القضية الفلسطينية ضحيّة أوهام الإسلاميين بالسلطة: تونس نموذجاً

بقلم: ملاك عبد الله

 يجمع المحللون والسياسيون على أنَّ شرارة انطلاق الحراك العربي، الّذي أبصر  النّور منذ ما يقارب الثّلاث سنوات، قد تولّدت بادئ ذي بدء من تردّي الأوضاع المعيشية والإقتصاديّة والإجتماعيّة، الّتي عانت منها شعوب تلك البلاد، بعد تولّي أنظمة حكم عديدة سدة الحكم فيها لسنواتٍ طوال، كانت كافية لجلب الكثير من الفساد، والمزيد من الفقر، والقليل من الحقوق والكرامة.

 ولأن شعوب تلك المنطقة هم في غالبيتهم إسلاميّو الهويّة، ولأنَّ أحزاب إسلاميَّة عدّة تغنَّت لسنواتٍ بشعار”الإسلام هو الحلّ”، صدقت التّوقّعات الّتي سبقت “الربيع العربي”، والتي كانت تنبئ بصعود الإسلاميين إلى مواقع السّلطة.

الصّعود السّريع للإسلاميين أربك مراكز صنع القرار في كيان العدوّ، الّتي تخوّفت في البداية من مجريات الأمور، سيّما وأنَّ القضيّة الفلسطينيّة لطالما كانت مطلب الشّعوب العربيّة الّتي كانت تشتكي تخاذل الأنظمة وتواطؤها، وخصوصاً في ظلّ الحديث عن أنَّ القوى الّتي فتحت باب التّغيير في المنطقة هي قوى المقاومة لأنها ساهمت في كسر حاجز الخوف من نفوس الشّعوب. إلّا أنَّ خوفاً كهذا سرعان ما تبدّى بعد أن بدت القضيّة الفلسطينيّة وكأنّها غائبة عن المشروع العام للأحزاب الإسلاميّة الّتي وصلت إلى السّلطة، لا بل كان السّياق يجري في إطار تقديم ما يشبه التّطمينات لهذا الكيان، والأدلّة على ذلك وافرة، والحجّة جاهزة: تطبيق سياسية التّمكين كأولويّة تسبق مسألة فلسطين.
وفي ظلّ “الرّبيع التّكفيري” الّذي يشهده الواقع الإسلامي بشكلٍ عام، خبت القضيّة الفلسطينيّة أكثر فأكثر في الإعلام وفي المشاريع العامّة للدَّول-إلا ما ندر- لصالح التّركيز على قضيّة العنف التّكفيري، فبدا هذا الأخير على رأس سلّم الأولويات، بينما تكاد الورقة الفلسطينيّة تكون قد “أُجِّلت” أو “أُبعِدت” إلى أجلٍ غير مسمّى..

ولئن ظلّت الدُّول الّتي انطلق فيها الحراك العربيّ تشهد موجات من العنف اليوميّة بين مناصري مختلف الأطياف السياسية، والّتي تستدعي أن يسلّط الإعلام الضّوء عليها باستمرار، فإنَّ تونس قد نجحت مؤخّراً في اجتناب الوقوع في المنزلق المصري، واستطاعت الأحزاب فيها التّوافق على حكومة ومشروع دستور يخلّصان البلاد من أتون الفتنة، ويسهمان في تحقيق مطالب الثّورة…إلّا أنَّ ما حصل من أحداثٍ في الأسابيع القليلة الفائتة عُدَّ تطوّراً لافتاً وخطيراً يبعث على المزيد من التّشاؤم فيما يخصّ موقعيّة القضيّة الفلسطينيّة في السّلطة الجديدة، وربما تتعدّاه إلى موقعيّتها في صفوف الشّعب التّونسي بشكلٍ عام.tunispalestine

ففي منتصف كانون الأوّل المنصرم، احتضنت تونس مؤتمراً يتناول موضوع الهولوكوست، عُقد برعايةٍ مشتركة من قبل الجمعيّة التّونسيّة لدعم الأقليّات ومؤسّسة التّفاهم العرقي الّتي تتّخذ من نيويورك مقرّاً لها، وهو المؤتمر الأول الّذي يتناول موضوع الهولوكوست في بلد عربيّ.

