فلسفة المسيحيّة في فينومينولوجيا الحياة عند ميشال هنري

د.  باسكال تابت

أسّس ميشال هنري فلسفة لا تقوم على إيديولوجيّات بل تقوم على الذاتيّة الحيّة، على الحياة عينها، انطلاقًا من الفينومينولوجيا، أي المنهج الفلسفي الذي ظهر مع هوسرل Husserl في بدايات القرن العشرين. تهتمّ الفينومينولوجيا بكيفيّة ظهور الأشياء وتتساءل: “كيف يظهر لي هذا؟”، وذلك لأنّها تدرس علاقة الإنسان بالعالم وبالآخر وبجسده وبالله، أي إنّها تهتمّ بالمعيوش Le vécu.

تناول ميشال هنري في فلسفته مسائل عدّة، أبرزها الحياة، والجسد، والتجسّد، والفنّ، والأخلاق، والدين. وتجدر الإشارة إلى أنّه يربط كلّ هذه المسائل بالحياة. لقد شدّد في كتاباته على علاقة الفينومينولوجيا بالمسيحيّة، وهي علاقة وطيدة، عميقة، بل جوهريّة، سوف نتناولها في بحثنا هذا.

لا نستطيع أن نفهم هذه العلاقة إلّا انطلاقًا من فينومينولوجيا الحياة عند هنري الذي قام بقَلب فينومينولوجيا هوسرل Husserl ومبادئها، وذلك لأنّ هذا الأخير أهمل موضوع الفينومينولوجياL’objet de la phénoménologie الذي هو الظهور L’apparaître مُهتمًّا بالمنهج، فتحوّل هذا الموضوع إلى موضوع خاضعٍ للفكر، موضوع يتوجّه إليه الفكر لِيَملِكَه. هُنا، يكمن واقع الوعي في القصديّة Intentionnalité، أي أنّ هذا الوعي يتوجّه إلى موضوع في هذا العالم. فأزمة الفينومينولوجيا التاريخيّة هي بالتالي أزمة الظاهرانيّة Phénoménalité عينها، وذلك لأنّ ما يظهر لا يظهر إلّا في ضوء العالم، أي في الخارج. أمّا عند هنري فهذه الخارجانيّة ليست الحقيقة لأنّ هذه الأخيرة تكمن في الحياة، في عمقها. وليس المقصود بالحياة هنا الحياة البيولوجيّة، فالحياة لا يراها أحدٌ في المختبرات، وذلك لأنّها “داخلانيّة جذريّة” “Immanence radicale”[1] . يكتب هنري في هذا الإطار: “تسكن الحياة داخل ذاتها. ليس لها خارج، ولا يقدّم أيّ وجه من وجوهها نفسه لتتمسّك به نظرة نظريّة أو حسيّة، ولا يعرض ذاته كموضوعِ فعلٍ مُعيّن. لَم يَرَ أحدٌ الحياة ولن يراها [أحدٌ] أبدًا. الحياة بُعدُ مُحايثة جذريّة (…). تشعر الحياة بذاتها، تختبر ذاتها. ليس على أنّها شيء يملك بالإضافة خاصيّة أن يشعر بذاته هذه، بل هاهنا جوهرها: إختبار الذات المَحض، فعلُ أن تشعر بذاتها. يكمن جوهر الحياة في التأثّر الذاتيّ”[2]. وهذه الحياة تولّد ذاتها بذاتها Auto-Engendrement وتُعطي ذاتها لذاتها Auto-donation، إنّها كشف ذاتيّ Auto-révélation.

