استجابة لطلب بعض الاخوة المتخصصين والمهتمين بكل ما يتصل بالشأن العراقي، أن اوسع دائرة التساؤل الذي طرحته عن اسرائيل لاكثر من بلد مهم، لذا وجدت ان المناسب البدء ب( تركيا)، واعترف ان التعقيد الذي يلف العلاقة التركية- العراقية، وطبيعة المحطات المتباينة التي مرت بها، وحجم الملفات المعقدة التي يختلط فيها الثقافة والاقتصاد والامن، تجعل تناول هذا السؤال في غاية التعقيد.
ارصد جملة من اجابات بعضها مطروح وآخر تنفرد به هذه المقاربة، محاولا الوصول الى قراءة موضوعية واعية للتوجهات والاهداف الاستراتيجية التركية تجاه العراق، وقبل ان نسرد هذا التسلسل لا بد ان نشير الى مجموعة صور معقدة تتصل باطراق علاقات تركية، تفرض تعقيدا اكبر على محاولة الفهم هذه وهي:
-العلاقة التركية- الاسرائيلية، وحدود المصالح المتبادلة فيه.
-العلاقة التركية- الامريكية، وواقعية المسافات التي تظهر في الجو العام مديات التقارب والتباعد.
-العلاقة التركية- الايرانية/ الروسية، والمديات التي يمكن ان تشكلها دائرة التحالفات او التماهيات ضمنها.
-العلاقة التركية- اوربا وحلف الناتو، وحقيقة المادة اللاصقة لها وقدرتها على خلق جسور متينة.
-العلاقة التركية- اقليم كردستان وتحديدا آل البرزاني، ومقدار المناورات التي توفرها هذه الخاصرة.
-العلاقة التركية- تركمان العراق، وحدود غلبة القومي للمذهبي وحقيقة الدور المطلوب.
-العلاقة التركية- العربية وتحديدا الخليجية والمصرية، وحدود الثقة بين الطرفين.
يضاف الى ذلك طبيعة العلاقات الداخلية التركية، وكل هذه المحددات والمتغيرات لها انعكاس جوهري فيما يتصل بالتوجهات التركية تجاه العراق، لذا فإن الفهم الشامل لهذه العلاقة لا بد ان يأخذ بنظر الحسبان تلك المتغيرات، فتركيا كغيرها من الدول التي تتحرك من منطلق اهداف دولة، مرة تتحرك لاهدافها المباشرة ومرة بالنيابة عن لاعبين آخرين.
ويمكن اجمال المرادات التركية في:
-استدامة السوق العراقية بوصفها احد اهم المستوردين للبضاعة التركية والمفضلين لها، وهي سوق ثرية بالسيولة النقدية، مضاف لذلك توسيع دائرة الاستثمارات التركية والحضور الاقتصادي، حيث يلعب الاقتصاد دورا محوريا في سياسية النظام الذي يقود تركيا بل في عموم الوجدان التركي.
-ان تركيا تحمل اطماع قديمة في العراق تعود الى ايام الاحتلال العثماني، وانها غير راضية بالتسوية التي تمت لمشكلة ولاية الموصل، وكذلك لخرجها منهزمة من العراق، لذلك فهي تحاول من خلال امتداداتها استعادة اكبر قدر من نفوذها على الارض والبشر بالشكل الذي يمكنها من التصرف في مصير ومستقبل هذه المناطق.
-تركيا بلد صناعي كبير، وهي بحاجة ماسة لموارد الطاقة، لذا فانها تسعى الى تامين موارد ثابتة ورخيصة للطاقة، وتحاول ان ترتب هذا التامين مرة من خلال قنواته الرسمية ومرة من خلال اتفاقات جانبية مع سلطات الاقليم او حتى مع المهربين.
-يمثل هاجس الامن اكبر التحديات لتركيا وخصوصا فيما يتصل بضبط التمرد الكردي وفعاليات حزب العمال، ولهذا تريد تركيا توسيع امكانات السيطرة والهيمنة الامنية التي تتيح لها التصرف مع حزب العمال وكبح توجهاته، بشكل متفق عليه امنيا مع الحكومة العراقية.
-تتيح الساحة العراقية منطقة تصريف تدفع تركيا بمشكلة حزب العمال والاكراد إليها بطريقة تبقي حجة انشغالها في مواجهة التحدي الكردي كشماعة تعلق عليها الخلل والنقص الذي تعاني منه وجبهتها الداخلية ويطالب به معارضو النظام، فهي لا تريد من جهة تصفية الامر كليا ولا تريد الانشغال به ضمن الحدود التركية، موظفة هذه المناورة في ادارة الصراعين الداخلي والخارجي.
-يحوي العراق على قرابة ملوني تركماني فضلا عن التركمان من اصول عراقية في تركيا، وترى تركيا مسؤوليتها عن هذا المكون او وجود رابط قومي يلزمها بالاطمئنان على مصالحهم او تحقيق مكتسبات لهم. فمحور علاقاتها مندفع بالدرجة الاساس بهذه المهمة.
-في تحليل آخر يرى ان تركيا توظف الورقة التركمانية في العراقية ( ليس من منطلق المصالح التركمانية) بل للابتزاز والحصول على مغانم ضمن مساومات فواتير حساب العلاقات، لذا فان هذه العلاقة ضرورية للعبها هذا الدور.
-يشترك العراق وتركيا في الموارد المائية، وتعد تركيا المصدر الاساس لمياه العراق، لذا فانها تريد تنظيم موضوعي للاستفادة المائية يخرجها من الالتزامات الدولية بشكل مقبول من جهة، ويضمن لها استفادة اكبر من مياهها من جهة اخرى.
-ان تركيا اوردغان تعمل من اجل صولجان عثماني للغالبية المسلمة وهم السنة، لذا فان محور علاقتها ربط سنة العراق في دائرة مصالحها ومحورتهم حولها من منطق كونها الراعي لمصالحهم، كما ان هناك وجه آخر لهذا التفسير يرى رغبة تركيا بتوظيف الورقة السنية ليس لصالح السنة حقيقة وانما لابتزاز العراق باكبر قدر ممكن من المغانم.
-تقوم تركيا بالنيابة عن اكثر من طرف دولي في ادارة بعض علاقاتها الخارجية، لذا فانها تسعى لعزل العراق مما يسمى بالهلال الشيعي، بحيث توظف اوراقها من الماء الى التجارة مرورا بالتركمان والانحياز المذهبي، لتطويق العراق وعزله عن الامتداد الايراني وتأثيره، وهي رغبة اسرائيلية وامريكية وخليجية واوربية بل وربما روسية.
-ترى تركيا في نفسها احد اهم اللاعبين الكبار في المنطقة فيما يتعلق برسم كل الترتيبات المتعلقة باسواق الطاقة ومرتكزات الامن وطرق المواصلات واشكاليات المكونات والتوجهات الآيدلوجية، وان جيبولتكها الممكن الاتساع ارضيته المناسبة في العراق وسوريا وبلاد تركمانستان، لذا فان وجود تركي عميق في العراق يمد الفضاء التركي بقدر يتناسب مع حجم الطموحات الاوردغانية بل عموم المنظور التركي، وهو ما يرفع من نقاط قوتها ويؤهلها للعبة التوازنات في المنطقة مع اللاعبين الكبار.
-ان تركيا تسعى لضمان وضع عراقي لا ينتج دولة كردية ستقتطع اكراد تركيا بشكل ضروري وبالتالي تضاعف من تحديات الامن فيها، خصوصا اذا حصلت تلك الدولة على اعتراف دولي وهو امر متوقع اذا وصلت الارادات الدولية لتحقق اوانها، كما ان هناك رأي يقابل هذه الرأي يرى ان تركيا تهدف الى اضعاف الوضع العراقي من قرب من خلال التدخلات المدروسة وتصعيد حجم الازمة فيه، لدرجة ان تكون مشجعة على انفصال كردي في دولة مستقلة يقتطع معه كركوك، لكن في سيناريو تكون تلك الدولة الكردية حليف مطيع للكبير التركي من خلال عمليات معقدة من التسويات يديرها مع تركيا حلفاء في الظل، وبهذا يتم تحقيق اكثر مت هدف لاكثر من طرف.
ختاما لا بد من التاكيد ان ضرورات الجغرافية والتاريخ ومتطلبات الامن والسياسية تقتضي علاقات متطورة ومتوازنة مع تركيا، وان سقوف الارادة التركية ليست قدرا محتوما لا بد من وقوعه، بل ينبغي ان يجابه بقائمة قوية اسمها الارادة العراقية، وهي قضية لا تتحقق إلا بعد انجاز الاتي:
-سحب ذرائع التدخل الخارجي بحجة دعم مصالح المكونات من خلال تحقيق عدالة عميقة ينعم بها الجميع من خلال ارادة وطنية.
-تفاهم صريح وعميق وتسويات شجاعة لمتطلبات العلاقة بين المركز والاقليم.
-سياسة خارجية موحدة وواضحة بمعالم مصالح عراقية مشخصة تدعمها جبهة من الوفاق الداخلي.
-اجراء ترتيبات واضحة ومكتوبة واستراتيجية بعد مفاوضات كفوءة لملفات الماء وحزب العمال والتواجد التركي.
-استخدام ذكي لورقة الاقتصاد والاستثمار.
-ترصين شبكة العلاقات المعادلة والموازنة في اطار فهم عميق لمتطلبات المصالح.
ارجو ان تكون هذه الورقة مفتاحا لعمل جاد يضمن مصالح بلدي واهلي.