(مُهداةٌ إِلى رُوحِ الشَّابِّ الفارِسِ ن. ق مِن قَريَةِ عْزِيزَا)
دَخَلتُ غُرفَةَ الصَّفِّ النِّهائِيِّ (Terminales)، في غُرَّةِ تِشرِينَ الأَوَّل مِن السَّنَةِ الدِّراسِيَّةِ 1976. وَضَعتُ مِحفَظَتِي على الطَّاوِلَةِ وتَوَجَّهتُ نَحو الطُّلَّابِ – على عادَتِي مُنذُ تَعيِينِي في سِلْكِ التَّعلِيمِ الثَّانَوِيِّ الرَّسمِيِّ في العامِ 1968 – بِنَصائِحَ عامَّةٍ، واضِعًا نَهْجًا مُحَدَّدًا لِمَسِيرَةِ مَوسِمٍ دِراسِيٍّ طَوِيلٍ، مُتَفَرِّسًا في مَلامِحِهِم، مُتَشَوِّفًا إِلى خَيْرٍ تُخَبِّئُهُ وُجُوهُهُمُ المُغلَقَةُ، مُتَوَجِّسًا مِن عَقَباتٍ تَعتَرِضُنِي مع بَعضٍ مِمَّن لا تُوافِقُ نَسائِمِي أَشرِعَتَهَم العَصِيَّة.
كانت أَجواءُ البِلادِ في غايَةِ السُّوءِ، والحَربُ الدَّائِرَةُ على مِساحَةِ الوَطَنِ في ذُروَةِ اشتِعالِها، والقانُونُ مُنتَهَكٌ في غِيابِ الرَّاعِي الضَّابِطِ، والإِنسانُ رَقْمٌ يُمْحَى بِإِشارَةٍ بَسِيطَةٍ مِن «آمِرٍ عَسكَرِيٍّ» يَحكُمُ ويُنَفِّذُ حُكْمَهُ، ولا مَن يَتَجَرَّأُ على مُقاضاتِهِ، أَو حَتَّى مُساءَلَتِه. وكان النَّاسُ يُساسُونَ، في مُعظَمِ الأَماكِنِ، بِحَسَبِ قَولِ أَبِي العَلاء المَعَرِّي:
«تَلَوْا باطِلًا، وَجَلَوْا صارِمًا، وَقالُوا: صَدَقنا! فَقُلتُمْ: نَعَمْ!».
ويُذَكِّرُنِي تَداعِي الأَفكارِ بِطُرْفَةٍ قَرَأتُها عن دَولَةِ الرَّئِيسِ الأَدِيبِ تَقِيِّ الدِّين الصُّلْح*، فَالمَقالُ يُناسِبُ الحال.
أَمسَكتُ بِطَبشُورَتِي وبَدَأتُ بِالكِتابَةِ على اللَّوْحِ، وإِذا بِضِحْكَةٍ تَرِنُّ، تُرافِقُها مُحادَثَةٌ بِصَوتٍ عال.
تَطَلَّعتُ وَرائِي بِدَهشَة.
كان يَتَكَلَّمُ مع رَفِيقَتِهِ بِانسِجامٍ كامِلٍ، وقد انتَحَيا زاوِيَةً خَلفِيَّة.
مَظهَرُهُ مُخِيفٌ، لا يُبَشِّرُ بِالرَّاحَةِ، ويُنذِرُ بِأَيَّامٍ قادِمَةٍ مِنَ المُعاناةِ الطَّوِيلَة. شَارَةٌ حِزبِيَّةٌ تَتَغاوَى بِحَجمِها البارِزِ ولَونِها الفاقِعِ على صَدْرٍ مَكشُوفٍ مِنَ النَّحْرِ إِلى الخَصْرِ، لِحيَةٌ طَوِيلَةٌ، كَثَّةٌ، مَنفُوشَةٌ، سَوداءُ كَلَيلِ الهَمِّ، وجُمَّةٌ تَندَرِئُ في كُلِّ اتِّجاهٍ على كَتِفَينِ عَرِيضَتَينِ، وَتُوحِي بِأَنَّ عَهْدَها بِالمِشْطِ بَعِيدٌ بَعِيد.
