وليد فكري
(كاتب وباحث في مجال التاريخ)
كعادتهم يصنع العثمانيون الجدد أصنامًا يضعونها لأتباعهم ليقدسوها ويسبحوا بحمدها آناء الليل وأطراف النهار.. ويحتشدون ضد من يفكر في تناولها بما يكرهون، فيوجهون له أبشع الاتهامات في دينه وخُلُقه وأمانته.
من هذه الأصنام السلطان العثماني “عبد الحميد الثاني” الذي حكم بين عاميّ 1876م و1909م، والذي تحول إلى أيقونة عند هؤلاء، وساهمت الدراما التركية في توطيد تلك الصورة المثالية المشرقة له في أذهان المتحلقين حول وهم نوستالجيا “الخلافة العثمانية”!.
السلطان ينتحل الخلافة
في العام 1876م تولى عبد الحميد الثاني السلطنة بعد سلطانين انتهى عهداهما بالانقلاب ثم الخلع: عبد العزيز الذي كان متلافًا مسرفًا متهافتًا وانتهت حياته بانتحاره في محبسه بعد خلعه، ومراد الرابع الذي كان مختلًا عقليًا مما استدعى استصدار فتوى بجواز خلعه ليحل عبد الحميد المذكور محلهما (والجدير بالذكر أن عهده كذلك قد انتهى بالانقلاب عليه وخلعه).
وفي نفس العام المذكور، أُعلِن الدستور العثماني الذي نَص على أن “السلطان هو خليفة المسلمين واسطنبول هي دار الخلافة” وبهذا فإن السلطان عبد الحميد الثاني هو رسميًا أول خليفة عثماني (وليس سليم الأول كما يشيع العثمانيون الجدد كذبًا وزورًا).. وتضمن هذا الدستور أن شخص السلطان/الخليفة له حرمة مقدسة فهو غير مسئول عن تصرفاته أمام أي شخص!.
كان إعلان الخلافة وتبني فكرة الجامعة الإسلامية هو حلًا تفتق عنه ذهن السلطان لمواجهة حالة الانهيار التي عمت إمبراطوريته المنحدرة إلى طريق الزوال، فالمستعمرات العثمانية في البلقان وشرق أوروبا واليونان تنتفض وتطرد الوجود العثماني واحدة تلو الأخرى، وشماليّ أفريقيا يتعرض للاحتلال من أوروبا تحت ذرائع مختلفة، ومصر والشام تنمو فيهما روح القومية والوطنية سواء للوطن الأم أو للقومية العربية كلها، والإصلاحيون العثمانيون يطالبون بالحكم الدستوري والرقابة الشعبية على تصرفات السلطة، والعنصران العربي والعثماني يتصادمان يغضب العنصر العربي من العنصرية والعجرفة العثمانية.
أُعلِنَت الخلافة إذن، واعتبر عبد الحميد الثاني أنه قد صار “أمير المؤمنين وخليفة المسلمين” وبالتالي فإنه قد أمسك بالسلطتين المدنية والدينية… ولكن “أمير المؤمنين” المذكور قد ارتكب جريمة نكراء بحق مصر التي إن كانت تحظى ببعض الاستقلال الجزئي إلا أنها كانت محسوبة رسميًا على الولايات العثمانية.
تسليم مفتاح غزو مصر للمحتل الإنجليزي
منذ العصر الراشدي ومعروف أن قبرص هي من أهم مفاتيح أمن شرق المتوسط خاصة مصر.. معلومة تنبه إليها كلا من الخليفة عثمان بن عفان ووالي الشام-آنذاك-معاوية بن أبي سفيان الذي كان صاحب فكرة فتح المسلمين لها.
أدرك الغزاة الفرنجة هذه الحقيقة خلال فترة الحملات الصليبية، فاحتلوا الجزيرة واتخذوها قاعدة لمهاجمة الثغور الإسلامية حتى قام السلطان المملوكي الأشرف برسباي بغزوها وإخضاعها للدولة المملوكية، وبقيت على هذا الحال حتى أعاد العثمانيون إخضاعها واستولوا عليها.
فما الذي فعله عبد الحميد بهذه القاعدة البحرية الهامة؟
لقد قدمها غنيمة باردة لإنجلترا.. فبسبب الانتفاضات والثورات ضد الحكم العثماني في البلقان، وانحياز روسيا القيصرية لتلك الحركات، اندلعت الحرب العثمانية الروسية في العام 1877م والتي تلقى فيها العثمانيون هزائم مذلة بلغت أن تقدمت القوات الروسية من العاصمة اسطنبول حتى “صار الجند الروس يرون مآذن المدينة بأعينهم”.
