَصِيرٍ مُقَدَّر؟! تَقُول:

«أَعِيشُ لِأَجُوعَ مَعَك

  وأَعِيشُ لِأَقتاتَ مَعَك

  وقَدَرِي أَنَّهُ مُحالٌ مُحال

  أَنْ أَعِيشَ مَعَك…» (ص 24)

وهي، «يَومَ قَرَّرَت أَن تَطِيرَ»، «اختارَت أَثمَنَ مَراياها وأَروَعَها» (ص 17)، والمَرايا أَلَيسَتِ الإِدراكَ والمَعرِفَةَ، وأَثمَنَها أَلَيسَت أَحلامَ الطُّفُولَةِ والصِّبا والشَّبابِ، النَّقِيَّةَ مِن تَساؤُلاتِ الإِنسانِ عن غَناءِ الكِفاحِ، وقَرارَةِ المَصِير؟!

فَهَل هي عَبَثِيَّةُ الوُجُودِ، وعَجْزُ الإِنسانِ أَمامَ قَدَرٍ لا بُدَّ مِنهُ، تَجَلَّيا في أُفُقِ هذه الشَّاعِرَةِ، فَوَقَفَت إِزاءَها كَعُصفُورٍ وَقَعَ في شَرَكٍ مُحْكَمٍ، وحَبِيبَةٍ تَتَشَبَّثُ بِهَوًى سَجِينٍ في قَبضَةِ حَبِيبٍ «جَلَّادِ هَوًى» (ص 26)، يُقفِلُ على الأَمَلِ ويَئِدُ الأَحلام؟!

وهي مُقَيَّدَةٌ بِحُبٍّ مَلْجُومٍ، عَواطِفُها وأَحاسِيسُها تَشُدُّها إِلى الحَبِيبِ المُجافِي بِسَلاسِلَ أَقوَى مِن عَزْمِها الواهِي، وقِوامِها الدَّقِيقِ، حِينَ إِدراكُها يَجْهَدُ لِلخُرُوجِ والتَّحَرُّر.

والمَرءُ، مَهما حَلَّقَ في أَحلامِهِ وأَمانِيهِ، يَبقَى في مَحَطِّ نَظَرِهِ نَذِيرٌ يُذَكِّرُهُ بِأَنَّ العُقْبَى هُناك… في كُوَّةِ المَجهُول. فَهَل صَحَّت فِيها مَقُولَةُ هنرِي مِيلر: «تَصَوَّر، تَصَوَّر أَن لَيسَ أَمَامَكَ إِلَّا مَصِيرُك»؟!

أَناشِيدُ هذه الشَّاعِرَةِ تَتَرَجَّحُ بَينَ ابتِساماتٍ شاحِبَةٍ، ودُمُوعٍ سَخِينَةٍ، وفي حالَتَيها عَرَفَت كَيفَ تَبُثُّ الرُّوحَ في الكَلِماتِ لِتَرتَقِيَ إِلى ذُرَى المَشاعِرِ الصَّادِقَةِ، فَوَسَمَتها بِالشِّعْر.

وتَضِجُّ دِماءُ الشَّبابِ في عُرُوقِها الفَتِيَّةِ، فَتَنفِرُ مِنِ انقِباضٍ يَحُوطُها، وتُعانِقُ الفَجْرَ، مُنادِيَةً الحَبِيبَ بِلَهْفَةِ الوِصال:

«أُحِبُّكَ غِنْوَةً في عِيْدِ الحَياة

  …

  ساجِدًا راقِصًا في مَعْبَدِ الأَشواق

  والعِيدُ يا حَبِيبِي

  غِنْوَةُ الكَلام

  وسَكْرَةُ الأَحلام

  فَغَنِّ وأَبْدِعِ الأَلحان»  (ص ص 45، 46)

نَعَم…

أَلشِّعْرُ شُعُورٌ مُتَأَجِّجٌ صِيْغَ في غِناء. وأَصابَ جُبرانُ خَلِيل جُبران حِينَ قال: «لَيسَ الشِّعرُ رَأيًا تُعَبِّرُ الأَلفاظُ عَنهُ، بَل هو أُنشُودَةٌ تَتَصاعَدُ مِن جُرحٍ دَامٍ أَو فَمٍ بَاسِم».