وكانت رئيسة الجمعيّة التّونسيّة لدعم الأقليّات قد صرّحت بأنّ الهدف من تنظيم المؤتمر هو “الإبقاء على الذّاكرة كي لا تتلاشى، والتّأكيد على أنَّ شيئاً فظيعاً قد حصل هو المحرقة النّازيّة الّتي لا ينبغي أبداً أن تتكرّر”، مضيفةً:” إنَّ الأحداث الرّهيبة التي حصلت خلال 1942-1943 تدفعنا اليوم إلى اليقظة وإلى الدّفاع عن حقوق جميع التّونسيين بمن فيهم اليهود التونسيون من تهديدات متطرّفين”. وقد أحيا المشاركون في المؤتمر مسألة مساعدة العرب المسلمين وإنقاذهم اليهود في تلك الفترة، خالقين ما يشبه “التّعاطف الإنساني” مع عذابات اليهود، والإضطهادات الّتي تعرّضوا لها. هذا ويشير البعض إلى أنَّ صحفيين إسرائيليين قاموا بتغطية الحدث.

من جهةٍ أخرى، منعت السّلطات التونسيّة الأسبوع الفائت ممثّلين عن حزب الله اللبناني والجهاد الإسلامي وحركة حماس من دخول البلاد للمشاركة في مؤتمر مناهض للصّهيونيّة تحت عنوان:” السّيادة الوطنيّة والمقاومة في الحراك العربيّ”، والّذي دعا إليه ائتلاف القوى المناهضة للصهيونيّة في تونس، الذّي يضمّ منظّماتٍ وأحزاب سياسيّة تونسيّة. ولم تقدّم السّلطات أي أسباب لهذا المنع، في ظلّ أسئلة تتمحور حول إذا ما كانت رموز المقاومة مستثناة من الدخول، مع العلم بأنَّ الشّخصيّات الّتي رُحّلت قد سبق لها أن زارت تونس بعد الثّورة، وشاركت في فعاليّات سياسيّة وفكريّة.. ولهذا، بدا الأمر وكأنه ليس مجرّد انتهاك للحق في المقاومة فحسب، بل انتهاكٌ لحقّ الإنسان في التّنقّل، في ظلّ مطالباتٍ بإلغاء التّأشيرات بين البلدان العربيّة.

وقد أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان ما تعرّض له عميد الأسرى المحرّرين سمير القنطار العام الماضي، حين تجمّع مئات الأشخاص التّابعين للتّيّار السّلفيّ في دار الشّباب في مدينة بنزرة شمال تونس، احتجاجاً على حضوره مهرجان القدس في دورته الثّانية، ثمّ تطوّر النّقاش مع المنظّمين ليتحوّل إلى مواجهة دامية نجى منها القنطار بعد أن هُرّب من الباب الخلفيّ. وكانت التّحليلات تفسّر الحادثة على أنها ردة فعل على الخطاب الّذي ألقاه القنطار في مؤتمر صحفيّ قبل يومين من المؤتمر، والّذي دعا فيه زعيم حركة النّهضة إلى إعلان تونس أرضاً لمعاداة التّطبيع مع الكيان الصهيوني كبادرة جدية تؤكد حرصه على تحرير فلسطين.

إلى هذا، برزت مؤخّراً قضيّة تجريم التّطبيع مع إسرائيل من بين النّقاط المثيرة للخلاف في النّقاش حول فصول الدّستور، حيث أصرّ نوّاب عن الجبهة الشّعبيّة على تضمين الدّستور إضافةً تفيد اعتبار إسرائيل دولة عنصرية لا بدّ من تجريم التعامل معها. مطلبٌ تمسّك به حزب المسار الدّيمقراطي الإجتماعي وحزب التّيّار الدّيمقراطي وبعض المستقلّين، فيما لم ترَ حركة النّهضة الّتي تقود الإئتلاف الحاكم، وشريكها حزب “التّكتّل من أجل العمل والحرّيّات” ضرورةً لذلك، على اعتبار أنَّ الدّستور يتضمّن فصلاً آخر يؤكّد التزام تونس بالدّفاع عن القضيّة الفلسطينيّة وحق كلّ الشّعوب في الحريّة وتقرير المصير. هذا المطلب ليس بجديدٍ على السّاحة السّياسيّة التّونسيّة،حيث احتجّت المنظّمات التونسية الداعمة للمقاومة العربيّة في أواخر العام 2012 على عدول المجلس الوطني التّأسيسي -والتي حصلت حركة النهضة على أغلب مقاعده- عن تضمين الدّستور بنداً صريحاً يجرّم التّطبيع، وقد كان لافتاً آنذاك موقف رئيس المجلس التّأسيسي مصطفى بن جعفر الّذي وصف المطالبين بالتّجريم على أنهم أقلّيّة متطرّفة، كما كان لافتاً أيضاً تصريح المرزوقي بأن تونس ليس لها أعداء، وأنَّ على الفلسطينييّن أن يحلوا مشاكلهم مع الإسرائيليّين.

