طوت 2013 آخر أوراقها ورحلت آخذة معها أعماراً من حصاد وفير جناه مبدعون في ميادين شتى، ذهبوا وبقيت أعمالهم تخبر عنهم، وتحفظ لهم مكانة في القلوب. المخرج كريستيان غازي، رسام الكريكاتور بيار صادق، المسرحي يعقوب الشدراوي، الأديب والصحافي محمد دكروب، الفنان الكبير وديع الصافي… أضحوا في حنايا الزمن أجمل ذكرى تعزف على أنغام المدى الفسيح سمفونية الحضور الأبدي في الريشة والنغم وفي كل نبضة فرح وحب…
كريستيان غازي
فقدت الساحة الفنية اللبنانية في 11 ديسمبر 2013، المخرج والفنان كريستيان غازي (عن عمر يناهز 79 سنة بعد صراع مرير مع المرض)، أحد أهم رواد السينما في لبنان، ومن أبرز شعراء الفرنكوفونية اللبنانيين وله عدة مجموعات شعرية.
ولد غازي عام 1934 في أنطاكيا من أب لبناني وأم فرنسية، تلقى دروسه الأولى في المدرسة اليسوعية في بيروت، ودروسه العليا في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون “البا”. درس في البدء الموسيقى تأليفاً وكتابة، من ثم توجه إلى الإخراج السينمائي، وجال على مدارس سينمائية بين ميونيخ في ألمانيا وفرنسا وروسيا
خط لنفسه طريقاً مميزاً في السينما اللبنانية الوثائقية، وله أعمال اندرجت في خانة الأفلام الوثائقية النضالية، واتخذت أفلامه الروائية طابعاً تجديدياً، خصوصاً أنه كان الكاتب والمؤلف والمخرج.
إنتاجه الفني القيم التهمته نيران الحرب اللبنانية، ولم يبقَ سوى فيلمه “مئة وجه ليوم واحد” (1969 ـ 1970) الذي قدمه إلى “المؤسسة العامة للسينما” ونال جائزة لجنة التحكيم في “مهرجان السينما البديلة” في دمشق (1972). جمع بعضاً من ذكرياته في الوثائقي “مسرح عند ملتقى الرياح” الذي أنتجه “نادي لكل الناس” عن مسيرته.
عالج كريستيان غازي في أفلامه قضايا تتعلق بالأزمة اللبنانية، اللاجئين الفلسطينيين، الحياة في المخيمات التي أخذت الحيز الأكبر من مواضيعه السينمائية.
من أبرز أفلامه: “الفدائيون”، “لماذا المقاومة”، “الحياة في المخيمات”، “الوجه الآخر للاجئين”، “مئة وجه ليوم واحد”، “نعش الذاكرة” آخر أفلامه (2001).
بيار صادق
بيار صادق أحد رواد رسم الكاريكاتور في لبنان، توفي في 24 إبريل 2013، بعدما أعطى عمره كله للرسم وأبدع فيه و تصدّرت رسومه أشهر الجرائد اللبنانية.
تخرّج بيار صادق في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وكان يبيع لوحاته لوسائل الإعلام وهو ما يزال طالبا، من ثم احترف هذا المجال، في وقت كان رسامو الكاريكاتور في لبنان إثنان: ديران عجميان وخليل أشقر، فأصبح هو ثالثهم.
في بداية مشواره المهني، عمل بيار صادق في دار الصياد، من ثم انتقل إلى جريدة النهار، وفي بداية الحرب اللبنانية، تحديداً سنة 1978 عمل في صحيفة “العمل” ذات الخط المسيحي الكتائبي إلا أنه حافظ على استقلاليته. وفي أواخر الثمانينات، التحق بصحيفة الجمهورية لمدة عام واحد، من ثم عاد إلى النهار وعمل فيها سنوات طويلة.
في عام 1985، دخل بيار صادق ميدان العمل التلفزيوني بفكرة مبتكرة عرضها على المؤسسة اللبنانية للإرسال، وهي رسم كاريكاتور سياسي متحرك، وفي عام 2002 أنتقل للعمل مع تلفزيون المستقبل
رسوماته تظهر الواقع بتهكم كما يجب أن يراه المواطن العادي. حاز جوائز عدة من بينها: وسام الأرز الوطني من رتبة فارس في عهد الرئيس سليمان فرنجية، جائزة الشاعر سعيد عقل مرتين، جوائز تقدير محليّة وعالميّة، آخرها درع ووسام أندية ” ليونز” العالمية.