في قلب “فينومينولوجيا الحياة الجذريّة” هذه يفسّر هنري المسيحيّة وذلك في كتابين أساسيّين C’est Moi la Vérité[3] وIncarnation[4]. إنّ جوهر الواقع في المسيحيّة هو الحياة، والله حياة بحسب يوحنّا الإنجيليّ. تلتقي المسيحيّة مع فينومينولوجيا الحياة في نقطة أساسيّة وهي أنّ إله المسيحيّة هو الحياة وهو العطاء الذاتيّ – لقد سبق وذكرنا أنّ الحياة تعطي ذاتها لذاتها بذاتها – وهذه الحياة هي تولّد ذاتيّ. يعرّف هنري الله قائلًا: “الله هو هذا الكشف المحض الذي لا يكشف شيئًا غير ذاته”[5]، فالـ “حياة تشكّل جوهر الله وتتماهى معه”[6]. إنّ المسألة التي تتناولها الفينومينولوجيا تبدو بوضوح في المسيحيّة، إنّها جوهر الظهور، والظهور مفهوم فينومينولوجيّ بامتياز. كشف الله عن ذاته وظهر من خلال المسيح المتجسّد الذي جاء ليخلّص العالم. يكتب يوحنّا في إنجيله: “والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده مجدًا من لدن الآب لابن وحيد ملؤه النعمة والحق” (يوحنّا 1: 14)، ويضيف: “إنّ الله ما رآه أحد قطّ الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يوحنّا 1: 18). ويقول يسوع عن نفسه: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة” (يوحنا 14: 6). نستنتج من هنا التماهي بين الحقيقة والحياة، فالحياة هي جوهر الحقيقة. وتجدر الإشارة إلى أنّه ليس ظهور المسيح في العالم، أي في الخارج، هو الذي كشف لنا أنّه ابن الله وأنّه الحقيقة، بل مجيئه من حضن الآب في عمليّة تَوَلُّد الحياة الذاتي الذي نجد فيه إنيّة جوهريّة فريدة Soi essentiel singulier تتأثّر بذاتها وتتلذّذ بذاتها و”تتألّم ذاتها” «Se souffrir soi-même»، وهذه الذات هي الحيّ الأوّل. هنا نجد علاقة، بحسب هنري، بين فينومينولوجيا الحياة ومضمون المسيحيّة الدوغمائيّ. الحياة في المسيحيّة هي الله، والحياة فينومينولوجيًّا تولّد ذاتها بذاتها، وهذه الحياة التي تولّد ذاتها بذاتها هي ما تسمّيه المسيحيّة الآب[7]. أمّا الحيّ الأوّل الذي تولّده الحياة في عمليّة تولّدها الذاتي على أنّه الإنيّة Ipséité الفينومينولوجيّة الفريدة، هو الابن المولود من الآب قبل الدهور والمساوي له في الجوهر. وإذا كان الابن كذلك فلأنّ ولادة الحياة الذاتيّة تولّد الحيّ الأوّل. تكشف الحياة عن ذاتها في إنيّة الحيّ الأوّل، أي في الكلمة Logos. ويشرح هنري ذلك قائلًا: “يكشف الآب عن ذاته ويختبر ذاته في الابن، كما يختبر الابن ذاته في الآب. الابن هو عاطفة الآب كما أنّ الآب هو عاطفة الابن بحسب داخلانيّتهما الفينومينولوجيّة المتبادَلَة التي يؤكّدها يوحنّا باستمرار والتي تصبح معقولة Intelligible في فينومينولوجيا الحياة الجذريّة – شرط أنّ الحياة في هذه الفينومينولوجيا هي التي تُظهِر نفسها بحسب راديكاليّتها”[8]. يذكّرنا قول ميشال هنري هذا بكتابات آباء الكنيسة وبما قاله اللاهوت عن علاقة الآب بالابن. نقرأ، على سبيل المثال، في كتاب السِّنكِسَار المارونيّ: “أمّا انبثاق هذه الأقانيم من بعضها فقد علّمتناه الكنيسة المقدّسة حيث تقول: إنّ الأقنوم الأوّل لا ينبثق من أقنوم آخر. وهو منذ الأزل يعرف ذاته معرفة جوهريّة. وهذا الإدراك هو الأقنوم الثاني المولود من الآب ويسمّى الابن. وهو إله لأنّ الوالد إله. فالآب منذ الأزل ولد ابنه ولا يزال حتّى الأبد والدًا له دون انقطاع. وليس في الوالد والمولود قَبليّة ولا بَعديّة. وهذان الأقنومان يحبّ كلٌّ منهما الآخر. وهذه المحبّة التي هي جوهر لا عَرَض هي الروح القدس الأقنوم الثالث المنبثق من الآب والابن. وهو مساوٍ لهما في كلّ شيء”[9]

لا يجب أن نفهم في عبارة “معقولة” عند هنري، أنّ هذا الكشف يتمّ من خلال الفاهمة Entendement، وذلك لأنّه، بحسب هنري، لا يمكن بلوغ واقع معيّن من دون أن يكون هذا الواقع ظاهرة Phénomène، أي إنّ ظاهرانيّته هي الطريق المؤدّي إليه. بالتالي لا يمكن بلوغ الله من دون أن يُظهِر ذاته لنا من خلال وحي، من خلال كشف. لذلك ينتقد ميشال هنري برهان القدّيس أنسلم st. Anselme على وجود الله، لأنّه يحاول بلوغ الله من خلال الفاهمة التي تريد أن تراه في ضوء الفكر، في حين أنّ الله لا يُرى. نستنتج من هذا أنّ الحقيقة التي تبشّر بها المسيحيّة ليست نظريّة : “ليس الفكر هو الذي ينقصنا لنبلغ وحي الله، بل على عكس ذلك، عندما يغيب الفكر لأنّ حقيقة العالم غائبة، يتمّ ما يتعلّق الأمر به: كشفُ الله الذاتيّ عن ذاته”[10].