الأمر يبدو وكأنَّ البقاء في السّلطة له شروطٌ تتعلق باسترضاء النّفوذ الدّولي والتخلّي عن المشروع الفلسطيني. والظّاهر أنّ المواقف الّتي تُطلق من موقع المعارضة تتغيّر مع تغيّر الموقعيّة باتجاه السّلطة. الحديث يدور حول دور السّفير الأمريكي وحول الإهتمام الصهيوني بالسّاحة السّياسيّة في تونس، والضّغط الإقتصادي الّذي يُمارس من قبل الصّهاينة وسفارات أجنبية ومؤسّسات ماليّة دوليّة لها شروط سياسيّة لتمكين تونس من الحصول على قروضٍ ماليّة. ومن المعروف أنَّ أفيغدور ليبرمان طلب من محافظ البنك المركزي الإسرائيلي التّصويت ضدّ التّعاون بين البنك الدّولي وتونس بسبب بند التّطبيع في العام 2012.

المعطيات كلّها تشير إلى انَّ السّلطة السياسية باتت خاضعةً لتلك الضّغوطات، وخائفةً من كلفة تجريم التّطبيع على العلاقات السياسية والإقتصاديّة مع الغرب. المعارضون يثيرون  مسألة إعادة اعتبار السّلطات للإحتفالات اليهوديّة التي تقام في كنيسٍ في جزيرة جربة، التي تضمّ 1500 يهودياً تونسيّاً، على شكلٍ فاق ما كان يحدث في عهد بن علي، وهم يتحدّثون أيضاً عن أنَّ التّطبيع بدأ يأخذ منحىً تصاعديّاً علنيّاً خطيراً.

في ظلّ هذه الأجواء، يتساءل سائل: هل ما يجري في تونس له علاقة بشعبها وبالشّعوب العربيّة بشكلٍ عام؟

هنا، تجدر الإشارة إلى بعض ردود الأفعال التي جاءت عبر مواقع التّواصل الإجتماعي والتي علّقت على ترحيل ممثلي الأحزاب المقاومة، فالبعض رأى أنّ ” على السّلطات الإعتذار عن هكذا مؤتمر على أراضيها على الأقلّ في هذه الفترة بالذّات”، ومنهم من دعا إلى ” إلغاء جميع النَّدوات واللقاءات طالما أن لا نتائج ملموسة لها”، وأحدهم رأى أنَّ من أخذ القرار بالترحيل كان واثقاً أنَّ أحداً لن يحاسبه، فيما برّر سبب الطّرد بأنه يأتي كردٍ على ما حصل مع الغنوشي في إيران قبل أحداث الربيع العربي، حين رُحِّل منها بتنسيق منها مع النظام السابق، والّذي سمح لإيران بنشر التّشيع، وهو يشترك معها في مصلحة التّضييق على الإسلاميين في تونس.
هناك من بدأ يلحظ تبدُّلاً في الرّأي العام التّونسي الّذي بات يركز على الحكومة التي تؤّمن له أموره المعيشية والإقتصادية،كما على الأمن والحرّيّات العامّة، فيما تؤّكّد الأحزاب المناهضة للصّهيونيّة أنّ حلّ القضيّة الفلسطينية لا يزال مطلباً شعبياً وهدفاً من اهداف الثّورة لا يقل أهمية عن تأمين الوظائف!

إنَّ ما يحدث في تونس مؤشّرٌ خطير يستدعي تحرّك الحركات المقاومة لعقد مؤتمرات وتنظيم تظاهراتٍ واحتجاجات للنّظر في هذه التحديات التي تواجه القضيّة الفلسطينيّة، وإنّ كلّ القوى العربيّة مدعوَّة لاستنكار هذه الأحداث الَّتي جرت في وقت متقارب جداً من حيث الزّمن، والّتي تنبئ بأزمةٍ تلوح في المستقبل القريب، وقد تكون نتائجها كارثية على مسألة فلسطين.

اترك رد