أقام معارض في لبنان والخارج آخرها في واشنطن. من أبرز مؤلفاته: “كاريكاتور صادق”، “إضحك مع بيار صادق على السياسيين”، “كلنا عالوطن” و”بشير”.
يعقوب الشدراوي
يعقوب الشدراوي، مخرج مسرحي وأحد أبرز مؤسّسي المسرح اللبناني الحديث توفي في 26 مايو 2013 عن 79 عاماً.
أولى التجارب المسرحية التي كتبها يعقوب الشدراوي كانت عبارة عن فصول هزليّة تحت عنوان “رح تفقع”. أما الثانية في عنوان “الثأر في لبنان”، فكانت مسرحية ميلودرامية، أخرجها باسم نصر.
تخصص الشدراوي في مجالَي التمثيل والإخراج، وحصل على منحة من الاتحاد السوفياتي، فسافر بحراً إلى روسيا، ونالَ شهادة الماجستير عام 1969، ثم عاد إلى لبنان ونال شهادة الدكتوراه في الجامعة اللبنانية(1986) عن أطروحته “التراث في مسائل الإخراج المعاصر”.
مسرحية “أعرب ما يلي” في يناير 1970، على مسرح مهرجانات بعلبك، أول أعمال يعقوب الشدراوي المسرحية الإخراجية، عمل فيها على خمسة نصوص، هي: قصيدة “الورد والقاموس” لمحمود درويش، قصيدة “العاصفة” لأنسي الحاج من مجموعة “ماضي الآيام الآتية”، قصيدة “حزمة القصب” لأدونيس من مجموعة “المسرح والمرايا”، والنصف الأول من اللوحة الخامسة من مسرحية “حكاية فاسكو” لجورج شحادة، ومشهد من مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لسعدالله ونوس، ثم قدم “الأعماق” لمكسيم غوركي في العام ذاته.
عام 1971 أخرج مسرحيات “مذكرات مجنون” للروائي الروسي نيقولاي غوغول، “سمكة السلّور” لإدوارد البستاني، و “المهرّج” لمحمد الماغوط.
كتب الشدراوي معظم نصوص الأعمال المسرحية التي أخرجها، بدءاً برواية “الأمير الأحمر” لمارون عبود، التي حوّلها إلى عمل مسرحي عام 1972، “موسم الهجرة إلى الشمال” للراوئي السوداني الطيّب صالح (1973)، مسرحية “الفرافير” ليوسف إدريس التي حولها إلى مسرحية تتوافق والوضع اللبناني، تحت عنوان “الطرطور” (1973)،
من ثم قدم مسرحيات: “ميخائيل نعيمة” (1978)، تأليف مسرحي حقيقي للشدراوي، مستَمَدّة من وقائع حياة نعيمة ومؤلفاته وشخصياته الروائية. “جبران والقاعدة” (1981)، “نزهة ريفية غير مرخّص لها” (1984 ). وفي مطلع التسعينات قدّم مسرحية “بلا لعب يا ولاد”، وهي من تأليفه وإخراجه، وقدّم عام 1986 مسرحية “العتب عَ البصر”.
ابتكر الشـدراوي في كـــل مسرحياته، توازناً بين السخرية والإضحاك من جهة، وبين الإيلام ووضع الإصبع على الجرح من جهة أخرى، وتميّزت مسرحياته من حيث علاقتها بالجمهور، فهي لا تدعوه إلى تبنّي فكرة محددة، بل تحثه على التفكير في ما يُقدَّم أمامه من عروض.