يكتب هنري في مقدّمة كتابه Incarnation: “لا تملك المسيحيّة مفاهيم ملائمة لحقيقتها الأعلى، وذلك ليس بسبب فقرٍ على المستوى الفكري قد يكون خاصًّا [بالفكر] ويجعل من المسيحيّين الأوائل مفكّرين متلعثمين، عليهم أن يتعلّموا من الفلاسفة الحقيقيّين – الفلاسفة اليونانيّين! ولكن [ذلك يعود] إلى سبب أعمق جذريّة بكثير، وهو أنّ حقيقة المسيحيّة ليست متعلّقة بالفكر. وتكمن عبقريّة آباء الكنيسة(…) في هذا تحديدًا: فهم حقيقة المسيحيّة في طرحها الأشدّ إرباكًا، وهو التجسّد. ليست إثباتًا في الحقيقة – إثباتًا لا يزال إثبات فكرٍ أو على الأقلّ يقدّم ذاته لحكمه – بل في ما يفلت من كلّ فكر: في جسم، في جسد”[11]. يحدّد ميشال هنري الجسد فينومينولوجيًّا ويميّزه من الأجسام الماديّة[12]. يقول: “إنّ هوّة تفصل منذ البداية بين الأجسامَ الماديّة التي تملأ الكون وجسمِ كائن “متجسّد” كالإنسان من جهة أخرى”[13].ويضيف مميّزًا بين الجسم والجسد: “مُحدَّدٌ بكلّ ما يفتقر إليه الجسم، لا يمكن الجسد أن يتماهى معه، إنّه بالحريّ، وإذا أمكننا القول، نقيضه السديد. يتعارض الجسد والجسم كالإحساس واللاإحساس – ما يتمتّع بذاته من جهة والمادّة العمياء، المُعتمة والخامدة من جهة ثانية”[14]. وهذا التعارض جذريّ لأنّ جسدنا يختبر ذاته ويتألّم ويتحمّل ذاته ويتمتّع بذاته من خلال انطباعات تولد فيه باستمرار، لذلك فهو قادر أن يحسّ بالأجسام في حين أنّ هذه الأخيرة لا تحسّ به لأنّها لا تملك قدرة الإحساس بذاتها. وإذا أردنا أن نقول ذلك بطريقة أخرى انطلاقًا من فلسفة ميشال هنري، إنّ الجسم موجودٌ في العالم أي في الخارج أمّا الجسد فهو مرتبط بالحياة التي تشعر بذاتها وتحتضن ذاتها وتختبر ذاتها. يظهر الجسم في العالم أمّا الجسد فيبقى تأثريًّا، إنطباعيًّا وغير مرئي.

