الفَرَحُ الأَنقَى، وَالصُّوفِيَّةُ، في عِشْقِ المَسِيحَ!

 

 

(رِحلَةٌ في كِتابِ «أَلحَدَثُ الأَعظَمُ «رَأَيتُ المَسِيح»، لِلأَدِيبَةِ غادَة الخَرْسا)

غادَة الخَرْسا…

أَلَا ما أَبعَدَ الخَرَسَ عَن هذهِ الغادَةِ الَّتي تَهزَجُ الحُرُوفُ في طِرْسِها، ويَشدُو اليَراعُ في بَنانِها نَشْوَةً مِن فِكرِها النَّيِّرِ، ورُؤَاها الَّتي لا تَخطُرُ على بال؟!

وَما أَنْأَى الحُبْسَةَ عَمَّنْ تُحاوِرُ سَيِّدَ الأَكوانِ، وقاهِرَ المَوتِ، بِتِلقائِيَّةِ طِفْلٍ، وصُوفِيَّةِ مُتَنَسِّكٍ وَرِع؟!

وما أَغرَبَ قُصُورَ الحَنْجَرَةِ في حَضْرَةِ مَن تَنطِقُ كُلُّ جارِحَةٍ مِنها بِحُبِّ الفادِي الَّذي انحَدَرَ إِلى القَبرِ لِيَرفَعَ الإِنسانَ إِلى سُدَّةِ الخَلاص؟!

قَلَمٌ رَصِينٌ هِيَ. مِدادُها الصِّدْقُ والصَّرامَةُ، وبَيانُها الرَّسْلُ أَناقَةٌ لا تَشُوبُها تَزاوِيقُ مُفتَعَلَةٌ، ومَضامِينُها مِن بَساطَةِ الطَّبِيعَةِ ونَقائِها، حُقُولٌ تَضحَكُ لِلشَّمسِ، وتَرتَعِشُ مَعَ نَدَى الصَّباحاتِ البَلِيلَةِ، وأَودِيَةٌ في أَعماقِها مَهابَةُ الزَّمَنِ الجارِي يَلُفُّ الوَرَى، وَرَهْبَةُ الغَيْبِ وسِحْرُهُ المُتَوارِي.

هذه المَرأَةُ مِن قِلَّةٍ أَنشَدَ فِيها الشَّاعِرُ:

خَلائِقُ كَالحَدائِقِ طابَ مِنها   ــــــــ النَّسِيمُ، وَأَينَعَت مِنها الثِّمارُ

***

في جَعْبَةِ هذهِ الكاتِبَةِ الأَنِيقَةِ الرَّاقِيَةِ مُؤَلَّفاتٌ عِدَّةٌ حَقِيقَةٌ بِالوُقُوفِ عَلَيها لِمُتْعَةِ القِراءَةِ، وَلاستِزادَةِ المَعرِفَة. على أَنَّنا سَنَقْصُرُ عُجالَتَنا هذهِ على مُصَنَّفِها المُمَيَّزِ «أَلحَدَثُ الأَعظَمُ «رَأَيتُ المَسِيح»».

فَنحنُ مَعَها إِذًا في رِحلَةٍ يَمتَزِجُ فِيها الرُّوحِيُّ المُطْلَقُ بِاليَومِيِّ المَعِيشِ، وَلَن نَكُونَ في ضَنْكٍ فَالهَوْدَجُ أَفيَحُ والوَسائِدُ مِن رِيْش!

***

في غُرَّةِ كِتابِها، تُطالِعُنا بِإِطلالَتِها على الدُّنيا وقد أَطَلَّ مَعَها نُوْرٌ، بِطَرِيقَةٍ عَجائِبِيَّةٍ تَعْصِي مَنطِقَنا البَشَرِيَّ، وتَتَجاوَزُ القَوانِينَ الَّتي تَحكُمُ المَحسُوساتِ (ص 27). وَهَل يَكُونُ الأَمْرُ إِلَّا بِإِرادَةٍ عُلْيا مِن قُوَّةٍ لا حُدُودَ لَها، بَرَأَتِ الوُجُودَ، وَراحَت تَتَجَلَّى في المَوجُوداتِ، مِن أَصغَرِ حَشَرَةٍ تَدِبُّ على وَجْهِ البَسِيطَةِ إِلى أَعظَمِ مَجَرَّةٍ تَزِيْنُ الفَلَكَ بِأَنوارِها وَنِظامِها العَجِيب؟! وقالها سبِينُوزا(1): «في كُلِّ شَيءٍ جُزْءٌ مِنَ الله».