قال عنه المخرج المسرحي شكيب خوري: “رحل الطفل على إيقاع التمزّق. ساحة وطنه تتشظى. اليعقوب الذي أنشد تراتيل المسرح–الحياة، وهو شاب زغرتاوي انكبّ في حقبة ما بعد ثورة 1958 على التمثيل، كي يتصالح مع حقيقة الإنسان. جمع رفاقه في نادٍ في زغرتا، وكنتُ أدرّبهم على مسرحية «هاملت». كان يعقوب يقوم بدور «هاملت». هاملت الشدراوي سافر اليوم على صواعق الصورايخ. وتلاشَت آماله مع قذائف «جبل محسن» و «باب التبانة». يعقوب أحد رواد المسرح الحديث، سرّع غيابه إرادياً لينجو مما هو أفظع، وهو يصرخ: عيبٌ عليكم، يا لبنانيون. أهكذا تريدون، يا سفّاحون، دَفْنَ ما صنع مسرح الشدراوي؟ هاملت الذي أراد أن يُعيدَ للعدالة سلطانها، غلبته إرادة التعصّب والتشرذم. حمل حضارة التسامح إلى منفاه السرمدي. هناك سينعتِق من التشنجات العِرقية وينطلِق إلى التآخي مع المختلف والخلود. وصيّته لمبدعي الغد: لا تغفروا لأشباح الظلام. اجعلوا مسارحكم ساحةً للمحبّة”.
محمد دكروب
محمد دكروب الأديب والصحافي ورئيس تحرير مجلة الطريق توفي في 24 أكتوبر، في ما يلي محطات من سيرته كما جاءت على لسانه لدى تكريمه في الحركة الثقافية- أنطليلس.
(…) بدأت بنشر بعض ما أكتب عندما كنت أشتغل سمكرياً، وأفكر بأشياء تشبه القصص وتشبه المقالات، على إيقاع طرطقة التنك وتصليح بوابير الكاز، وصنع النوَّاصات التنكية… لقهر الظلام!
ففي دكان السمكرية هذا، كان يلتقي عصراً بعض الأصدقاء من الطلاب، فننسج معاً أحلاماً أكبر بكثير من “أنتيرنيتٍ” ما صغير الحجم، وأوسع بكثير من دكان السنكري نفسه، ومن البلد كله… أحلام تذهب بنا بعيداً، فتشمل مساحات بلدان وبلدان.. كنَّا نفكِّر (وهذا سرّ سياسي يُذاع لأول مرَّة!!) بأن نشكِّل جمعيات سرِّية عربية متشابكة، تعدُّ نفسها لتحرِّر ـ في القريب العاجل ـ البلدان العربية جميعها، من الاستعمار ومن التجزئة ومن التخلُّف، تحرِّرها كلّها، دفعة واحدة، وليس بالتقسيط، من أقصاها إلى أقصاها، أي: “من الشام لبغدانِ/ ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مصرَ فتطوان”… وبالطبع: إلى لبنانِ!… ولا مساومة!.. وكنَّا نسجِّل هذه الأحلام في مقالات حماسية جداً نرسلها إلى الصحف، ولكن لم تُنشر لنا منها ـ في حينه ـ ولو فقرة من مقالة واحدة!.. فلم نيأس!!
… في ذلك الزمان، إذن، أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن قد ظهر “الإنترنيت”، لا في لبنان ولا في سائر بلدان العالم… فلم يكن باستطاعة هذا السنكري الفتى تخزين فتوحاته الكتابية وعناوين أقاصيصه في جوف هذه الآلة السحرية المدهشة… ولكن الذاكرة البشرية تحتفظ بملامح وأحداث وعناوين تتزايد غموضاً وتباعداً وضبابية مع الأيام، فيتلاشى بعضها وتبقى ملامح تأثيرات لا يدرك المرء سرّ احتفاظ الذاكرة بخيالات منها وبعض التفاصيل!