ولِلَّهِ دَرُّكِ، يا صاحِبَتَنا، تُنشِدِين: «جَرِّحِ القَلبَ وَارْوِ ظَمَأَ حُبِّي بِدَمِك» (ص 38)، فَنَسمَعُ شاعِرَ غَلْواءَ، أَبا شَبَكَةٍ، مُتَنَهِّدًا:

«إِجرَحِ القَلبَ وَاسقِ شِعرَكَ مِنهُ            فَدَمُ القَلبِ خَمرَةُ الأَقلامِ»

والحُبُّ، في دُنيا الشَّاعِرِ، ضَرُورَةٌ لِلإِبداع. فَإِنِ ارتَوَى كانَ عُمُرُهُ قَصِيرًا، وذَوَى بُعَيْدَ الوِصالِ، وانتَهَى بِانتِهائِهِ عُمْرُ العَطاءِ، والقافِلَةُ بَلَغَت قِبْلَتَها، وخَبا الحُداء. أَمَّا إِذا اكتَوَى بِالفِراقِ، والتَّلَظِّي، والظَّمَأِ، فَإِنَّهُ يَستَحِيلُ إِلى حَياةٍ في المِدادِ، وبَرِيقٍ في المَآقِي، ومُرُوجِ نَوْرٍ على رِقاع!

تَتَمَيَّزُ كِتابَةُ شاعِرَتِنا بِرَمزِيَّةٍ تَتَرَجَّحُ بَينَ حالاتٍ سَهلَةِ المَنالِ، وأُخرَى مُغَلَّفَةٍ بِغُمُوضٍ يَتَطَلَّبُ جُهْدًا لِلدُّخُولِ في جِلْدِ صاحِبَتِها لِمَعرِفَةِ خَفايا التَّلمِيحاتِ. وإِنْ بَدا أَحيانًا مُرْهِقًا، فَإِنَّهُ يَبقَى الأَفضَلَ، فَالتَّلمِيحُ، في الشِّعْرِ، خَيْرٌ مِنَ التَّصرِيحِ الَّذي يَقتُلُ شَغَفَ القارِئِ، ويُسَطِّحُ النَّصّ. 

***

في الخُلاصَة…

هذا الدِّيوانُ يُرْهِصُ بِشاعِرَةٍ تَتَلَمَّسُ دَربَها بِحَذَرِ الفَطِنِ، وثَباتِ المَوهِبَة.

لَم تَتَعَمَّلْ فِيهِ لِبَلاغَةٍ تُرتَجَى، أَو بَيانٍ مُعْجِزٍ، أَو سَبْقٍ في الشِّعْرِ لا يُبارَى، بَل أَرسَلَتهُ عَفْوَ الخاطِرِ كَما باحَت بِهِ رُوحُها، فَــ «طَبْعُ النَّفْسِ لِلنَّفسِ قائِدُ»(2)، وكانَ أَن أَتَى جَمِيلًا بِبَساطَتِهِ وعَفْوِيَّتِهِ وَ «أَلأَشياءُ البَسِيطَةُ هي الأَكثَرُ عُمْقًا وشاعِرِيَّة»(3). ثُمَّ أَلَيسَ «كُلُّ ما يَكتُبُهُ الفَنَّانُ مِن خَيالٍ أَو واقِعٍ هو الفَنَّانُ نَفسُه»(4)؟!

وأَدِيبَتُنا فَرِحَت وتَأَلَّمَت، تَأَمَّلَت وخابَت، قَنَتَت وثارَت، فَكانَت تَمَوُّجاتُها رَوافِدَ لِخَطَراتِها اللَّطِيفَةِ الَّتي أَخرَجَتها دِيوانًا رَقِيقَ الهَمَساتِ، فَصَحَّ فِيها تَلوِيحُ الشَّاعِرَةِ عَلْيَة بِنْت المَهْدِيّ:

«إِذا لَم يَكُنْ بِالحُبِّ سُخْطٌ ولا رِضًى        فَأَينَ حَلاواتُ الرَّسائِلِ والكُتْبِ».