***

تَتَمَيَّزُ كاتِبَتُنا بِصَراحَتِها في رِوايَةِ أُمُورٍ مِن حَمِيمِيَّاتِ عائِلَتِها، كَعَلاقَتِها مع حَماتِها وزَوجِها الَّذي هو مِنَ الوُجُوهِ المَعرُوفَةِ في أَطرافِ الوَطَنِ كافَّةً، مِن دُونِ حَرَجٍ أَو تَزْوِيقٍ أَو تَمْوِيهٍ أَو تَلْطِيف. وهذا مِمَّا يُسَجَّلُ لَها لاسِيَّما وَأَنَّ قِسْمًا مِن كِتابِها يَجرِي مَنْحَى السِّيرَةِ الذَّاتِيَّة. وهذا المِضْمارُ يَتَعَرَّضُ لَهُ كَثِيرُونَ، وَقَلَّما نَجِدُ مَنْ يَرُودُهُ بِصِدْقٍ شامِلٍ، وصَراحَةٍ فاقِعَة.

مِن فَوائِدِ هذا الكِتابِ تَزوِيدُ القارِئِ بِشَذَراتٍ مِن حَياةِ لُبنانَ السِّياسِيَّةِ في العُقُودِ الأَربَعَةِ الأَخِيرَةِ مِنَ القَرْنِ العِشرِين. وإِنْ يَكُنْ هذا قَد تَمَّ عَبْرَ وَمَضاتٍ سَرِيعاتٍ، فَالمَجالُ لَيسَ مَجالَ تَأْرِيخٍ، والنُّصُوصُ لَيسَت نُصُوصًا سِياسِيَّة.

وكاتِبَتُنا مِنَ الكِبْرِ أَنَّها تَلَقَّفَت تَجرِبَتَها المَرِيرَةَ، فَاستَخلَصَت مِنها أُمثُولَةَ حَياةٍ، تُقَدِّمُها لِلقارِئِ وَرْدَةً شَذِيَّةً على دِمْنَةِ الحِقْدِ والبَغْضاء.

تَقُول: «يَومَ هَلَّ عَلَيَّ المَسِيحُ: ضَمَّخَ جِراحاتِي […] فَأَدرَكتُ أَنَّ مَن ظَنَنْتُها [حَماتُها] ظالِمَتِي، إِنَّما هِيَ أَداةٌ لِصَقْلِيَ وتَأدِيبِي بِحَيثُ لَم يَعُدْ يَقْوَى على اقتِحامِي، جَوْرُ الظَّالِمِينَ، وقد أَصبَحَتِ الحَقِيقَةُ سِلاحِي، والصَّفْحُ دِرْعِي» (ص 76).

نَعَم، يا سَيِّدَتَنا، لَقَد قالَها بُولُسُ الرَّسُول: «إِنِّي أَستَطِيعُ كُلَّ شَيءٍ في الَّذِي يُقَوِّينِي»(2)، فَهَنِيئًا لَكِ القُوَّةُ الإِلهِيَّةُ تَعْضُدُكِ، فَلَأَنتِ أَرْضٌ خَصِبَةٌ لِلإِيمانِ، والتَّقْوَى، وتَقَبُّلِ الخَلاص.

وَلِلَّهِ دَرُّها، ما أَرْوَعَها تَنشُرُ الحُبَّ، سَمْتًا صَحِيحًا لِلأَنام. وَبَلَغَت مِن سُمُوِّ الخُلُقِ ما طَهَّرَ قَلبَها مِنَ الأَنانِيَّةِ والدَّنَسِ، ما وَسِعَت نَفسُها المَحكُومَةُ بِالضَّعْفِ البَشَرِيّ. فَإِذا بِها تُلامِسُ الصُّوفِيَّةَ في عِشْقِها المَسِيحَ واتِّحادِها بِه «بِدايَةً، جَعَلَنِي [المَسِيحُ] أُشاهِدُ، أَنِّي مُتَداخِلَةٌ فِيهِ، قُلْ شَخْصَينِ في واحِد: هو اللُّبُّ، وأَنا القِشْرَةُ… هو الجَوْهَرُ، وأَنا الظَّاهِر» (ص 95).