ومما أتذكَّره، أنني منذ أواخر الأربعينيات تلك، بدأت أكتب ما يشبه القصص أو سرديات لأحداث من بلدتي (صور) الجنوبية، أصوِّر فيها خصوصاً معاناة الفقراء ومشاكلهم الحياتية… وغامرتُ بإرسال بعض هذه الكتابات إلى جريدة “التلغراف” باسم صاحبها المقدام نسيب المتني، وكانت الجريدة تخصص في كل يوم اثنين أربع صفحات كبيرة لقضايا الثقافة والأدب، يُشرف عليها الكاتب الكبير رئيف خوري… فاختار رئيف من هذه الكتابات قصة كنتُ كتبتها عن حياتي ومهنتي وآمالي، وغيَّر لها عنوانها ـ الذي لا أتذكَّر الآن ماذا كان ـ وجعله هكذا:” أديب وسنكري”… فرحتُ كثيراً بنشر القصة، ولفتني هذا العنوان الجديد لها، فصرتُ أفكِّر بمعنى هذا الدمج الرئيفيّ بين الصفتين، وأن يصير السمكري كاتباً أو أديباً… ولماذا لا؟ .. وواصلتُ الطريق…
وكنت، في ذلك الزمان، مهووساً بقراءة روايات الخيال العلمي، مغرماً بالابتكارات العلمية المستقبلية، وبالتنقُّل السهل بين النجوم والكواكب والسماوات العلى… ولكن لم يصادفني في تلك الروايات شي يشبه الأنترنيت، مثلاً!.. على أنني جرَّبت، بنفسي، كتابة قصة في الخيال العلمي، واخترعت ـ داخل القصة طبعاً ـ جهازاً يتنبَّأ بما بعد بعد الأنترنيت: تخيَّلت جهازاً فيه شيء يشبه شاشة سينمائية صغيرة، وفيه أنبوب يوجّه شعاعه الخفي إلى رأس شخص ما، فينقل الشعاع إلى الشاشة صوراً لما يدور في دماغ هذا الشخص ـ فتاة غالباً وشاب أحياناً ـ ولكم أن تتخيَّلوا ماذا يحتوي هذا الدماغ من أسرار وأمنيات وأحلام ورغبات تنعكس كلها على الشاشة الصغيرة في صورٍ ليست أبداً أقل من فضائح فضَّاحة!..
هذه القصة أرسلتها في حينه إلى مجلة كانت تصدر في القاهرة باسم “قصص للجميع”… ويبدو أن هذا الاختراع العجيب قد أعجب رئيس تحرير المجلة فنشر القصة في مكانٍ بارز… ولكن نسخة المجلة التي نشرت القصة ضاعت، وضاع معها عنوان القصة، وكذلك فإنَّ المجلة نفسها لم تعمِّر طويلاً، فضاعت إمكانية العثور على نسخة من تلك القصة العجيبة، وضاع ـ طبعاً ـ ذلك الاختراع الرهيب!
فلو كان الأنترنيت موجوداً في ذلك الزمان، لما ضاع شيء من هذا كلّه!..
وأُتيح لي، في ذلك الزمان أيضاً، نشر أشياء في مجلة “العرفان” لصاحبها الشيخ المتنوِّر أحمد عارف الزين، فكان يختار من خمسة أو عشرة مقالات، واحداً يرضى عليه وينشره، فيزغرد قلبي فرحاً… ولكن الشيخ الظريف أحبَّ أن يزركش واحداً من مقالاتي بتعليقات يضعها بين هلالين كبيرين في متن المقال نفسه، والمقال هذا فيه نقد لأوضاع الشباب وسلوكاتهم التي يبدو أنَّها لم تنل رضاي الكريم!.. وأتذكَّر أنني أوردت في المقال استنتاجاً سلبياً ما بحق الشباب، فعلَّق الشيخ بقوله: (هذا غير صحيح يا أستاذ!)… وفي مقطع آخر اتهمتُ الشباب جميعاً بالتخاذل، فعلَّق الشيخ بقوله: (إذا كان ذلك كذلك، فكاتب المقال نفسه يُحسب في المتخاذلين!)… وإذْ حكمتُ على الشباب بأنهم جيل ضائع، علَّق الشيخ بالقول الفصل: (الضائع هو الكاتب وحده!)…
والحق الحق أقول: إنَّ هذه التعليقات أسعدتني جداً، لأنَّ المقالة هذه بالذات، صارت حديث الناس في جنوب لبنان، وصرتُ رأساً في المشهورين، ليس بسبب قيمة فكرية ما للمقال، بل بسبب تعليقات الشيخ عارف الذي أحببته فعلاً ولا أزال أقدِّر الدور التنويري لمجلته التي تجاور في صفحاتها ما هو تقليدي في الكتابة والمفاهيم، وما هو جديد وتجديدي وجريء أيضاً.
