بقلم: الكاتب عبيدو باشا(*)
إذا كان المسرح أداة تعبير عن المأساة والتراجيديا والدراما، فهل ثمة من أداة للتعبير عن المسرح حين يتحول المسرح نفسه ليصبح مأساة؟ مأساة المسرح هي انشطاره بين المخرج المسرحي والكاتب المسرحي، هي الصراع بين الطرفين، بعدما كان التعاون الذي دام بينهما زمناً طويلاً، قائماً على فكرة عدم المساس بالنصّ المسرحي يُجِلُّه المخرج، قبل أن يتمرّد على النصّ، ويُخضِع المسرح لمواقفه الإيديولوجية المسائلة للنصّ بـ… تفكيكه. كيف حدثت هذه المأساة؟ وما علاقة حدوثها بالتغيرات التي يشهدها العالم اليوم؟
لا مجال لإمكانية وجود بعد آخر للعرض، خارج أولويات الإخراج المسرحي. لا أشياء حسّية في المجال هذا، سوى تثبيت العرض المسرحي، بشكله الكلّي، على ضرورة انصهار العناصر المختلفة، بتركيب العناصر الأدبية وغير الأدبية في عمل موحد. عرض منجز على اسم مخرجه. إنها مرحلة توجُّهٍ قطعيٍّ ببطولة المخرج على حساب الكاتب. دور الكاتب، مجرَّد دورٍ بين أدوار. راجَعَ جيل الطليعة، في بدايات القرن العشرين، حاضرَ الكتابة الدرامية، فوجد المراجعون أن سلطتها تفوق قوتها: وجدوا أن القوة الجديدة، بكتابة النقد، لغير صالح المؤسّسات السياسية والشخصيات السياسية، هي قوة العرض، لا قوة النصّ الصالح للقراءة بمعزل عن العرض المنجز. وصلوا إلى ذلك، من دون طول تفكير بالنتائج. لم يطرحوا هنا، إلا أسئلة الحرية والديمقراطية، من ضمن سياق الأحداث التاريخية. لا وحدات مستقلة بعد، لا نصَّ “يأكل الأخضر واليابس”، بحسب المثل الشعبي. النصّ زاوية من أنحاء. بات المسرح عند هؤلاء، مسرح المفهوم الكلّي والتشابك والتداخل. لم تغيّر العملية هذه الطرق المألوفة فقط، بل غيَّرت النظام الكوني، القائم على ذهنية تصور العرض من خلال النصّ، أو ترجمة العرض للنصّ.
سقطت من جراء ذلك، فكرة عدم المساس بالنصّ وسلطته واستفراده بتحرير حضوره كنموذج لا يستغنى عنه. غيَّرت التجربة الجديدة، المفاهيم. أضحى التركيز على الرؤية العامة هو المقصد، من تسوية المشاهد إلى إبراز مميزات الشخصيات، وفقاً لمقاصد المؤلف، أو بالاجتهاد عليها، وتنظيم الأشياء، لا وفقاً لمكانة الممثلين، بل تنظيم حضورهم بحسب الأدوار بالأجواء المطابقة، برسم الأجواء بالإضاءة والسينوغرافيا والأزياء والديكور والآداء، بقيادة المخرج، الرابط لهذه الأشياء بالخصوصية الرؤيوية.
انقلاب على العصور الماضية. لم يعد النصّ عنصراً نقياً، عنصراً لازماً. هذا صحيح.. لم يعد الكاتب صاحب نمط المعالجة الدرامية الوحيد. أضحى المخرج، صاحب قراءة تتباين المعالجات فيها من خلال مواقفه الديالكتيكية، المسائلة للنصّ بتفكيكه. كسرت ثقافة المخرج، روح النصّ بقوته الأقرب إلى القوة الدينية. دفعت الأبحاث العصيبة، الفنانين في تلك المرحلة، إلى الإفصاح عن الانقلاب الجديد. ليس ثمة من روحٍ شرّير، هنا.. إنما هو التعبير عن مكر المرحلة الجديدة، بتمردها على التداخلات والتعشقات القديمة. انقلاب على المركزية الأوروبية. انتصار للروح القروسطية الحرة. انتصار على حملة البابا بيوس الثالث على “همجية” المرحلة الساخرة من السلطات بأنواعها العديدة.
سلطة النصّ هي إحدى السلطات التي يستهدفها الانقلاب. لأن منصّة القرون الوسطى، لم تقترح إقصاء النصّ فقط، حين كتبت نص المسرحية بالعلاقة المباشرة بالجمهور. بيع وشراء على المنصة. عمليات حياتية مباشرة. وقائع تاريخية. أنتجت الأخيرة فنيات جمالية مؤثرة، من دون قوى، ولا أسماء مؤثرة في العمليات الفنية. استشفاف الغاية من الحملة المرة، على العقائد العفوية، يؤكد الغاية من الحملة. إعادة مركزة الحياة، على محاور السلطة الواضحة. ضمانة ديمومة الفعل الدرامي في الحياة، وانعكاسها على أشكال التعبير، بمحتوى النصوص. ترابط حضور المسرح بالنصّ، في تلك المرحلة، بعد ارتباطه بالعرض، في المرحلة السابقة.