نَعَم… أَما قالَ لَنا السَّيِّد: «أَنَا الكَرمَةُ وَأَنتُمُ الأَغصَانُ»(3)؟!

وتَجَلَّى نَقاءُ رُوحِها في دَعوَتِها: «لَن نَعِيَ الحَقِيقَةَ في مَدارِجِ العُمْرِ، ما لَم يَحْتَوِنا الحُبُّ، فَنَلتَمِسَ أَن جَسَدَ الإِنسانِيَّةِ وَحْدَةٌ مُتَناغِمَةٌ، لَنا فِيهِ أُخْوَةٌ، وآباءٌ، وأُمَّهاتٌ، لا حَصْرَ لَهُم!» (ص 77).

وهي لا تَجْفُلُ مِنَ الأَحزانِ بَل تَرَى فِيها اختِراقًا لِلقُشُورِ وُصُولًا إِلى اللُّبّ. تَقُول: «أَمَّا الَّذِين لا تَلفَحُهُم رِياحُ الأَحزانِ، ولا تَجلُدُهُم سِياطُها، فَلا يَختَرِقُونَ حُدُودَ قُشُورِهِم، بَل يَظَلُّونَ مُكَبَّلِينَ داخِلَ تَكَدُّساتِها!» (ص 118). كَما أَنَّها تَرَى في «الأَلَمِ حارِثًا يَكشِفُ جَمالَ الأَغوارِ […] وَهَل كانَتِ التُّرْبَةُ تُعطِي غِلالًا وافِرَةً لَولا حَرْثُها عَمِيقًا؟» (ص119).

أَلَا رَعاها اللهُ، فَفِي نَشوَتِها الرُّوحِيَّةِ الَّتي لا تُقاسُ بِمَقايِيسِ الحَواسِّ، وَبَعدَ انخِطافِها إِلى فَرَحِ المَسِيحِ وَ «أَجواءِ النَّعِيمِ العُلْوِيِّ» (ص 97)، وَبَعدَ أَن ذاقَت «نَعِيمَ الفَوْقِ» (ص 103)، فَإِنَّها تَتَمَنَّى لَو انَّ النَّاسَ أَجمَعِينَ يَذُوقُونَ هذهِ النِّعمَة. فَيا لَها مِن نَفْسٍ تَسامَت على أَنانِيَّةِ الكائِنِ الضَّعِيف. إِنَّها تُذَكِّرُنا بِقَولِ فَيلَسُوفِ المَعَرَّة:

«فَلا هَطَلَت عَلَيَّ ولا بِأَرضِي     سَحائِبُ لَيسَ تَنتَظِمُ البِلادا»

فَطُوبَى لَكِ، سَيِّدَتَنا، نِعْمَةٌ تَرفَعُكِ إِلى غِبْطَةِ القَناعَةِ: «ها شُعْلَةُ الحُبِّ المُتَأَجِّجَةُ في صَدرِي، مُحتَوِيَةً وُجُودِي… لَكَأَنَّها أَجنِحَةُ وَعْيٍ تَرفَعُنِي، نَحوَ صَفاءِ النَّقاوَة…» (ص 107).

أَلَا قَرِّي عَيْنًا أَنَّكِ تَعِيشِينَ الفَرَحَ الأَنقَى في صَلاتِكِ الَّتي تَنبُضُ بِحَرارَة الإِيمانِ الصَّافِي، ويَرتَعِشُ فِيها القَلبُ حُبًّا، وتَذُوبُ الرُّوحُ الضَّعِيفَةُ في الرُّوْحِ الشَّامِلَةِ كُلَّ شَيء: «يا أَنتَ الخَفِيُّ – المَرْئِيُّ: المُوْمِضُ في أَحشائِي، وشَغافِ قَلبِي، نارًا ونُورًا، أَرتَجِفُ هَلَعًا حِينًا، وأَطْمَئِنُّ طَرَبًا أَحيانًا: أَرتَجِفُ آنَ أَحسَبُنِي بَعِيدَةً عَنكَ، وأَطْمَئِنُّ، آنَ يُظَلِّلُنِي نَعِيمُ راحَتِك» (ص148).