أفزع التقدم الروسي الدول الأوروبية التي كانت تخشى أن تنفرد روسيا بوراثة تركة العثمانلي “رجل أوروبا المريض”، فتقدم البريطانيون من العثمانيون يعرضون العون-بينما هم في حقيقة الأمر يريدون اقتطاع قطعة من الكعكة-وتقدم الأسطول البريطاني من السواحل العثمانية.
وتدخلت القوى الدولية لإيقاف الحرب، فتم إبرام معاهدة سان ستيفانو في العام 1878م والتي أذلت العثمانيون بانتزاع أغلب البلقان منهم، وأنشأت دولة بلغاريا كمسمار في خاصرتهم تتحكم فيه روسيا.
وفي نفس العام في برلين، جمع المستشار الألماني بسمارك الأطراف الأوروبية والعثمانية لعقد مؤتمر ظاهره السلام وباطنه تحديد “حقوق” الدول الأوروبية الاستعمارية في تركة العثمانيين حتى يتحقق التقسيم دون إراقة “دماء أوروبية”.
دارت المشاورات والتي أحدثت بعض التقسيمات في الممتلكات العثمانية السابقة في البلقان و”الرومللي” بشكل عام، بشكل زاد من الانتقاص من الوجود العثماني وجعل العثمانيون تحت رحمة الأوروبيون.. وهذا بشكل صريح وصادم، إلى حد أن ممثل الدولة العثمانية حين اعترض على تلك التقسيمات قال له بسمارك بشكل مباشر أنهم قد اجتمعوا هنا لبحث المصالح الأوروبية لا العثمانية.
فهل اتعظ عبد الحميد من الكارثة وأدرك أن الأوروبيون لا يهتمون إلا بأنفسهم؟
أسارع بالإجابة بالنفي، فلقد وقع ألعوبة بين يدي الداهيتان دزرائيلي-رئيس وزراء بريطانيا-وسالزبوري وزير خارجيتها، الذان أٌقنعاه أن البريطانيين هم حلفاء وأصدقاء العثمانيين ضد المطامع الروسية.. ولم ينتهي مؤتمر برلين المذكور إلا وقد وقعت الدولة العثمانية اتفاقًا سريًا مع بريطانيا يسمح للبريطانيين باحتلال جزيرة قبرص في حال تحركت القوات الروسية بشكل يهدد الدولة العثمانية.. وذريعة ذلك أن بريطانيا تحتاج إلى هذه الجزيرة كقاعدة لأسطولها الذي سيحمي السواحل العثمانية!.
التمهيد لغزو مصر
لم يدرك عبد الحميد الثاني-الذي كان فيما هو واضح يثق أكثر من اللازم بذكاءه-أن كلا من بريطانيا وروسيا كانتا وجهان لعملة واحدة: الاستعمار.. ولكن الفرق أن الدب الروسي كان يجاهر بالأطماع والعداء بشكل فج وصوت عال بينما كان الثعلب البريطاني يرسم على وجهه ابتسامة وديعة ويتصنع المودة وهو يخفي خنجره خلف ظهره.. وهذا الخصم هو الأخطر بين النمطين.
ولتأكيد خبث اللعبة، فإن الطرف البريطاني قد أبرم اتفاقًا سريًا مماثلًا مع دولة النمسا والمجر (كنتا دولة واحدة آنذاك) يسمح لها باحتلال البوسنة والهرسك مستقبلًا.
ولم يعرف النمساويون بالاتفاق البريطاني العثماني كما لم يعلم العثمانيون بالاتفاق البريطاني النمساوي.
واستغل البريطانيون إصرار الروس على الاحتفاظ ببعض المواقع الاستراتيجية على ضفاف البحر الأسود، فوجهوا أسطولهم إلى قبرص واحتلوها، رغم عدم وجود تهديد جدي للدولة العثمانية.
وبذلك صار لبريطانيا قاعدة بحرية هي الأقرب لمصر، تطل مباشرة على سواحلها وتوصل بشكل سريع إلى قناة السويس ومنها لعمق مصر!.
وسارعت بريطانيا بتسوية أوضاعها مع فرنسا التي ما أن علمت بأمر اتفاق “السماح باحتلال قبرص” حتى غضبت، فأرضى البريطانيون الفرنسيون باتفاق يطلق يد فرنسا مستقبلًا في احتلال تونس مقابل غض البصر عن النشاط البريطاني في قبرص والخطط تجاه مصر.. وقد كان ففي العام 1881م تحركت القوات البرية الفرنسية من الجزائر لتغزو تونس، مدعومة بالبحرية الفرنسية على السواحل.
والتهت فرنسا بمستعمراتها في شمالي أفريقيا، بينما صار الباب البحري مفتوحًا على مصراعيه لبريطانيا لتوجه ضربتها إلى مصر.
***
(*) سكاي نيوز