وفي أواخر الأربعينيات صدرت في بيروت مجلة ذات نزوع تقدمي وديني ويساري معاً، هي مجلة “الألواح” للسيد صدر الدين شرف الدين، الذي سبق أن أصدر في العراق جريدة يومية شهيرة باسم “الساعة” حملت أوائل كتابات حسين مروة السياسية عندما كان في العراق.. وقد أُتيح لي أن أنشر مقالات قصصية قصيرة في مجلة “الألواح” هذه، ضاعت أيضاً بين جملة ما أضعته من مقالات نُشرت لي… ولكنني أتذكَّر جيداً أن جريدة مصرية نشرت خبر صدور مجلة “الألواح” على الشكل التالي: ” صدرت في بيروت مجلة أدبية جديدة باسم الألواح.. وعلَّقت: والله العظيم اسمها كده!”!
ولعلِّي لم أشعر أنني صرت، بالفعل، واحداً من الكتَّاب إلاَّ عندما بدأت مجلة “الأديب”، ذات الشهرة العربية الواسعة تنشر لي أشياء من كتاباتي: مقطوعات من النثر الفنّي، ومقالات حول بعض الكتب الجديدة، وأقاصيص منها ما هو واقعي جداً، يصوِّر حياة أناس الطبقة الدنيا في المجتمع، ومنها ما هو أسطوري جداً، أتخيَّل في واحدة منها عملية شعبية تنقل الناس من حياة الفقر والبؤس إلى حياة يزدهر فيها كل شيء، الطبيعة وحياة الناس، فتتلوَّن الدنيا بالسعادة والصفاء وكل أنواع الزهور!.. وكانت مجلة “الأديب”، في ذلك الزمان، مجلة للأدب الجديد والبحث التجديدي في العالم العربي، برعاية صاحبها ألبير أديب، الطليعي في الشعر المنثور الذي أسماه “الشعر الطلق”.. وكان أنيساً سمح النفس والذوق، يفتح صفحات مجلته لكل من يتوسَّم فيه جديداً ما، حتى ولو لم يكن في المشهورين.. وقد فاجأني ذات يوم بأن جعل واحداً من مقالاتي بمثابة افتتاحية للعدد… ولا تزال هذه المبادرة تفعل فعلها السحري في نفسي حتى يومنا هذا..
ولا زلت أحتفظ بصور من بعض ما نُشر لي في “الأديب”، التي أعتزُّ دائماً بأنني صرت ـ باكراً ـ واحداً من كتَّابها.
كانت مجلة “الأديب” محطة انطلاق فعلية لي، ومجاز عبور إلى النشر في عدد من المجلات الأخرى، وكذلك إلى بدايات العمل في الصحافة الأدبية الفكرية.
فمع بداية الخمسينيات، تناولني شيوعيو هذا البلد، وقذفوا بي إلى خضم العمل الصحفي، قبل أن أكون قد مارست مهنياً هذا العمل، فكلَّفوني بتحرير مجلة ثقافية سياسية جديدة، باسم “الثقافة الوطنية” وحتى قبل سيامتي عضواً رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني… وإذْ انتسبت إلى هذا الحزب، علقت فيه، ثم تعلَّقت به، منذ ذلك الزمان، حتى يومنا هذا، وإلى ما يشاء الزمان…
صدرت المجلة بين الأعوام 1952 و1959، أسبوعية أولاً، ثم شهرية فكرية أدبية، وانتشرت بصورة لا بأس بها في أنحاء العالم العربي عندما يسمح بهذا حراس الحدود وواضعو السدود، وكانت المجلة منبراً للفكر التقدمي التنويري اليساري وللأدب الواقعي الجديد.
على أن الانعطافة الأساسية لعملي في الصحافة الثقافية كانت في مجلة “الطريق” الفكرية، التي تولَّيت مسؤولية تحريرها ما يقارب الأربعين عاماً، منذ العام 1965 حتى العام 2003، تاريخ التوقُّف المؤقت للمجلة.
