قبل (29) سنة من الآن، أصبح العالم والعراقيون على مفاجأة من العيار الثقيل، حيث قرر صدام احتلال الكويت، فاندفعت القوات ليلا، ودخلت الى قلب العاصمة في ظل مقاومة محدودة، وهو امر طبيعي يتناسب مع قدرات دولة الكويت آنذاك.
وقد عبرت الاسرة الحاكمة ومعظم الكويتيين الى السعودية ثم نزح المعظم الى اكثر من جهة، وبعد فبركة بيان باسم المعارضة الكويتية، تم الاعلان ان ( الفرع عاد الى الاصل ورجعت المحافظة التاسعة عشرة)، ثم تبع ذلك عملية نهب منظم لكل شيء في الكويت، وبعد اكثر من خمسة اشهر من جدل عربي وعالمي هو الاوسع والاعقد في زمانه، انحاز معظم العالم لصالح الكويت وتم استقدام القوات الامريكية وحلفائها وبموافقة خليجية واجبر العراق على الخروج بعد عدم الاستجابة للانذار العالمي، وخرجت القوات على اثر معركة خاسرة، حرق صدام قبل خروجه اكثر من بئر نفطي.
ثم انتهت الامور بما يسمى باتفاق خيمة صفوان التي ما زال جانب منها غير معروف، ووضع العراق تحت البند السابع وحظر الطيران، وانتهت الامور بعد انسحاب القوات عبر البصرة بانفجار الاوضاع لتكون الانتفاضة الشعبانية في آذار والتي لها حكاية لوحدها، وقد اجهض الامريكان هذه الانتفاضة لاسباب يطول شرحها، وعاد صدام ليحكم العراق من جديد في ظل قرارات وعقوبات ما زال العراق يرزح تحت بعضها، وعاش العراقيون فترة حصار تعد من اسوأ الفترات في حياتهم، وتوالت التداعيات لحين ختامها في نيسان 2003، وفي هذه المناسبة اود الاشارة الى الآتي:
-على رغم اهمية هذا الحدث وحجم التداعيات المحلية والاقليمية والدولية، فهو بلا مبالغة كان حدثا مفصليا في حياة العرب والمنطقة والعراق بل والعالم، بكل ما حمل من تداعيات واسرار وتشابك معقد، إلا انه لم يحظَ بتغطية علمية عميقة وحقيقية ولو بعد سنين، ولم يكشف النقاب عن ما ورائياته وابطاله وضحاياه والظروف التي دفعت به وله والاسرار المتعلقة بفصوله، وظلت الخلفية الآيدلوجية وموقف الـ مع والضد هو المحرك للمنتج البسيط الذي تناول هذا الحدث المهم والعالمي.
-مهما قيل عن الاسباب التي اقنعت صدام بغزو الكويت ، فإن حسابًا منطقيًا يتعلق بادراكه لكلفة الحرب وهو الذي عرفها خاسرة بعد ان ذاقها شرسة لاكثر من ثماني سنوات، والتفاته لاهمية الكويت موقعا ودولة، يشير بوضوح إلا ان هناك اطراف (محلية واقليمية ودولية) لها صلة مباشرة او غير مباشرة بقرار الغزو، وربما هناك اتفاقيات مبدئية تم الحديث عنها بخصوصه، الامر الذي يحتاج لكشف النقاب عن هذه الصفحة.
-ان الوقائع كشفت بما لا جدال فيه،ان الحديث عن مؤسسات قرار او اي وجود لاطراف وجهات لها ادنى قدرة لبيان رأيها او موقفها من الامور المهمة والخطيرة في عراق ما قبل 2003، مجرد وهم لا صحة له، فالحقيقة ان هناك شخصًا واحدًا وصوتًا واحدًا ، لذلك لم ينل هذا الامر الخطير اية مناقشات ولا مشاورات ولا حساب كلفة، وقد كان مفاجئا لحلقات متقدمة من قيادة الدولة آنذاك، كما انه اثبت بشكل مخيف ومفزع سيطرة الحاكم على مقادير الشعب بطريقة اماتت كل ارادته واصبح قادرا علىدفعه للحروب بدون ادنى قلق او تردد.
-لقد اظهر تصرف الكثير ممن دخلوا الكويت بعناوين مختلفة، سلوكا مشينا في الرغبة للنهب والاستيلاء حتى على ممتلكات الناس الخاصة فضلا عن ممتلكات الدولة، وتشكلت سوق وبضاعة لما تم اخذه من الكويت بدون اي مسوغ ، وهي حالة سبق وان تم تسجيلها في مواقف اخرى تحتاج الى وقوف عميق وقراءة سايكولوجية لتحليل هذا الانزلاق الخاطئ والخطير في مثل هذا التصرف، ويحتاج الى اعادة النظر في منظومات الضبط النفسية والاخلاقية والقانونية.