***

تَمُرُّ الكاتِبَةُ بِتَجارِبَ تَتَجاوَزُ إِدراكَنا، ولا تَخضَعُ لِجَدَلِيَّتِنا ومَنطِقِنا، ومنها انخِطافُها مِن واقِعِها ومُواجَهَتُها المَسِيحَ عِيانًا، والتَّحاوُرَ مَعَهُ، طَوالَ خَمسَةٍ وعِشرِينَ دَقِيقَةً، وَسْطَ حَفْلٍ غَفِيرٍ (ص 94). فَلَو قِيلَ إِنَّها كانَت تَحتَ تَأثِيرِ هَوَسٍ دِينِيٍّ ضاغِطٍ، أَو حالَةٍ نَفسِيَّةٍ ناجِمَةٍ عن ارتِباكٍ عُضْوِيٍّ أَو إِجهادٍ جَسَدِيٍّ مُفْرِطٍ، فَكَيفَ يَتَكَرَّرُ الأَمْرُ عَيْنُهُ مَعَها على «مَدارِ أُسبُوعٍ كامِل» (ص 104)؟!

والنِّصْفُ الثَّانِي مِن الكِتابِ يَغُصُّ بِأَخبارِ الجِنِّ ومُعاطاتِها الإِنسانَ شُؤُونَهُ وشُجُونَهُ، وهذا ما يَفتَحُ الأَعْيُنَ المُتَرَبِّصَةَ بِها، والمُنْكِرَةَ عَلَيها مَقُولاتِها. ورُبَّما اتَّهَمَها بَعضٌ بِخَلَلٍ نَفسِيٍّ، أَو انسِلاخٍ عَن عالَمِ الواقِعِ إِلى المُتَخَيَّلِ الَّذي يَتَمَلَّكُ نَفسَ شَخْصٍ لِيُصبِحَ حَقِيقَةً في نَظَرِه. وهُنا نَقُولُ إِنَّهُ لَو كانَ الانطِلاقُ في التُّهَمِ المُلقاةِ على عَواهِنِها مَبْنِيًّا على المَنْطِقِ العَقلِيِّ فَعَبَثًا الحِوار. أَمَّا إِذا كانت المُقارَبَةُ تَتِمُّ بَعدَ تَسلِيمٍ بِصِحَّةِ ما أَنزَلَتهُ الأَديانُ السَّماوِيَّةُ، فَإِنَّ هذه الأَخِيرَةَ تُورِدُ أَخبارَ هذهِ الكائِناتِ مِن شَياطِينَ وجِنّ. فَها الكِتابُ المُقَدَّسُ يَروِي: «وَكانَتْ شَياطِينُ أَيضًا تَخرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصرُخُ وَتَقُولُ: أَنتَ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ! فانتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ المَسِيحُ»(4). ويَأتِي في القِرآنِ الكَرِيم: ﴿قُلْ لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(5).

على أَنَّنا، في أُمُورٍ تَتَخَطَّى إِدراكَنا، لَن نُصادِرَ رَأْيَ الآخَرِينَ فِيها، ونَكتَفِي بِقَولِ العَرَبِ: واللهُ أَعْلَم. مع قَناعَتِنا أَنَّ مَن يَقْصُرُ النَّظَرَ على عَيْنِ المَعقُولِ في ما يَرِدُ مِن مَقُوْلٍ فَإِنَّهُ يَهدِمُ الهَيكَلَ ولا يُخَلِّفُ إِلَّا الطُّلُول!

إِلَّا أَنَّنا، في عَطَشِنا الأَبَدِيِّ إِلى المَعرِفَةِ، نَصرُخ: اللَّهُمَّ اجْذِبْنا إِلى ابْنِكَ الحَيِّ فَـ «لا أَحَدَ يَأتِي إِلَيهِ، إِنْ لَم يَجْذِبْهُ اللهُ الآب»(6). فَلَئِنْ عَطَفْتَ تُرِحْنا مِن وَساوِسِنا القاتِلَةِ، تُبَدِّدْ شُكُوكَنا المُقِضَّةَ، وتَضَعْنا في نَعِيمِ فَرَحِكَ، فَنَمْتَلِئَ بِلَأْلائِهِ، ونَنْشَرَهُ، ما وَسِعَنا، في المَعْمُور. فَما بِغَيرِ نِعَمِكَ نَقْوَى على اختِراقِ شَرْنَقَةِ الخَطايا الَّتي تَلُفُّنا، وإِنَّنا نَتَوَسَّلُ بِكَ لِنَحظَى بِإِيمانِ «أَنقِياءِ الرُّوحِ» وبَساطَةِ الأَطفالِ لِأَنَّ «بُحُورَ عَطاءَاتِكَ لا يُعَبَّرُ عَنها بِالمَنطِقِ، ولا تُحسِنُ الفَلسَفَةُ شَرْحَها، رُغْمَ أَنَّ مُؤْمِنًا بَسِيطًا فَقِيرًا في الرُّوحِ، يَختَبِرُ مَفاعِيلَها» (ص 191).