إِستَعَذتُ بِرَبِّي مِنْ هذا الشَّرِّ الطَّارِئِ، وأَدرَكتُ أَنَّ السَّيْرَ بِرُفْقَةِ هذا الشَّابِّ المُستَهْتِرِ الغَرِيبِ الشَّكلِ، عامًا كامِلًا، سَيَكُونُ مِن عَسِيرِ الأُمُور.
ولَرُبَّما أَفسَدَ عَلَيَّ أَدائِيِ الَّذي أَضِنُّ به، وأَحرِصُ على كَمالِهِ حِرْصِي على أَعَزِّ شَيءٍ لَدَيَّ، وقد تَتَفَشَّى الفَوْضَى الَّتي يُحدِثُها الصَّفَّ بِأَكمَلِهِ، وصَدَقَ المَثَلُ: «تِفَّاحَة مِهْرِيّة بتِهْرِي الصَّندُوقَة»!
إِرتَأَيتُ الهُجُومَ على الدِّفاعِ والتَّرقِيعِ والتَّرَوِّي، فَخاطَبتُهُ بِلَهْجَةٍ صارِمَة: الصَّفُّ لِلتَّعَلُّمِ لا لِلتَّحَدُّثِ، وإِذا شِئْتُما اللَّهْوَ فَاخرُجا.
حَدَجَنِي وابتِسامَةٌ صَفْراوِيَّةٌ باهِتَةٌ تُبَرقِعُ شَفَتَيهِ، رَفَعَ حاجِبَيهِ، هَزَّ رَأسَهُ صُعُودًا نُزُولًا بِبُطْءٍ شَدِيدٍ، تَنَهَّدَ عَمِيقًا وقال: هكذا تُرِيدُ؟
فَأَجَبتُهُ بِاختِصارٍ: نَعَم!
بِقامَةٍ مُنتَصِبَةٍ كَالرُّمْحِ، وأَنَفَةٍ بَيِّنَةٍ، خَرَجَ بِهُدُوءٍ، فَدَخَلَتِ الوَساوِسُ تَوًّا إِلى بالِيَ المُضطَرِب.
ما تُرانِي فَعَلتُ، وأَينَ زَجَجْتُ نَفسِي، في هذهِ الأَيَّامِ العَصِيبَةِ حَيثُ الرَّصاصَةُ هي الكَلِمَةُ الفَصْلُ، ولا يَفصِلُها عن هَدَفِها رادِعٌ أَو وازِع.
حَمَلتُ هَمِّيَ الجَدِيدَ، وضَمَمتُهُ إِلى إخوَتِهِ الصِّغارِ، هُمُومِ العَيْشِ اليَومِيَّةِ، ومَسؤُولِيَّاتِ العائِلَةِ المُلازِمَة.
***
تَرَكَ صاحِبُنا المَدرَسَةَ إِلى غَيرِ رَجْعَةٍ، وَعَلِمتُ، مِن ناظِرِ الدُّرُوسِ أَنَّهُ يُدعَى «كَرِيم قْصاص» مِن قَريَةِ «عْزِيزَا»، وهو مُقاتِلٌ شَرِسٌ في «الحِزْبِ الفُلانِيِّ» المُهَيمِنِ على المِنطَقَة.
تَنازَعَنِي شُعُوران: فَرْحَةٌ بِالتَّخَلُّصِ مِن حُضُورِهِ الثَّقِيلِ، وقَلَقٌ مِن انتِقامٍ قد يُعِدُّهُ لِي. فَبِتُّ، مِن يَومِها، وخِلالَ تَحَرُّكاتِي كافَّةً، أَتَلَفَّتُ، بِرِيبَةٍ، إِلى كُلِّ ما يُحِيطُ بِي مِن مُتَحَرِّكٍ وجامِدٍ، مُتَرَقِّبًا داهِيَةً قد تَأتِينِي لِقاءَ ما فَعَلت.
أَحَسَّت زَوجَتِي بِبَلبالِي العارِضِ، فَكانَت تَستَخبِرُنِي الأَمْرَ، فَأَكتُمُ السِّرَّ عَنها كَي لا أُشرِكَها بِهَواجِسِي.
ويَومًا، أَثناءَ عَودَتِي مِن التَّعلِيمِ، لَمَحتُ، مِن مَسافَةٍ قَرِيبَةٍ، مُسَلَّحِينَ مُدَجَّجِينَ يَصعَدُونَ، في جَلَبَةٍ وهِياجٍ، إِلى مَركَبَتِهِم العَسكَرِيَّةِ، وأَمامَهُم أُخرَى تَحمِلُ رَشَّاشًا مِنَ العِيارِ الثَّقِيلِ (دُوشْكا)، وكان صاحِبُنا يُشرِفُ عَلَيهِم، ويُعطِي التَّعلِيماتِ بِفَمِهِ وبِيَمِينِهِ، ومُسَدَّسٌ مُثْبَتٌ على زُنَّارِهِ مِن جِهَةٍ، ومِن جِهَةٍ أُخرَى «رُمَّانَةٌ يَدَوِيَّةٌ» تَتَأَرجَح.
أَبطَأتُ حَتَّى أَوشَكتُ أَن أَقِفَ، فَانتَهَى استِنفارُهُم، وانطَلَقُوا تُرافِقُهُم أَدعِيَتِي بِانفِساحِ المَجالِ أَمامَهُم إِلى لا نِهايَة.
تَنَفَّستُ الصُّعَداءَ، ثُمَّ رُحْتُ أُطَمْئِنُ نَفسِي قائِلًا: لَو كان يُرِيدُ بِيَ الشَّرَّ، فَما يَحُولُ دُونَ أَن يَتَعَقَّبَنِي أَنَّى تُوَجَّهت؟!
ولكِنَّ الظُّنُونَ أَمَّارَةٌ قَهَّارَةٌ، فَسُرعانَ ما عُدْتُ إِلى خَوفِي وتَوَجُّسِي.
تَراكَمَتِ الأَيَّامُ، وأَخَذَنِي الانهِماكُ في العَمَلِ، فَبَدَأتُ أَنسَى الشَّابَّ، إِلَّا في أُوْيقاتٍ مُتَباعِدَة.
***
وكانَت ظَهِيرَةٌ…
وأَنا في سَيَّارَتِي المُنضَوِيَةِ في رَتْلٍ طَوِيلٍ يَدِبُّ، في نُقطَةِ تَفتِيشٍ عَسكَرِيَّةٍ، حَيثُ تَوَزَّعَ المُسَلَّحُونَ في كُلِّ النَّواحِي، يَتَرَبَّصُونَ بِالسَّيَّاراتِ، ويُدَقِّقُونَ في هُوِيَّاتِ الرَّاكِبِين. وكانت شاراتُ «الحِزْبِ الفُلانِيِّ» تُرَفرِفُ في كُلِّ ناح.
تَساءَلتُ بِخَشيَةٍ: تُراهُ هُنا؟ وإِذا كانَ فَهَل ساعَةُ الحِسابِ والحَسْمِ قَد حانَت؟
بَدا انكِفائِي ورُجُوعِي مُستَحِيلًا لِما تَراكَمَ خَلفِي مِن مَركَباتٍ، ولِأَنَّ مُحاوَلَةً كَهذِهِ تُثِيرُ الشَّكَّ، وتَكشِفُ المَحظُورَ، أَو تَفتَحُ الأَبوابَ على كَثِيرٍ مِنَ التَّساؤُلات.
إِرعَوَيتُ عن تَفكِيرِيَ هذا، كَي لا أَفتَحَ بِوَجهِي وَكْرَ الزَّنابِيرِ مَرَّةً أُخرَى. فَإِذا سَلِمَتِ الأُولَى، حَتَّى السَّاعَةِ، فَقَد لا تَسلَمُ الثَّانِيَة.
سَلَّمتُ أَمرِيَ لِلَّهِ، ولكِنَّ قَلبِي ما كَفَّ عَنِ الخَفَقان.
وإِذِ اقتَرَبَت سَيَّارَتِي مِن الحاجِزِ، سَمِعتُ صَوتًا جَهْوَرِيًّا: «بُوْ العِزّْ»، أَفسِحِ الطَّرِيقَ لِـ «الرِّينُو البَيضاء Renault blanche»، فَالأُستاذُ يَكُونُ مُسرِعًا إِلى مَدرَسَتِه. ولا تُؤَخِّرُوهُ عن عَمَلِهِ، كُلَّما مَرَّ.
كانَتِ السَّيَّارَةُ المَعْنِيَّةُ بِالنِّداءِ خاصَّتِي، فَنَظَرتُ ناحِيَةَ الصَّوتِ فَلَمَحتُهُ، بِمَهابَتِهِ المَعهُودَةِ، فَخاطَبتُهُ مُمازِحًا، وقد فُرِّجَ مُعظَمُ الهَمِّ عن صَدرِي: أَتُرِيدُنِي أَن أَقِفَ جانِبًا لِلمُساءَلَةِ والتَّحقِيق؟
أَجابَنِي، بِاحتِرامٍ جَمٍّ: حاشا، يا أُستاذَنا، نحن رَهْنُ أَمرِكَ، وإِنْ احتَجْتَ شَيئًا فَلا تَضِنَّ عَلَينا بِالطَّلَب.
حَيَّيْتُهُ، واضِعًا يَدِي على رَأْسِي امتِنانًا، ومَرَرْتُ والأَفكارُ تَعصِفُ في رَأسِي، وأَنا أُرَدِّدُ: إِنَّكَ لَفارِسٌ حَقًّا. حَماكَ الله!
***
مَرَّت أَشهُرٌ، احتَدَمَت، بَعدَها، المَعارِكُ بَينَ «الحِزْبِ الفُلانِيِّ» وأَنصارِهِ مِن جِهَةٍ، والفِئاتِ المُناوِئَةِ الَّتِي شَنَّت هُجُومًا كاسِحًا على المِنطَقَةِ مِن جِهَةٍ أُخرَى، وكانت القَذائِفُ تَنهَمِرُ كَالمَطَرِ، فَرَحَلتُ عَن أَتُونِ الحَربِ الَّتي حاصَرَتنا بِشِدَّتِها وضَراوَتِها، مع عائِلَتِي وجارٍ لِي وعائِلَتِهِ الصَّغِيرَةِ، إِلى سُوريا، حَيثُ مَكَثْنا أُسبُوعَينِ، ثُمَّ عُدْنا بَعدَ أَن انجَلَتِ الأُمُورُ، وهَدَأَتِ المعارك.
***
عَلِمتُ مِن صَدِيقٍ لِي، على عَلاقَةٍ وَثِيقَةٍ بـ «الحِزْبِ الفُلانِيِّ»، أَنَّ صاحِبَنا الفارِسَ قُتِلَ وهو يُحارِبُ بِشَجاعَةٍ فائِقَةٍ، ثابِتًا في مَوقِعِهِ، حِينَ الكَثِيرُونَ مِن رِفاقِهِ ارتَدُّوا على أَدبارِهِم هارِبِين. وأَردَفَ رِوايَتَهُ بِالقَول: عُرِفَ عَنهُ الشَّهامَةُ والتَّرَفُّعُ، وأَنَّهُ كان يُقَدِّمُ الحِمايَةَ والرِّعايَةَ والخَدَماتِ لِخُصُومِ حِزْبِهِ، مِن أَبناءِ قَريَتِهِ المَغلُوبِينَ على أَمرِهِم. كَما عُهِدَ عَنهُ تَرَفُّعٌ، وأَشياءُ أُخرَى كَثِيرَةٌ مِمَّا لا تُشبِهُ سُلُوكِيَّاتِ أَمثالِهِ مِن «أُمَراءِ الحَربِ»، وأَسيادِ الشَّوارِع!
حَقًّا
إِنَّهُ لَفارِسٌ في جُهمَةِ الغاب!
ـــــــــــــــــــــ
* تَقِيّ الدِّين الصُّلْح (1908 – 1988)، رَئِيسُ وُزَراءِ لُبنانَ لِعِدَّةِ سَنَواتٍ، حَصَلَ مَعَهُ الآتِي:
خِلالَ الحَربِ اللُّبنانِيَّةِ، عام 1975، قالَ لَهُ أَحَدُ أَصحابِ الزَّوارِيبِ، حَمَّالِي السِّلاحِ:
«نَحنُ نُمَثِّلُ المُقاتِلِينَ، فَمن تُمَثِّلُ أَنت؟»؛ فَأَجابَهُ تَقِيّ الدِّين: «يا ابْنِي، أَنا أُمَثِّلُ المَقتُولِين».