فلا بدَّ، هنا، من بضع كلمات حول علاقتي بهذه المجلة الفكرية اللبنانية القيمة. ذلك أن مسيرتي مع “الطريق”، طوال هذه المدة، أسهمت، بشكل أساسي في إغناء وتطوير تكوُّني الثقافي والمعرفي، وذلك، أولاً، عبر إتاحة الفرصة أمامي لإقامة علاقات خصبة مع الكثيرين من الكتَّاب والمفكِّرين والمبدعين العرب، الكبار منهم والشباب… وكذلك بإلزام نفسي ـ ثانياً ـ بقراءة كل الدراسات والمقالات والأعمال الإبداعية التي كانت ترد للنشر في المجلة من مختلف أنحاء العالم العربي والعالم الأوسع: فقد أتاحت لي هذه القراءات الإلزامية والمشوِّقة معاً، أن أتزوَّد، قيمياً ونقدياً، بالمادة المعرفية والإبداعية التي تحملها تلك الكتابات… ثم ـ ثالثاً ـ عبر دخولي، بدافع الرغبة أو لضرورات التحرير، إلى مناخات الكتابة في مجالات لم أكن قد دخلت فيها قبلاً، واضطراري إلى كتابة ما تتطلَّبه أعداد المجلة في هذا الباب أو ذاك.
استطاعت مجلة “الطريق” أن تستقطب عدداً كبيراً من الكتَّاب والمفكِّرين العرب الذين دأبوا على تزويدها بنتاجات قيِّمة لهم دون أي مقابل مادي، بل دعماً منهم لمشروع “الطريق” الفكري والتغييري التقدمي… ولكن، رغم أن هذه المجلة العريقة وصلت في انتشارها إلى رقم كبير بالنسبة لتوزيع مجلة فكرية عربية، بحيث صارت توزّع ما بين خمسة إلى ستة آلاف نسخة من كل عدد، فإنَّها توقَّفت عن الصدور مع نهاية العام 2003… أما سبب هذا التوقُّف فهو ـ فقط ـ أنَّ كل عدد كان يُباع بأقلّ من كلفته، وأنَّ المجلة لم تكن تتلقَّى أية مساعدة أو دعم مالي من أية جهة من الجهات “الداعمة”، فتراكمت عليها الديون، ولم تعد قادرة على متابعة مسيرتها التي نرجو لها ـ ونعمل ـ لتعود هذه “الطريق” إلى متابعة الطريق… فالحاجة إليها تتزايد مع تزايد الضرورات الفكرية لتواجدها.
في مجلة “الطريق”، تحديداً، أُتيح لي أن أدخل جدياً في مجالات البحث والدراسة والنقد الأدبي وبعض الرؤى والآفاق في النظرية الماركسية التي ما زلتُ أستفيد جداً من أفقها الفكري والعملي، وبلا أي حدود تحد من هذا المسار، إن شاء الله!
كل ما قرَّرت أن أفعله ـ جدِّياً وعملياً ـ هو” شراء دفتر كبير أسجِّل فيه عناوين كتاباتي، بكل دقَّة وأمانة، حتى لا يفاجئني صديق آخر بمثل ما طلبه مني صديقي الذي أحبُّه وأقدِّره جداً… وبهذا تكون الليستة جاهزة وإن غير شاملة وغير كاملة، بالتأكيد!
… وبعد، بماذا وعلى ماذا يشتغل محمد دكروب الآن بعد أن توقَّفت مجلة “الطريق”؟
وأنتم ترون أنني قد بلغتُ من العمر عتيّاً، وأكثر: فإذا كنتُ قد وُلدتُ في العام 1929 تكون سنوات العمر قد وصلت الآن (في العام 2008) إلى الـ79 سنة (والله كريم كما يُقال، وأنا استأهل، كما أظن)..
لقد اكتشفت أنه قد تراكم لديَّ عدد لا بأس به من الدراسات والمقالات التي تؤلف عدداً لا بأس به أيضاً من الكتب يحتاج كل منها إلى بعض التنسيق والتدقيق والتقديم والاستكمال، يصل تعدادها إلى الـ15 كتاباً، سيضاف إليها ما في خاطري من مشاريع أرى ضرورة أن أنجزها. أي: عندي ما يكفي من عمل يملأ سنوات لي قادمة أرجو أن تطول كثيراً، بإذن الله!… والهمَّة للكتابة لا تزال موجودة وكذلك المزاج، إضافة إلى تشجيع الرفاق والأصدقاء والمحبِّين، آمين
وديع الصافي
أحد عمالقة الطرب في لبنان والعالم العربي أو عملاق الغناء الجبلي، هذه بعض الصفات التي أطلقت على “الكبير” وديع الصافي الذي غيبه الموت 11 أكتوبرعن 92 عاماً إثر وعكة صحية.