والتَّواصُلُ المُستَمِرُّ بَينَ هذه الكاتِبَةِ وعالَمِ الرُّوحِ، والتَّعاطِي الكَثِيفِ مع المَسِيحِ، يَطرَحانِ في ذِهْنِ قارِئٍ لَم تَمَسَّهُ نِعْمَةُ الإِيمانِ الرَّاسِخِ أَسئِلَةً جَمَّةً تُودِي بِهِ إِلى ظُنُونٍ تُطُولُ هذه المَرأَةَ الَّتي تَنضَحُ كَلِماتُها صِدْقًا وصَراحَةً وشَجاعَة.

هذا التَّلَقِّي المُتَرَجرِجُ لِنَصِّ الكِتابِ، المُهَدَّدُ بِالبَتْرِ الكامِلِ، قد لا يَجِدُ حَلَّهُ إِلَّا في تَدَخُّلٍ مُباشِرٍ مِنَ الَّذي احتَلَّ الحَياةَ الباطِنِيَّةَ لِلكاتِبَةِ، فَقَلَبَ مَفاهِيمَها رَأْسًا على عَقِبٍ، وخَلَقَ مِنها كائِنًا جَدِيدًا لا تَمَضُّهُ أَسئِلَةُ المَصِيرِ والماوَراء.

وَمَهما يَكُنِ الرَّأْيُ المُعاكِسُ لِما تُبدِيهِ المُؤَلِّفَةُ مِن أُمُورٍ تَتَجاوَزُ طاقَةَ البَشَرِ المَعهُودَةَ فَلا غُنْيَةَ عَنِ الوُقُوفِ مُطَوَّلًا مع تَجارِبِها الَّتي شارَكَها فِيها أَشخاصٌ مَعرُوفُونَ في مُحِيطِنا وحَياتِنا الاجتِماعِيَّةِ، «مِنهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ…»(7)، وَهَؤُلاءِ يَشهَدُونَ لَها بِالحَقِّ في المَحافِلِ العامَّةِ. وعِلاوَةً على ذلك فَإِنَّ سِيرَتَها تُنْبِئُ بِأَنَّها تَروِي والصِّدْقُ يَنضَحُ مِن كَلِماتِها المُضِيْئَة.

***

لِلقارِئِ نَقُول:

وَأَنتَ تَمُرُّ على الصَّحِيفَةِ بِبَنانِكَ وعَينَيكَ، وَما أَضنَتْكَ وِلادَةُ حُرُوفِها، على رِسْلِكَ، وَلا تُحاجَّ هذه المَرأَةَ في قَناعاتِها الَّتِي تَراها أَنتَ مُجافِيَةً لِإِدراكِنا المَحسُوسِ المَحدُودِ، فَهِيَ الَّتي عاشَتِ التَّجارِبَ بِدَقائِقِها وَغَرائِبِها، وَنَحنُ لا نَظُنُّها مِمَّن تَستَغرِقُهُم الأَوهامُ حِينَ يَراعُها يَخُطُّ الجَمِيلَ الفَطِنَ مِنَ الكِتابَةِ المَسؤُولَةِ، المُحَمَّلَةِ ثَقافَةً وازِنَة. وَلْنُثَنِّ على قَوْلِ الفَيلَسُوفِ الفَرَنسِيِّ باسكال: «إِستِشعارُ اللهِ يَكُونُ بِالقَلبِ لا بِالعَقل»(8).

