موسيقاهم وموسيقانا
كانت الموسيقى الأوروبيّة إلى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي موسيقى مرتبطة بالغناء الفرديّ، أو غناء الجوقات، وكان الشّعراء الجوّالون منشدي أشعار كما كانت الكنيسة تحفل بالموسيقى والتّرانيم الدينيّة والتّراتيل تؤدّيها أصوات فرديّة بمرافقة كورس منتقى ومدّرب أدقّ تدريب. وللموسيقى الكنسيّة في البلدان الاوربيّة مكانة عليا من قداديس احتفالية او لراحة أرواح الموتي، وقد ساهم أعاظم الموسيقيّين والمؤلّفين في إغناء الموسيقى الكنسيّة أمثال باخ وهاندل ومئات من موسيقيي إيطاليا وألمانيا وفرنسا وأسوج ونروج وروسيا وغيرها.
ومع أواخر القرن السّادس عشر وبداية القرن السّابع عشر اتّجهت الموسيقى الأوروبيّة إلى الاستقلال عن الغناء الفرديّ والجماعيّ وأصبحت موسيقى آلات لا سوى ، لالة مفردة كمان أو بيانو أو بوق أو أرغن، أو لآلتين أو أكثر وثمّ إلى عدد كبير من الآلات عشرات (اوركسترا) أو مئات حتى وصلت عند مالر الى ألف آلة.
وهنا طاف طوفان موسيقى الآت في أوروبا حتى بلغ ذروته في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر، وكان لأعاظم موسيقيي إيطاليا وألمانيا وفرنسا وروسيا حصص الأسود كما نقول بلغتنا. وهذه الموسيقى طويلة النّفس وعميقة ومتّسعة كأقيانوس عظيم، واكتسحت العالم من غربه إلى شرقة.
هذا وناهيك عن عالم فن الباليه (الرّقص القصصيّ الموسيقيّ )والأوبرا فهي دنيا بكاملها وبلا حدود وفوقها سبع سماوات طباقا.
وأنا أسال هل تطوّرت موسيقانا العربية خاصّة والشرقيّة عامّة، وتخلّصت من حالة جمودها؟
أمّ انها ظلّت تعيش تحت ظلّ القصيدة والأغنية والطّقطوقة والموّال والقدود والموشّحات؟
ثمّ هل هناك موسيقى ذات برنامج أوتصويريّة أوقصصيّة كما في موسيقى الغرب؟ أو أن هناك مقطوعات لدقائق هزيلة مثل توتة وزمرّدة والف ليلة وليالي لبنان وأشياء من الموسيقى لأحمد فؤاد حسن وسواه.
وهل هناك أمل في نشوء موسيقى عربية لأوركسترا لخمسين آلة على الأقل؟ ولمدى زمني يطول في المقطوعة الواحدة إلى نصف ساعة؟ أو أن قصر نفسنا الموسيقيّ مرتبط أيضا بقصر خطوط سفن بحارنا ومحيطاتنا وقصر خطوط سكك حديدنا وقلة صناعتنا وزراعتنا وبضاعتنا وضيق وقصر وعفونة شوارعنا وأزفّتنا؟
لا اريد ان أفتح الفرجار أكثر هل هناك علاقة بين قصر نفسنا الموسيقى وقصر نفسنا في السّياسة والاقتصاد والحرب والسّلم والكرّ والفرّ؟
أسئلة أطرحها على الفيسبوك الذي صار لعرض الطّبخات والمشاوي والفساطين والأكاليل والزفّات والمناكفات والمهاترات هذا سؤال أو أسئلة.
وكلّ سنة وانتم بخير، وطيّب الله عيشكم أجمعين.
رام خاشتوريان ورقصة السّيوف Sabre Dance
(إهداء إلى نورا الأرمنيّةعضو البرلمان السّوري لما سمعته من روعة حديثها في” أجراس المشرق” مع الشّكر الجزيل لمقدّم البرنامج الفذّ).
يقترن اسم الموسيقيّ الأرمنيّ العالميّ أرام خاتشتوريان برقصة السّيوف الشّهيرة ، والتي تشبه بإيقاعها صوت قطار بخاري انطلق من محطته، وسار مسرعًا علي سكة حديد، وهي ذات نبض مثير، وكأنها تصوير لمبارزة بين فرسان بواسل يقفزون في الهواء أمام ضربات السّيوف الحادّة، وهم يلوّحون بها حول رؤوسهم، وإذ تلتقي [ تنقدحُ النّارُ من مضاربِها*** وصبُّ ماءِ الرّقابِ يُخمدُها] كما يقول كبير القوم أبو الطّيّب المتنبي.. وقد اكتسبت هذه الرّقصة مع الزّمن صفة المقطوعة الأثيرة والمحبّبة لدى أمهر العازفين وفرق رقص الباليه، ومحبّي سماع الموسيقى في الشّرق والغرب.
تتألّف رقصة السّيوف من ثلاث عشرة رقصة للباليه. وقبل التنويه بقصة هذه المتتابعة الرّائعة أحبّ أن ألقى ضوءاً على حياة صاحبها، والمصادر المتعدّدة لموسيقاه.