وباكُورَتُها الَّتِي نَطُوفُ فِيها هي نَفَثاتٌ حَرَّى مِن رُوْحٍ تُدرِكُ وتَشعُرُ وتَتَأَلَّمُ، وأَشواقٌ مَبثُوثَةٌ طَيَّ كَلِمٍ رَقِيقٍ عَذْبٍ مِن عاشِقَةٍ لِلجَمالِ، نَذَرَت رِيشَتَها لَهُ، وتَهَجَّدَت في مِحرابِهِ، وكانَت صَلَواتُها مَقطُوعاتٍ نَثرِيَّةً فَنِّيَّةً فِيها مِنَ الشِّعْرِيَّةِ ما يَرفَعُها عَن السَّرْدِ النَّمَطِيِّ المَمْلُولِ، بِلُغَةٍ سَلِيمَةٍ سَهلَةٍ نادِرَةٍ في الأَقلامِ الفَتِيَّة. وهي غَنِيَّةٌ بِالصُّوَرِ المَجازِيَّةِ الدَّوافِئِ، والخَيالِ المَضْبُوطِ في إِطارِ الواقِعِيَّةِ الفَنِّيَّةِ، فَلا تَمُجُّهُ الذَّائِقَةُ الدَّقِيقَةُ، ولا تَضِيعُ في طَلاسِمِهِ الأَفهام. وكُلُّ هذا يَجرِي تَحتَ مِجْهَرِ «ابنَةِ العِلْمِ» اليَقِظَة.

صَدِيقَتَنا…

لقد كانت رِحلَتُنا مَعَكِ شَيِّقَةً دافِئَةَ الوَقْعِ، بَينَ ذِكْرٍ لِلأُمِّ والأُمُّ هي الأَلصَقُ بِالإِنسانِ، ومُناجاةٍ لِلأَبِ الصَّدِيقِ الشَّاعِرِ أَرجَعْتِ بِها لِبَصِيرَتِنا السَّاهِيَةِ صُورَتَهُ مِن خَفايا الذَّاكِرَةِ، وسِرارًا حارًّا مع الحَبِيبِ يَتَجاذَبُهُ عَتْبٌ ورِضًى وشَوقٌ دائِمٌ، فَإِذا بِكِ في بابِ الشِّعْرِ، ومِفتاحُهُ في يَدِكِ كَما يَقُولُ ذُو الرُّمَّة(5).

عَسَى أَنْ نَكُونَ أَصَبنا في عُجالَتِنا هذهِ، وإِلَّا فَحَسْبُنا أَنَّا أَبْحَرنا فَفاتَتْنا مَخابِئُ الدُّرَر!

فَهَنِيئًا لَكِ بِهذا الدِّيوانِ المُفتَتَحِ، وإِلى إِخْوَةٍ لَهُ تَنتَظِمُ بِها العائِلَةُ المَبْرُورَة!

ــــــــــــــــ

(1): «وما نَهْنَهْتُ عن طَلَبٍ، ولكِنْ         هيَ الأيَّامُ لا تُعطِي قِيادا»

   (أَبُو العَلاء المَعَرِّي) – (نَهنَهتُ: كَفَيتُ ومَنَعتُ)

(2): «وَكُلٌّ يَرَى طُرْقَ الشَّجاعَةِ والنَّدَى      وَلكِنَّ طَبْعَ النَّفْسِ لِلنَّفسِ قائِدُ»   (المُتَنَبِّي)

(3): «أَلأَشياءُ البَسِيطَةُ هي الأَكثَرُ عُمْقًا وشاعِرِيَّة»

      (الشَّاعِرُ جُورج شحادة، مِن حَدِيثٍ لَهُ مع الكاتِبِ التُّونُسِيِّ خالِد النَجَّار)

(4): «كُلُّ ما يَكتُبُهُ الفَنَّانُ مِن خَيالٍ أَو واقِعٍ هو الفَنَّانُ نَفسُه»

             (مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 4، «في المُختَبَر»، ص 208)

(5): «مِفتاحُ الشِّعرِ الخَلْوَةُ بِذِكْرِ الأَحباب»   (ذُو الرُّمَّة)

2 comments

  1. ممتع للغاية ، عمل جيد وشكرا لمشاركة مثل هذه المدونة الجيدة.

  2. يقول موريس وديع النجار:

    أشكرك من كل قلبي، أنت نصير للكلمة

اترك رد