وَحَتَّى لَو سَلَّمْنا جَدَلًا بِحُجَجِكَ مُشَكِّكًا بِصِحَّةِ وَسَلامَةِ رُؤَى كاتِبَتِنا الفَرِيدَةِ – ونحن لا نُنْكِرُ أَنَّ «الشَّكَّ مِنَ الفِطَن» – وَبِأَنَّ ما تَروِيهِ هو أَضْغاثُ أَوهامٍ يُشَكِّلُها استِغراقٌ أَعمَى في شُؤُونِ ما وَراءِ الطَّبِيعَةِ، فَحَبَّذا هذهِ الرُّؤَى الأَوهامُ تَنقُلُ صاحِبَتَها إِلى المَعارِجِ العُلْيا حَيثُ النَّقاءُ هو الشِّرْعَةُ، والخَيْرُ هو الحادِي، والبَهاءُ هو المَغْنَى.

وَيا رَعاكَ اللهُ، دَعِ المُؤْمِنَ على إِيمانِهِ، فَلَيسَ مِنْ نِعْمَةٍ تَفُوقُ نِعْمَةَ الإِيمانِ، هذا الَّذي ما تَمَنَّى الخَلِيفَةُ عُمَرُ بنُ الخَطَّاب(9) إِلَّاهُ، وكانَ في أَوْجِ مَجْدِه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ إِيمانًا كَإِيمانِ العَجائِز».

ثَمَّ، فَلْنَتَفَكَّرْ بِقَولِ سبِينُوزا(1): «إِذا كانَ اللهُ غَيرَ مَوجُودٍ تَفقِدُ الحَياةُ مَعناها، ولا يَبقَى مِن مُسَوِّغٍ لِلعَيشِ على الأَرض»!

وَلِسَيِّدَتِنا الكاتِبَةِ الوَقُورِ نَقُول:

لَمَّا تَعِبتِ في إِنشاءِ كِتابِكِ، وَسَكَبتِ فِيهِ مِن قَلبِكِ ما سَكَبتِ – وَلا يَعرِفُ ضَنَى الصَّنِيعِ إِلَّا مَنْ يُكابِدُهُ – أَلَا لَيتَكِ أَوْلَيتِ اللُّغَةَ عِنايَةً أَشمَلَ، نَحْوًا وَطِباعَةً، تَفادِيًا لِلهَناتِ والهَفَواتِ الَّتي شَوَّهَت بَعضًا مِن رَوْنَقِها، وطَمَسَت زَهْوَ بَرِيقِها. فَالدَّاخِلُ مُهِمٌّ وكَذلكَ الخارِجُ، فَلا نَدَعَنَّ اللَّبُوسَ يُشَوِّهُ هَيبَةَ القُسُوس. والأَمِيرَةُ عَلَيها أَن تَتَزَيَّا بِمَطارِفِ الأَمِيراتِ، لا بِمُسُوحِ الدَّراوِيش.

***

على مَدَى الأَحقابِ الطِّوالِ، تَوالَتِ الأَجيالُ يُربِكُها غُمُوضُ المَصِيرِ، وتَضِيعُ في مَتاهاتِ الأَسئِلَةِ المُمِضَّةِ عَن غَيْبٍ مُطْبِقٍ. حَتَّى أَتَى سَيِّدُ الدُّهُورِ يَحمِلُ الجَوابَ الشَّافِيَ لِكُلِّ قَلبٍ بَصِير. تَعامَى بَعضٌ عَن مَسِيرَتِهِ السَّاطِعَةِ كَشَمسٍ، وَسَعَى كَثِيرُونَ إِلى رِحابِهِ تَضَرُّعًا، يَنشُدُونَ مِنهُ إِشارَةً تُطَمْئِنُ أَفئِدَتَهُمُ القَلِقَةَ المُؤَرَّقَةَ، وَيَتَلَمَّسُونَ حُضُورَهُ لِيَزُولَ القَلَقُ، فَكانَ يَتَجَلَّى لِقِلَّةٍ قَلِيلَةٍ مِمَّن عَمَرَت قُلُوبُهُم بِالإِيمانِ الخالِص. ﴿فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبصارُ ولكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصُّدُورِ﴾(10).

وَاصْطَخَبَ النَّاسُ في مَعْمَعانِ الإِيدِيُولُوجِيَّاتِ المُتَضارِبَةِ، مِنها الرُّوحِيَّةُ المُلتَزِمَةُ حُدُودَ الخالِقِ كَما رَسَمَتهُ الأَديانُ، أَو كَما رَأَتهُ هي بِمَفهُومِها الخاصِّ، وَمِنها المادِّيَّةُ العَدَمِيَّةُ المُغلَقَة. فَشَكَّكَ الكَثِيرُونَ بِالماوَراءِ وَوَساوِسِهِ، وَالشَّكُّ مَخاضُ العَقْلِ في وِلادَةِ اليَقِينِ العَسِيرَةِ، وهو لَيسَ مَثْلَبَةً عِندَ اللهِ وَإِلَّا… لِمَ حَبانا هذا العَقلَ الحَرُون؟!