-كان عناد صدام واصراره على البقاء في الكويت رغم ادراكه القطعي انها معركة خاسرة، هو الاخر يكشف عن استمرار دور من التحريض والاغراء الذي ساعدته ارضية صدام المستجيبة لمثل هذا النوع من التحدي، الامر الذي جاء بنتائج كارثية ومدمرة.
-ان ما سمي بـ (اتفاق خيمة صفوان) لم يكن مجرد تسوية عسكرية في اطار هدنة حرب، ولم يتوقف عند حدود متعلقات غزو الكويت، بل هو عملية مقننة اخرجت العراق بشكل منظم من ساحة التأثير الاقليمي والدولي، وكانت مشروع تفتيت تدريجي للدولة معلوم النهاية والنتائج، وقد قبل به صدام مقابل الاحتفاظ بالسلطة مراهنا في داخله على قدرته على مراوغة وخداع الطرف الآخر، الامر الذيكشفت الايام زيفه، وكانت بنى الدولة تتهاوى تدريجيا واولها السيادة.
-لقد مارست المؤسسة الدولية والمتمثلة بمجلس الامن تعسفا كبيرا في معاملة العراق بعد عام 1990 وطبقت حزمًا من القرارات والاجراءات لم تتخذها بشأن اي حالة سابقة ولاحقة، وكان كل هذا مدفوع ومدعوم من نفس الجهات التي دفعت بشكل منظم نحو اخراج العراق من دائرة التاريخ والجغرافية، كما ان تعسفا غير مبرر تمت ممارسته ضد الشعب العراقي الاعزل، وان هناك اطرافًا وحكومات ودولاً تورطت في هذه الحرب المنظمة على العراق من الضروري ان يتم فتح بعض ملفاتها لتحميلها المسؤوليات والتبعات بل وحتى التعويضات وهو امر يحتاج جهدًا كبيرًا من الخارجية العراقية.
-على الرغم من وجود تيارات متطرفة داخل الكويت وخارجه ساهمت وتساهم في تعقيد مسار العلاقة العراقية- الكويتية، ومع حجم التعويضات التي لا يزال العراق يدفعها جراء ذلك الغزو، فإن طريقة ادارة هذا الملف لا تزال قاصرة مع التقدم الذي حققته العلاقة، وان نحوًا من مكاشفة صريحة وتفكير مشترك بصوت مرتفع لا بد ان يكون بين الدولتين، كما ان هناك دورا مهما لا بد ان تلعبه الدبلوماسية الشعبية ، وهو تحدٍ اذا تم تجاوزه سوف تتقدم الامور اضعاف ما تقدمه الدبلوماسية الرسمية.
-ان حدث الكويت وما تبعه من تداعيات اعاد النظر في الكثير من وجهات النظر المستقرة في الوجدان العراقي خصوصا في ما يتعلق بالمعارضة وتوجهاتها آنذاك والموقف من السلطة وحقيقة هيبتها وسطوتها.
-بشكل محايث لتداعيات غزو الكويت وآثاره تأسس مشروع وطني عراقي (سياسي ثقافي ديني) يتيم ، امتد من عام 1991-2003 ، مثل قطيعة لكل التوجهات المعارضة التي شهدها العراق قبل هذا التاريخ، واشتغل هذا المشروع بادوات محدودة على الهم العراقي بشكل مباشر ، لكنه لم يستطع في النهاية ان يبلور صيغة متكاملة تكون البديل بعد سقوط النظام، لذلك لم يكن له حضور حقيقي بعد نيسان 2003 وعادت الوجودات التقليدية القديمة لتشكل المشهد بثوابتها الخاصة، وهو ما خلق شرخا خفيا سمي بعراقي الداخل والخارج.
-ان غزو الكويت لم ينته عند خيمة صفوان، وان هذا الحدث المهم كان ولا يزال يغذي بتداعياته الاصلية والفرعية وامتداداته المباشرة وغير المباشرة، كل الوقائع التي جرت بعده في المنطقة، وهو على صلة وثيقة بمجريات الصراع التي تشهدها منطقة الخليج، كما ان له حصة حتى في تشكل الارهاب وتداعياته، وهو حدث اوسع مما يتصور الكثير، لذلك لا بد ان يعاد النظر في كل مجرياته على هذا الاساس.