قدَّم كل كاتب طرق إقناعه في نصوصه. رفعت النصوص أسماء الكتَّاب على روافع الزمن الجديد. شكسبير وموليير وكتاب التراجيديات الإغريقية وراسين وعروض الأوبرا وإبسن وبرنيني والمسرح الإليزابيثي أو الكلوب ثياتر وعشرات الأسماء الأخرى. حررت تجربة ما يسمى ” عصر النهضة” كل ما له علاقة بالترابط على منصة المسرح. انفكت خيوط الحياكة القديمة، لما فيه مصلحة الأمثلة الواضحة في النصوص المسرحية، المكتوبة بتثبيت الكتابة كعنصر قائم بذاته. نصوص منفردة. نصوص متحيّزة الذهنية. ثم، جاء عصر التمرد على قيم العرض المتضمَّنة في النصوص. لا لأسباب ذاتية. قادت الأسباب الموضوعية، انتقال التجربة المسرحية من الوظيفة المحددة للعرض من المؤلف إلى المخرج.
بدا المخرج بطل الترابطات الموازية للحديث عن شيء ما لم يتمّ تحقيقه. عندها، ارتقت العروض إلى مصاف الأعمال الفنّية، بطرح الأمور العليا للفن ، بطرح المنصة العليا المتسامية، فوق سلطة أداة. خضعت المنصة هنا لسلطة البشري المباشرة. من دون أيّ اعتبار لاستقلالية المستوى الجمالي بالنصّ. باتت كل الخطوط تصب بالعرض، بمسرح الإخراج والمخرجين من الأعيرة الثقيلة. ستانسلافسكي، مايرخولد ، بوبوف، آرتو، فاختنانكوف، شتريللر، بريشت، بروك، فيلار، جوليان بيك، وجوديت مالينا في “الليفنغ تياتر”، غروتوفسكي، باربا، المسرح الحي، رونكوتي، ستيان، وغيرهم. لم يسقط تمثال ثمين، وسط الحال الاحتفالية الجديدة، في تجربة المسرح، في بدايات القرن العشرين. سقطت مرحلة، سقط فضاء، سقطت مركزية الـ”ستاتيكو” القديم، بقيام ثورات، لم تلبث أن غيَّـرت وجه العالم، لا وجه المسرح فقط. اقترحت بعض الأسماء مناهجَ في الكتابة المسرحية، لما فيه مصلحة الإخراج: التغريب من بريشت، التبعيد من دورنمات، مسرح الممثل الإله مع غروتوفسكي، الـ”بيو ميكانيك” مع مايرخولد، إثر شراكته المشهودة مع ستانسلافسكي في الإستديو السوفياتي الشهير.
مسرح إخراج باختلافات عديدة، باتجاهات عديدة. مسرح بتقاليد عريقة، منتجة لا موروثة. لم يضّيق العنصر على الآخر هنا. طارت التجربة، كحجة، في سماء العالم. تردّد صداها في لبنان والعالم العربي، مع أسماء واضحة، شفافة، مثقفة، رفعت التناسق إلى ذروته، فوق منصاتها المسرحية، القائمة على الفرجة: روجيه عساف ونضال الأشقر في محترف بيروت للمسرح، منير أبو دبس في ” مدرسة المسرح الحديث”، أنطوان ملتقى في “حلقة المسرح اللبناني”، ريمون جبارة في “المسرح الحر”، جلال خوري، شكيب خوري، بيرج فازليان، محمد كريم، نزار ميقاتي، يعقوب الشدراوي، ربيع مروة وعصام بو خالد وسهام ناصر، من الشباب في لبنان، كرم مطاوع في مصر، قاسم محمد وصلاح قصب في العراق، فواز الساجر في سوريا، الطيب الصديقي في المغرب، الفاضلان الجعايبي والجزيري ومحمد إدريس وتوفيق الجبالي ورجاء بن عمار في تونس.. والقائمة طويلة.
لا تسليةَ هنا، تنطلق من فصول الكوميديا أو التراجيديا المسرحية. هذا نتاج زمن، نتاج أحكام زمن، نتاج متغيرات زمن. لا مستور قيمي في خواص المسرح هذا. ترتقي حالات الاستمتاع بالنصّ، من جديد، فوق سدة العالم. عودة الفردية، بفتوناتها الجمالية، على أنقاض الجماعية، المعبر عنها في مسرح الإبداع بالتخلقات الكثيرة المنظمة بيد المخرج. عوامل تاريخية وثقافية جديدة، تحتم ذلك.
وتلك قضية حساسة، تؤكد سيادة التموضعات الجديدة في العالم. لا نواميس. الأحادية تكسح العالم، بغياب ضفة الصراع الأخرى. يمنح التاريخُ الحافل الجديد، العالمَ، سياقَه الجديد. سقط الاتحاد السوفياتي. سقطت تجربة اليسار العالمي. سقطت سمات العالم القديم، كائن الصرامة على مستوى توضيح الصورة بوقائعها، بأفكارها، بمنحها الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية. يهيمن سلوك جديد على العالم. عودة النصّ من تجلياته. لا وسيلة استباقية هنا، في اجتراح حضور النصّ، قبل القراءة. يضيء وهجُه الطريقَ المؤدّي إلى شعابه. كورتيس في الواجهة في أوروبا. عادت التأثيرات الأوروبية إلى لبنان والعالم العربي.
كل نص له قوامه وسلوكه. إنه عصر النصّ الجديد. عاد النصّ الموصوف. نضال الأشقر تعمل على الأم شجاعة، ولينا أبيض على الديكتاتور لعصام محفوظ. لكلّ مخرج كاتبه. هذا ليس استثناء، هذا من طبيعة الأحداث الانقلابية في العالم. يحاول العالم لملمة تشتته. لا بدّ من كتابة النصّ، برأس قلم الكاتب الواحد. حلٌّ من حلول. تجربة معمارية جديدة أمام خراب العالم.
**********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) كاتب وناقد سينمائي- لبنان