ثُمَّ أَلَمْ تَكُنْ كاتِبَتُنا، يَومًا، مِنَ المُشَكِّكِينَ بِأَوهامِ والِدَتِها الإِيمانِيَّةِ العَجائِبِيَّةِ، حَتَّى وُصُولِها إِلى الاعتِراف: «أَرانِي نادِمَةً على ما كُنتُ أُجابِهُ بِهِ أُمِّي، مِن ارتِيابٍ وَصَدّ…» (ص 27).

وَتَتالَت قَوافِلُ المُؤْمِنِينَ عَبْرَ العُصُورِ، وَمَشَت غادَتُنا في رِكابِهِم، وفي قَلبِها بِذْرَةُ الإِيمانِ الصَّافِي، وَلِسانُ حالِها يُرَدِّدُ مَعَ الشَّاعِر:

وَلَمَّا رَأَيتُ القَومَ شَدُّوا رِحَالَهُم            إِلى بَحرِكَ الطَّامِي أَتَيتُ بِجَرَّتِي

وَلَم تَعُدْ خالِيَةَ الوِفاضِ، وامتَلَأَت جَرَّتُها باِلكَوثَرِ الإِلهِيِّ الَّذي يَملَأُ الكِيانَ طُمَأْنِينَةً وَسَعادَةً وَرِضًى. وَأَنعَمَ عَلَيها البارِي وَأَجْزَلَ، فَتَوالَت لِقاءَاتُها مَعَ الَّذي مَسَحَ الوُجُودَ بِحَنانِه. هِيَ النِّعْمَةُ ما كانَت لِتَستَقِرَّ في قَلبِها لَو لَم يَكُنْ كَقُلُوبِ الأَطفالِ الَّذِينَ «لِمِثْلِهِم مَلَكُوتُ السَّماوات»(11).

***

أَيَّتُها الصَّدِيقَةُ الأَدِيبَة…

أَلا ما أَجمَلَ عَطاءَكِ، تَزرَعِينَ النَّبْضَ في الحُرُوفِ الخَرْساءِ، فَتُشِعُّ الحَياةُ في الزَّوايا تُضِيْئُها، وتَنشُرِينَها رُسُلَ خَيْرٍ في مَجَلَّتِكِ الرَّاقِيةِ «غادَة» الَّتي تَدخُلُ المَنازِلَ مِن أَبوابِها العَرِيضَةِ، وَتُبَوَّأُ في المَحارِيبِ وَلا حَرَج.

وَلا تَهُمَّنَّكِ سِهامُ الجاحِدِينَ، فَـ «كُلُّ شَيئٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ»(12)، وَضَعِي نُصْبَ عَينَيكِ الآيَةَ الكَرِيمَة: ﴿إِقرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيبًا. مَنِ اهتَدَى فَإِنَّما يَهتَدِي لِنَفسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيها ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرَى﴾(13).

إِنَّ التَّجارِبَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مَرَّت بِها هذهِ المَرأَةُ الثَّقِفَةُ، تَكرارُها عَلامَةٌ على صِدْقِها، فهي لَيسَت تَأَزُّمًا عارِضًا لِأَعصابٍ مَكْدُودَةٍ، أَو تَهْوِيمَةَ غافِلٍ يَسْرَحُ بِأَفكارِهِ بَعِيدًا، فَلْيَتَّعِظْ أُولَئِكَ الَّذينَ يَجْهَدُونَ في دَحْضِ وُجُودِ العِزَّةِ الإِلهِيَّةِ بِحُجَجِهِم القَصِيرَةِ الباعِ، ولكنَ… «ما أَكثَرَ العِبَرَ، وما أَقَلَّ الاعتِبار»(14)!

يَقُولُ الصُّوفِيُّ الفَيلَسُوفُ النِّفَّرِي: «أَوقَفَنِي في الأَبوابِ وَقال: أَلأَبوابُ إِلَيَّ كَلِمَات».

لَقَد أَحسَنَتْ كاتِبَتُنا اختِيارَ كَلِماتِها فَاستَجابَ السَّيِّدُ الأَكبَرُ لَها، وكانَت نِعْمَةُ تَجَلِّيهِ في وُجُودِها.

وَإِذْ نَدَبَتْها الأَمانَةُ لِلنِّعْمَةِ إِلى نَشْرِها في المَسامِعِ فَانتَدَبَت، فَإِنَّها كانت جَدِيرَةً بِتَعْمِيمِ البِشارَةِ، وإِشاعَةِ النُّوْر.

وكَما جاءَ في المَثَلِ العامِّيِّ: «اللِّي بِيفَتِّش عا رَبُّو بِيلاقِيه».

فَإِنَّها فَتَّشَت عَنهُ بِكُلِّ جارِحَةٍ، وبِقَلبٍ مُنكَسِرٍ، فَوَجَدَته.

فَـ «طُوبَى لَها وَحُسْنُ مَآب»(15)!

***

سَيِّدَتَنا…

أَمَّا وَقَد حَصْحَصَتْ لَكِ الحَقِيقَةُ فَأَذَعْتِ الخَبَرَ، فَإِنَّكِ وَفَّيْتِ قِسْطَكِ، وخَيْرُ العاقِبَةِ لِمَنِ اعْتَبَر!

تُغبَطِينَ على إِيمانِك!

سَلِمْتِ.

ـــــــــــــــــ

(1): (سبِينُوزا، Spinoza Éthique, V, prop XXII)

(2): (رِسالَةُ بُولُس الرَّسُول إِلى أَهلِ فِيلَبِّي 4: 13)

(3): «أَنَا الكَرمَةُ وَأَنتُمُ الأَغصَانُ. أَلَّذِي يَثبُتُ فِيَّ وَأَنا فِيهِ هذا يَأتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لِأَنَّكُمْ بِدُونِي لا تَقدِرُونَ أَن تَفعَلُوا شَيْئًا»                                                 (إِنجِيل يُوحَنَّا، 15:5)

(4): «وَكانَتْ شَياطِينُ أَيضًا تَخرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصرُخُ وَتَقُولُ: «أَنتَ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ!» فانتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ المَسِيحُ»                  (إِنجِيل لُوقا، 4:41)

(5): ﴿قُلْ لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾                                       (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الإِسراءِ، الآيَة 88)

(6): «ما مِنْ أَحَدٍ يَقدِرُ أَن يُقْبِلَ إِلَيَّ ما لَم يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرسَلَنِي»      ((إِنجِيل يُوحَنَّا، 6: 44)

(7): ﴿مِنَ المُؤمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾                           (القُرْآنُ الكَرِيمُ؛ سُوْرَةُ الأَحزاب، الآيَة 23)

(8): (بلِيز باسكال Blaise Pascal, a French mathematician, physicist, inventor, writer and Catholic theologian / 1623 – 1662)

(9): عُمَرُ بنُ الخَطَّاب: هو ثانِي الخُلَفاءِ الرَّاشِدِين، المُلَقَّبُ بِالفارُوقِ، ومِن كِبارِ أَصحابِ الرَّسُولِ مُحَمَّد، وأَحَدُ أَشهَرِ الأَشخاصِ والقادَةِ في التَّارِيخِ الإِسلامِيِّ وَمِن أَكثَرِهِم تَأثِيرًا ونُفُوذًا. تَوَلَّى الخِلافَةَ بَعدَ وَفاةِ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق في 23 آب سَنَة 634 م. وهو مُؤَسِّسُ التَّقوِيمِ الهِجْرِيّ. 

(10): (القُرآن الكَرِيم، سُورَةُ الحَجّ، الآيَة 46)

(11): «دَعُوا الأَطفالَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَمنَعُوهُم لِأَنَّ لِمِثلِ هؤُلاءِ مَلَكُوتَ السَّماواتِ»

                                                     (إِنجِيل مَتَّى، 19: 14)

(12): أَلا كُلُّ شَيئٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ        وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ

(13): (القُرآن الكَرِيم، سُورَةُ الإِسراء، الآيَات 14 – 15)

(14): «أَلَا ما أَكثَرَ العِبَرَ، وما أَقَلَّ الاعتِبار»        (الإِمَامُ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِب–«نَهْج البَلاغَة»)

(15): ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب﴾

                         (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الرَّعْد، الآيَة 29)

اترك رد