كان له الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد. أصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في لبنان فحسب، بل في العالم العربي أيضًا. اقترن اسمه بلبنان، وبجباله التي لم يقارعها سوى صوته الذي صور شموخها وعنفوانها وكان سفيراً لوطنه في الخارج. .
ولد في الأول من نوفمبر 1921 في قرية نيحا الشوف، انتقل إلى بيروت في العاشرة من عمره، وهو الابن الثاني في ترتيب العائلة التي تضم ثمانية أبناء. عاش طفولة متواضعة يغلب عليها الفقر والحرمان.
كانت انطلاقته الفنية سنة 1938 حين فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناء وعزفاً من بين أربعين متبارياً في مباراة للإذاعة اللبنانية، أيام الانتداب الفرنسي، في أغنية “يا مرسل النغم الحنون” للشاعر الأب نعمة الله حبيقة. واتفقت لجنة التحكيم ،آنذاك، على اختيار “وديع الصافي” كاسم فني له نظراً إلى صفاء صوته. وكانت إذاعة الشرق الأدنى بمثابة معهد موسيقي تتلمذ وديع فيه.
بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية.
في أواخر الخمسينات بدأ العمل المشترك بين الموسيقيين لنهضة الأغنية اللبنانية، انطلاقاً من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت وديع الصافي وفيلمون وهبي والأخوين رحباني وزكي ناصيف وغيرهم، فشارك في مسرحيتي: “عرس في القرية”، “موسم العز” وشكل ثنائياً غنائياً ناجحاً مع صباح وقدما سوياً أغاني واسكتشات.
شارك الصافي في أفلام سينمائية من بينها: “الخمسة جنيه” من خراج حسن حلمي، “موال” و”نار الشوق” مع صباح (1973).
مع بداية الحرب اللبنانية غادر وديع لبنان إلى مصر (1976) ومن ثم إلى بريطانيا ومنها إلى باريس حيث استقرّ ( 1978).
في الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ الصافي تأليف الألحان الروحية نتيجة معاناته من الحرب وويلاتها على الوطن وأبنائه، واقتناعاً منه بأن اعمال الإنسان لا يتوجها سوى علاقته بالله.
يحمل الصافي ثلاث جنسيات: المصرية والفرنسية والبرازيلية إلى جانب جنسيته اللبنانية الا أنه يفتخر بلبنانيته ويردد أن الأيام علمته أن “ما أعز من الولد الا البلد”.
غنى لشعراء كثر من بينهم: أسعد السبعلي، ميشال طعمة، مارون كرم، ولملحنين من بينهم: الأخوان رحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الاطرش، رياض البندك… لكنه كان يفضل أن يلحن أغانيه بنفسه، لأنه الأدرى بصوته. وأدخل المواويل في أغانيه حتى أصبح مدرسة يحتذى بها.
في أرشيفه أكثر من خمسة آلاف اغنية وقصيدة لحن معظمها، منها “طل الصباح وزقزق العصفور”، أولى أغانيه عندما هاجر لمدة ثلاث سنوات إلى البرازيل (1947)، ولدى عودته إلى الوطن كرت سبحة الأغاني فكان ابرزها: “لبنان يا قطعة سما”، “صرخة بطل”، “الليل يا ليلى يعاتبني”، “شاب الهوى وشبنا”، “مريت ع الدار”، “لوين يا مروان”، “عصفورة النهرين”، “الله يرضى عليك يا ابني”، “الله معك يا بيت صامد بالجنوب”، وموال “يا مهاجرين ارجعوا”….
كذلك غنى “طلوا احبابنا” من ألحان الاخوين رحباني، وشارك في أوبريت “سهرة حب” مع فيروز ونصري شمس الدين. من ثم غنى “يا شقيق الروح”، “عندك بحرية” من الحان محمد عبد الوهاب”، “على الله تعود على الله ” من ألحان فريد الأطرش.
وكرمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية وحمل أكثر من وسام استحقاق منها خمسة أوسمة لبنانية نالها من خمسة رؤساء للجمهورية.
وفي سنة 1952 تزوج من ملفينا طانيوس فرنسيس إحدى قريباته فرزق بدنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد.