بقلم: كلود أبو شقرا
مع أنها كانت مقرّ بطريرك كنيسة المشرق وبعد ذلك مقر بطريركية السريان الأرثوذكس الذي تعاقب عليه بطاركة سريان، دفن بعضهم في كنيسة القديسة ماري، حيث توجد عظام القديسين توما ويعقوب السروجي.، إلا أن الوجود المسيحي في ديار بكر اليوم تواجهه تحديات تهدد كيانه ليس أقلها الاضطهاد والتهديد والاعتداء والقلق المستمرّ على المصير… إلى درجة أن رجال الدين المسيحيين يتجولون في المدينة بملابس مدنية خشية تعرضهم للاعتداء، وأن الطلاب المسيحيين في المدارس يتعرضون للاذلال، ولا يرتقي المسيحيون في وظائف الدولة إلى مراتب عالية، وتتعرض الكنائس للهجوم باستمرار، في كل مرة يصدر في الغرب ما يسيء إلى الإسلام والمسلمين، كما حدث بعد نشر رسوم مسيئة للنبي محمد في الدانمارك ومنع سويسرا تشييد منارات للمساجد فيها.
ومع أن تركيا تتبع في السنوات الأخيرة سياسة الانفتاح بهدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وقامت بمبادرات في مدينة ديار بكر تحديداً، أبرزها إعادة فتح كنائس فيها، إلا أن ذلك لم يخفف من وطأة القلق الذي يرافق المسيحيين في حلهم وترحالهم.
مستقبل غامض
يتعرض الكهنة في ديار بكر إلى تهديد مستمر ورغم وضع كاميرات مراقبة حول الكنائس إلا أن ذلك لم يردع مجموعات متطرفة من انتهاك حرمة الكنائس وتهديد القيمين عليها بالقتل، وقد ازدادت الاحتياطات الأمنية بعض الشيء بعد الأحداث التي جرت في مدينة ملاطيا حيث ذُبح مبشرون أجانب (2007)، إلا أنها لم تؤمن حماية تامة للكنائس، ويتعرض المسيحيون لمضايقات وإذلال وينعتون بالكفرة، وهم يقيمون صلواتهم بجو من الخوف والترقب… فغادر كثر منهم إلى أوروبا، واحتلوا أعلى المراكز فيها وتولى أحدم من بلدة ميدياط منصب وزير للتعليم في السويد…
السريان في تركيا أقلية غير معترف بها، ويدين أغلبهم بالأرثوذكسية السريانية، ويقطنون، تبعاً لذلك، في مناطق قريبة من الحدود السورية، لا سيما في ماردين، نصيبين، ميديات، سافور، قيلليت، إيديل وديار بكر. غير أن معظمهم هاجر إلى إسطنبول، حيث يقدر عدد القاطنين منهم فيها حوالى 20 ألفًا. يتحدث السريان الأتراك اللغة السريانية، ولهجات أخرى مشتقة من اللغة الآرامية.
أما الكلدان، فيقارب عددهم العشرة آلاف نسمة، يقطنون المناطق المحاذية للحدود السورية – العراقيـة في تركيا، لا سيما في ماردين (مدينتا ايديل وسيلوبي)، حقّاري (مدينتا أولوديري وبيت الشباب)، سعرت (مدينتـا برفاري وشيرناك)، ديار بكر، ميديات واسطنبول، يتحدثون اللغة الكلدانية ويتبعون الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فيما توجد مطرانيتهم في إسطنبول وبطريركهم الأكبر في الموصل في العراق.
كان بناء الكنائس ممنوعاً في تركيا حتى 2007، فاستفاد المسيحيون من سماح السلطات بترميم كنائسهم، وباشروا العمل فيها، فدشنت أول كنيسة في ديار بكر في 22 تشرين الأول 2011 وهي كنيسة القديس كيراكوس في ديار بكر بعد توقف دام 30 عاماً، وذلك بحضور لفيف من الكهنة والمطارنة وثلاثة آلاق من الحجاج الأرمن أتوا من دول عدة. ترأس القداس بطريرك الأرمن في اسطنبول آرام أتيشيان.
تعتبر كنيسة القديس كيراكوس أكبر كنيسة أرمنية في الشرق الأوسط، وقد نفذت أعمال الترميم بجهود بلدية ديار بكر والأرمن، استخدمها الألمان في الحرب العالمية الأولى كمركز عسكري ثم كمخزن للذخائر. بعد التدشين تمت مراسم عمادة مسلمين سنة من أصول أرمنية اعتنق أجدادهم الإسلام قسراً بعد مجازر 1915.
في خطوة هي الأولى من نوعها، أطلق المجلس البلدي في ديار بكر أسماء كتّاب أرمن وسريان على شوارع فيها من بينهم: الكاتب الأرمني مايجرديك ماركوسيان، الكاتبان السريانيان بالاك ونعوم فائق. ساهم ماركوسيان في التعريف بديار بكر في كتبه وكان عضواً في الطائفة الأرمنية في ديار بكر ويمثل ميراثاً ثقافياً مختلفاً. أما بالاك فأحد الأسماء المهمة في الأدب، ونعوم فائق أحد أبرز الشعراء.
تأتي هذه الخطوة، بحسب المجلس البلدي، لتعزيز القيم في ديار بكر على نحو يدل على الانسجام السلمي لمختلف الثقافات والهويات والأديان الموجودة فيها، والحاجة إلى السلام والديمقراطية والإخاء.
آمد المسيحية
ديار بكر Diyarbakır إحدى أكبر المدن في جنوب شرق تركيا، تقع على ضفااف نهر دجلة، وهي العاصمة الإدارية لمحافظة ديار بكر، يبلغ عدد سكانها حوالى 850 ألف نسمة وتعدّ ثاني أكبر مدينة في منطقة الأناضول في جنوب شرق تركيا بعد غازي عنتاب (Gaziantep).
بعد الفتوحات العربية في القرن السابع الميلادي، احتلت قبيلة بكر العربية هذه المنطقة، فأصبحت تعرف باسم ديار بكر Diyar Bakr (ديار قبيلة بكر)، وفي عام 1937 زار أتاتورك هذه المدينة وأمر باستبدال اسمها ليصبح Diyarbakır أي أرض النحاس.
يحيط ديار بكر القديمة سورعالٍ من البازلت الأسود (يبلغ طوله 5.5 كم) ، وهو ثاني أكبر سور في العالم بعد سور الصين العظيم، وأربعة أبواب و82 برجاً بنيت جميعها في العصور القديمة.
جاء في معجم البلدان: “ديار بكر هي بلاد كبيرة واسعة تنسب إلى بكر ابن وائل، وحدّها ما غرب الدجلة إلى بلاد الجبل المطلّ على نصيبين إلى دجلة، ومنه حصن كيفا وآمد وميافرقين، وقد يتجاوز دجلة إلى سعرت وحيزان وحيني وما تخلل ذلك من البلاد ولا يتجاوز السهل”.
عرفت آمد المسيحية منذ القرون الأولى، وينسب التقليد تبشيرها إلى الرسولين توما وتداوس، وفي القرن السادس كانت أسقفية تابعة لكرسي نصيبين المطرابوليطي، بعدئذ لكرسي ميافرقين. وكانت مقر البطاركة المتحدين مع روما في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وأضحت رئاسة أسقفية مستقلة في بداية القرن السابع عشر، واستمرت كذلك حتى الربع الأول من القرن العشرين حيث أعيدت من جديد ككرسي مطرابوإيطي سنة 1965 ومقره في اسطنبول.
البطاركة الكاثوليك الذين سكنوا آمد: يوحنا سولاقا (1553-1555)، عبد يشوع الرابع مارون (1555-1567)، يوسف الأول (1681-1691)، يوسف الثاني آل معروف (1696- 1712)، يوسف الثالث (1713-1757). وفي سنة 1729 حصل وكيل الكلدان في العاصمة العثمانية من الباب العالي على نوع من الاتفاقية تكون بموجبها الموصل وحلب للنساطرة ودياربكر وماردين للكلدان.
من أبرز الكنائس في ديار بكر: كنيسة ماريمآنا ـ مريم آنا، العريقة والمعروفة في التاريخ، وقد أعيد ترميمها في السنوات الأخيرة، تضم مكتبة تحتوي على المخطوطات المحفوظة في هذه الكنيسة، ضريح الشاعر السرياني الكبير المعروف مار يعقوب السروجي، والعلاّمة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي، والبطريرك يوحنا ابن عبدون وغيرهم، وتحتفظ بجزء من خشبة الصليب الذي اكتشفته القديسة السريانية هيلانة والدة الملك قسطنطين. كذلك تضم أكبر لوحة تمثل مار بهنام بملابس الفارس، مع الصولجان، ولوحات: استشهاد مار يعقوب، مار افرام، مريم العذراء بين اسقفين.
مجازر ديار بكر
تعرّض السريان والكلدان والآشوريون والأرمن وغيرهم من المسيحيين لمجازر لطحت سمعة تركيا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، ذهب ضحيتها أكثر من مليون شخص من بينهم مئة ألف سرياني، وبسبب هذا الوضع ترك السريان وغير السريان تركيا ، واتجهوا إلى دول أخرى في المنطقة ومنهم مَن استقر في بلاد الاغتراب، فهُجرت كنائسهم ومعابدهم ومدارسهم وأديرتهم، وضعفت الأبرشيات السريانية مثل: خربوط، دياربكر، ملاطية، أديمان، كذلك ماردين ومديات والقرى المحيطة بهما، أما الرها مدينة امار أفرام السرياني فغادر أهلها في يوم واحد وتركوا وراءهم التراث الملتصق بتاريخها، واتجهوا إلى مدينة حلب واستقروا في حي السريان.
يحفل أرشيف وزارات الخارجية في الدول الأوروبية، لا سيما البريطانية والفرنسية، بمعلومات حول إبادة الشعب السرياني، ومعاناة هذه المجموعات في جنوب شرقي تركيا من آلام ومتاعب.
حدثت المجازر في ولاية ديار بكرعلى مرحلتين: الأولى بين عامي 1894-1896، بدأت من الجامع الرئيس بالمدينة، وانتقلت بعدها إلى السوق الرئيس فقتل المسيحيون فيه، ونهبت المتاجر من ثم أحرق السوق بأكمله. بعد ذلك بدأت عمليات الإبادة، فشنَّ الأتراك هجوماً على بيوت المسيحيين بيتا بيتا بطريقة منظمة، وقتل الرجال والنساء والأطفال وخطفت الفتيات، فقاوم المسيحيون بالأسلحة القليلة التي كانت بحوزتهم، وتجمعوا في الحارات الضيقة، واستقبل دير الآباء الكبوشيون في المدينة أكثر من ثلاثة آلاف مسيحي ، واحتمى حوالي 1500 بالقنصلية الفرنسية.
نجا مسيحيون من عمليات القتل بإعلان إسلامهم تحت تهديد السلاح، وبحسب روايات معاصرة فقد تحول حوالى 25 ألف أرمني إلى الإسلام خلال هذه المجازر، وعاد كثر منهم إلى المسيحية بعد انتهاء فترة الاضطهاد وعادوا إلى قراهم.
تختلف الرواية الرسمية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية إلى حد بعيد عن رواية المؤرخين ومعاصري الأحداث، فيذكر البطريرك إغناطيوس أفرام الأول برصوم في تأريخه للأحداث في أربعينيات القرن العشرين، أن إغناطيوس عبد المسيح الثاني دخل المدينة لدى سماعه أخبار قتل الأرمن وأرسل برقية إلى السلطان يدعوه فيها إلى حماية السريان، ويشبه الكنيسة بفلك نوح الذي خلص المؤمنين.
بينما يذكر القس إسحاق أرملة أن البطريرك بعث رسولا إلى الوالي، غير أنه قتل ولكن الرسالة وصلت إلى الوالي الذي دعا البطريرك إلى مقابلته، فعبر البطريرك المدينة على جثث المسيحيين التي امتلأت بها الشوارع، وبعد مقابلته للوالي دعاه الأخير إلى اللجوء مع اتباعه إلى كنيسة السريان الرئيسية بالمدينة، فمضى البطريرك إليها.
جاءت أحداث 1894-1896 لدى خروج نحو أربعة آلاف أرمني في ولاية بدليس عن طاعة العثمانيين بعدما تأخر الإصلاح الذي وعد به السلطان عبد الحميد الثاني بحسب بنود مؤتمر برلين، فرد العثمانيون بإرسال الجيش بدعم من الخيالة الحميدية وبعض الزعماء المحليين الأكراد. وبعد اشتباك مع المتمردين الأرمن انتهى بقتلهم، نزل الأكراد إلى القرى الأرمنية بالقرب من سيلوان وارتكبوا مجازر فيها وأحرقوا القرى المسيحية وراح ضحيتها أكثر من 7500 شخص. بحلول أيلول وصلت الفوضى إلى القسطنطينية، فوقعت مذابح في الأحياء المسيحية بالمدينة، وزاد الضغط الخارجي على السلطان الذي خضع في النهاية لمطالب الدول الأوروبية وأصدر فرمانا بالإصلاحات في كانون الأول 1895.
المرحلة الثانية من المجازر وقعت في تموز وآب 1915 نتيجة إعلان روسيا الحرب على العثمانيين، فراح الاتراك يسوقون المسيحيين إلى السخرة ويطلبون منهم مساعدات وتبرعات تفوق طاقتهم. وصدر فرمان بالحرب والاضطهاد بإذن من السلطة ضد المسيحيين، فوضعت إشارات وعلامات على ابواب الكنائس.
في 21 آب نشبت النار في أسواق ديار بكر التابعة للمسيحيينن، وكان الاتراك كل يوم احد يقصدون الكنائس ويسوقون الرجال الى الحرب، ويجمعون القمح والحنطة من المسيحيين، ويقتلونهم وينكلون بهم ويمارسون ضدهم أشد أنواع التنكيل والعذاب
كان من بين المسلمين رجال رفيعو الإخلاق من بينهم رجل يدعى حجّي مصطفى، فقال للمسيحيين إن حياتي فداء لحياتكم وساعدهم كثيراً. بعدما هدأت الحرب قليلاً وضعفت قوة المملكة العثمانية أوقفت اضطهاد المسيحيين. وسمحت لبعض أهالي قره باش بالعودة الى قريتهم، إلا أنهم فوجئوا بأن الحكومة اسكنت مسلمين مهاجرين من بلغاريا في بيوتهم.
*********
كلام الصور
1- معالم في مدينة ديار بكر
2- كنيسة كيراكوس
3- لوحة مار بهنام في كنيسة مريمانة للسريان الأرثوذكس
4- لوحة استشهاد مار يعقوب في كنيسة مريمانة للسريان الأرثوذكس
5- لوحة مار افرام في كنيسة مريمانة للسريان الأرثوذكس
6- لوحة مريم العذراء بين اسقفين في كنيسة مريمانة للسريان الأرثوذكس
7- نعوم فائق