في المسيحيّة، صار الله جسدًا وكشف لنا عن ذاته. يقول هنري في هذا الصدد: “تجسّد الكلمة هو كشفه [لذاته]، مجيئه بيننا (…) إنّ الجسد عينه بما هو جسد هو كشفٌ”[15]. وعن جسد الكلمة يكتب هنري: “بحسب [يوحنّا] لا يأتي جسد الكلمة من طمي التراب بل من الكلمة عينه. لقد صار جسدًا من ذاته وفي ذاته وبذاته (…). في طمي التراب لا توجد إلّا أجسام ولا وجود لأيّ جسد. إنّ شيئًا مثل جسد لا يمكن أن يأتـي وهو لا يأتينا إلّا من الكلمة. منه، ومنه فقط، تأتي وتُفسَّر كلّ خصائص جسد – هذا الواقع قبل كلّ شيء، هذا الواقع الصغير، وهو أنّه دائمًا جسدُ أحدٍ ما، جسدي على سبيل المثال، بحيث أنّه يحمل في ذاته “أنا” منغمسة فيه ولا تملك مُتعَة أن تنفصل عنه، كما أنّها لا تملك القدرة على أن تنفصل عن ذاتها عينها –، أنّ هذا الجسد غير قابل للقسمة ولا للتقسيم، بما أنّه غير مكوّن من جسيمات ولا من ذرّات، بل من ملذّات ومن آلام، من جوع ومن عطش، من رغبة ومن تعب، من قوّة ومن فرح: الكثير من الانطباعات المَعيوشَة التي لم يوجد بعد أيّ انطباع منها في تنقيب تراب الأرض وفي حفر طبقات طينها”[16]. هكذا تظهر لنا “كلمة الحياة” أي يسوع المتجسّد الذي كشف لنا عن ذاته، الذي أتى إلى العالم وهو ليس من العالم، أي أنّه لا يمكن أن يظهر في العالم كمسيح. يوجد هنا مأزق فينومينولوجيّ بحسب هنري، وهو أنّ استحالة أن يظهر المسيح في العالم كمسيح أي ككلمة الآب لا تُلغي إمكانيّة أن يعرفه الإنسان وأن يبلغه كمسيح إلّا إذا بقينا نفهم الإنسان انطلاقًا من هذا العالم، ككائن موجود فيه. هنا، يُدخل هنري في الفينومينولوجيا تحديدًا جديدًا للإنسان مطبوعًا بحقيقة الظهور في المسيحيّة. لم يَعُد الإنسان هنا “أنا” متعالية، ولم يعُد حيوانًا عاقلًا كما حدّدته معظم الفلسفات ولا دازَين Dasein كما حدّده هايدغر Heidegger، والذي يشكّل القلق كيانه. لا يفهم ميشال هنري الإنسان إلّا من خلال المسيح في قلب فينومينولوجيا الحياة الجذريّة: “للحياة المعنى نفسه بالنسبة إلى الله وإلى المسيح وإلى الإنسان”[17]. تجد إنيّة الإنسان نفسها في قلب الحياة المطلقة، أي حياة الله، وتنبع منها. يكتب هنري في هذا الصدد: “لا تتأثّر الذات بذاتها إلّا لأنّ الحياة المطلقة تتأثّر بذاتها فيها”[18]، ويتحدّث عن “مُحايَثَة الحياة المُطلَقَة في كلّ حيّ”[19] الإنسان مولود من هذه الحياة وفيها، إنّه “إبنٌ”، وهذا هو التحديد الجديد الذي أتى به ميشال هنري في الفلسفة، وهو تحديد كان غريبًا عنها، خاصًّا باللاهوت المسيحي فقط. كلّ ذاتيّة هي ذاتيّة حيّة معطاة لذاتها في عطيّة الحياة الذاتيّة، وكلّ شيء فيها هو عمل الحياة، وبالتالي لا يوجد حيّ من دون الحياة La Vie – والمقصود بالحياة هنا هو الله. من هنا يعطي هنري الولادة أيضًا مفهومًا جديدًا، فهي لم تعد تعني المجيء إلى العالم، إلى الوجود، بل في الحياة. نحن جميعنا إذًا “أبناء الله”، أبناؤه “في الابن” «fils dans le Fils». يفسّر هنري في كتابه C’est Moi la Vérité – ما يمكن أن يصدم القارئ – عذريّة مريم على أنّها تعبير عن فكرة المسيحيّة الجوهريّة وهي أن “لا رجل هو ابن إنسان، ولا حتّى امرأة، ولكنّهم فقط [أبناء الله]”[20]. وبما أنّ الجميع هم أبناء الله، يعتبر هنري أنّ كلّ حياة مرتبطة بالجماعة الحيّة، لأنّ “جوهر كلّ جماعة هو الحياة، كلّ جماعة هي جماعة أحياء”[21].

إنطلاقًا من هنا، وفي ضوء المسيحيّة والحياة والبنوّة يقدّم هنري مفهومه للأخلاق. لقد سبق وذكرنا أنّه يميّز بين نوعين من الظهور، ظهور العالم أي الخارج وظهور الحياة، وأنّ ظهور الحياة قائم على الوحي، على كشف ذاتيّ. من هنا تُطرح مسألة الأخلاق والدين ضمن الحياة وفي قلبها فقط. تفهم المسيحيّة جوهر الأشياء: الله، الحياة، وتقول إنّ الله حياة، إنّه الحياة. فكلمة دين Religio تعني الرابط، العلاقة، الصلة، ولا صلة ولا علاقة إلاّ في قلب الحياة. الأخلاق هي الوسيلة من أجل عيش هذا الرابط، وأساس الأخلاق هو في الدين إذًا. الأخلاق هي الطُرُق التي يعيش فيها الإنسان حالة البنوّة. فإمّا أن ينسى الإنسان هذه الحالة، عندما تعتقد الأنا أنّها أصل قدراتها وأنّها تمتلكها بطريقة جذريّة، وأنّها أصل كيانها، وهذا وهم، إمّا أن يجدها من جديد إذا أضاعها أي أن يولد ثانيةً (في الحياة وليس في العالم). لا شيء يستطيع، بحسب هنري، أن يمنع الإنسان من أن يكون ابن الله.