ولعل أفضل ما يلقي الضّوء على حياته ما كتبه هو بنفسه سنة 1970 حين قال:
“ولدت في مدينة تفليس في مقاطعة جورجيا الأرمنيّة في 6 حزيران عام 1903، وتفليس مدينة غنيّة بتقاليد موسيقيّة خاصّة بها، ومنذ طفولتي درجت في جوّ من الموسيقى الفولكلوريّة، وعلى ما أذكر كانت هناك ألحان وأغان أرمنيّة وجورجيّة وأذربيجانيّة وتركمانيّة لا تزال ترنّ في مسمعي.. وأنا على قدر استيعابي في بيئتي الأولى من موسيقى فولكلوريّة كانت بالطّبع مخزوني، وأساس جهودي الإبداعيّة “.
إن المصادر التي تحدّثت عن حياة أرام خاتشاتوريان تُجمع على أنّه كان ابنًا لأسرة فلاحيّة فقيرة، ولما بلغ التّاسعة عشرة قدم إلى موسكو برفقة أخيه، وانتسب إلى مدرسة جيسين الموسيقيّة، فألمّ بالموسيقى النظريّة وفن التأليف، وأجاد العزف على آلة التشيللو. وفي سنة 1929 التحق بمعهد موسكو للموسيقى حتى تخرّج عام 1934 أستاذًا في التأليف والتوزيع الموسيقي وقيادة الأوركسترا.
إنّ أعمال خاتشاتوريان الموسيقيّة متعدّدة المصادر والمنابع فهو إضافة إلى ما تقدّم من إلمام بالتراث الموسيقي الشعبي كان ربيبًا لتراث موسيقيّ روسيّ من أعلامه تشايكوفسكي وريمسكي ـ كورساكوف وسيزار كوي وبورودين وسواهم، ونظراً لاكتسابه تقنيّات التأليف السيمفونيّ وفق تقاليد الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة فقد استطاع أن يضع مؤلّفات تمتاز بالحداثة الكلاسيكية يضاهي بها كبار المؤلّفين.. وكما ينبجس النّبع من أعماق التّربة انبجست موسيقى خاتشاتوريان من أعماق نفسه ومنها:
السيفونية الأولى عام 1933 ثمّ الثانية وهذه تمثّل غضب الشعب الأرمني ومعركته في سبيل الحرية، ثم كونشيرتو للبيانو وآخر للكمان، وموسيقى لمسرحيّات عدد من الفنّانين الرّوس وللمسرح الأرمنيّ، وموسيقى للأفلام، والعديد من الأغاني الوطنيّة، والمارشات العسكريّة، وموسيقى للآلات النافخة، وموسيقى الصّحاب أو الغرفة(Camera Music ) ومقطوعات لآلة البيانو.
وأمّا بخصوص المتتابعات الموسيقية فمنها متتابعة سبارتاكوس للباليه، ومتتابعة العطف، وجاييني وهذه سبقت الأشارة إليها، وهنا لابدّ من وقفة قصيرة عندها للنّظر في عناصرها الوطنيّة والعاطفيّة ونزعة الشرّ التي في النفس البشريّة، والمتتابعة ذات حبكة مؤثرة دارت أحداثها في مزرعة جماعيّة للقطن في أرمينيا إبّان الهيمنة السوفييتيّة. إن جاييني بطلة القصة وهي أم رؤوم وقعت تحت سلطة زوجها ” جيكو ” واستبداده، وهو رجل فظّ متوحّش، وسكّير يرأس عصابة مهرّبين، وقد أدّى به طمعه ونزعة الشّر التي فيه إلى خيانة رفاقه في العمل، ولكي يوقع بهم الأذى عمد في ليلة ظلماء إلى حرق بالات القطن المكدّسة في مخزن المزرعة. ولما اكتشِف أمره، وقبل أن يلوذ بالفرار، دخل إلى زوجه لاعتقاده أنها هي التي وشت عليه، فطعنها بقصد قتلها، وهمّ باختطاف ابنته نكاية بها وبأسرتها، وفي لحظة هروبه يُفاجأ بدوريّة من حرس الحدود، فتمكّنت هذه الدورية من تخليص الطفلة المختطفة ويهم قائدها كازاكوف بالإيقاع به، ولكنه يفرّ ويصبح طريداً للعدالة في منفى بعيد.
أما غاييني فبعد ان شُفيت من جرحها العميق فقد التقت كازاكوف قائد الدوريّة ومنقذ ابنتها، وجرى بينهما حديث ودّي مزيّن بآيات الواجب والتضحيّة والشكران. ولكن لما كانت الأرواح جنوداً مجنّدة فقد هفا قلب جاييني إلي القائد الوسيم، وكان أن جرت بينهما لقاءات أدّت بهما إلى علاقة حبّ كمقدمة للزّواج.. هذا وجيكو في منفاه، وتتمّ مراسيم الخطوبة في أجواء من الفرح والمرح باحتفال راقص بهيج، وتكون رقصة السّيوف الكرديّة والهوباك الأوكرانيّة، ورقصات أخرى نسائية إلى ثلاث عشرة رقصة من بينها تهليلة تقدّمها جاييني وهي تهدهد طفلتها، بالإضافة إلى رقصة لفتية أكراد، وأخرى لشيخ عجوز، وتختتم برقصة النّار.
ومجمل القول: إنّ خاتشاتوريان بعمق مواضيعه وتعدّد ألوانها، وبما في موسيقاه من هارموني وانسجام وتكامل واستخلاص لروح الفولكلور، وإعادة بثّها في أعمال رائعة يكون قد قفز إلى العالميّة بقسماته وثيابه الأرمنيّة، وهو بدون منازع يعتبر أبا للموسيقى القوميّة لدى الشعب الأرمني العريق.