تعمل الأخلاق لتجد هذه الحالة الضائعة: حالة الإبن في قلب الحياة المطلقة. أوّل عمل أخلاقي نستطيع أن نقوم به هو الذي قال به المسيح وهو أن نعمل إرادة الآب (متى 7، 2). فالأخلاق المسيحيّة هي إمكانيّة الولادة الثانية ليس في المعرفة بل في العمل، في الفعل، وهدف الأخلاق هو الولادة الثانية، إعادة ترميم الرابط الدينيّ. فالأخلاق تعمل في قلب الحياة وليس في ظاهر العالم، وذلك لأنّ الحياة هي “العين الكليّة الرؤية”[22]. يفسّر هنري نقد بولس للشريعة معتبرًا أنّ الشريعة خارجة عن الحياة، فلذا لا واقع لها وهي تبقى عاجزة. وضعت الشريعة الإنسان في وضع يرى فيها ما يجب أن يفعله من دون أن تقول له كيف يفعله، وهي تلعن كلّ من لا يطبّقها (روما 5: 20). لقد ألغى المسيح أخلاقاً قديمة وشريعة قديمة وحوّل موضوع النقاش من مجال الشريعة إلى مجال الحياة، إلى جوهرها المطلق: “إنّ أبي ما يزال يعمل، وأنا أعمل أيضًا يعمل وأنا أيضاً أعمل” (يوحنا 5: 17). لم تعد الأخلاق تكوّن مبدأ الحياة بل الحياة هي مبدأ الأخلاق وهي التي توصي. هنا، نجد هوّة بين الشريعة القديمة و”الشريعة” الجديدة، فـ”الشريعة” الجديدة أتمّت ما أوصت به، أي الحبّ. وذلك لأنّ الحياة حبّ، حبّ أزليّ يبدّد الأنانيّة والعلاقة الخارجيّة مع الذات. لا يدرس هنري الأخلاق لذاتها، كما درسها الكثير من الفلاسفة، بل همّه هو علاقتها بالدين وتموضعها في الحياة وهذه العلاقة لا يصبح لها وجود، بالفعل، إلاّ بالعمل. والعلاقة بالآخر حاسمة في مجال الأخلاق كما العلاقة بالله.

هكذا يتناول هنري في كتاباته مسألة الدين، وبالتحديد المسيحيّة، ويبيّن أنّها لا تتعارض مع الفلسفة إلّا إذا انطلقنا من الفلسفة في تحديدها الضيّق معتبرين أنّها لا تقوم إلى على عقلانيّة ضيّقة محدودة تُدرك الموضوعات Objets وتغيب عنها الحياة في عمقها اللامرئي، في عقلانيّتها الفائقة للمعرفة. يبيّن لنا ميشال هنري من خلال الفينومينولوجيا التي نجد فيها مصطلحات ومسائل ترد في لغتها بقدر ما ترد في لغة الللاهوت، كالظهور، والكشف، والوحي، إلخ، أنّ المسيحيّة تُدرَك بوجه أوسع من خلال فينومينولوجيا الحياة الجذريّة التي تُدخلنا في عمق الحياة المطلقة، حياة الله التي تجعلُنا أبناءه.

****

*  ميشال هنري Michel Henry (1922-2002) هو فيلسوف فرنسيّ ظواهريّ معاصر، اهتمّ بوجهٍ خاصّ بالفلسفة المسيحيّة.

*  الدكتورة باسكال تابت، متخصّصة في الفلسفة الغربيّة المعاصرة – الفينومينولوجيا. أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانيّة، وفي جامعة القدّيس يوسف، وجامعة الروح القدس – الكسليك، وفي الجامعة الأنطونيّة.

[1]   Michel Henry, «Qu’est-ce que cela que nous appelons la vie?», in De la phénoménologie, Tome I, Phénoménologie de la vie, Paris, PUF, coll. «Épiméthée», 2003, p. 41.

[2]   المرجع نفسه، ص. 47-49. ترجمة شخصيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ الترجمات الواردة في هذا النصّ هي شخصيّة.

[3]    Michel Henry, C’est Moi la Vérité. Pour une philosophie du christianisme, Paris, Seuil, 1996.

[4]    Michel Henry, Incarnation. Une philosophie de la chair, Paris, Seuil, 2000.

[5]    C’est Moi la Vérité, p. 37.

[6]   المرجع نفسه، ص. 40.

[7]   يكتب هنري في هذا الصدد: “هذه الحياة التي وحدها تملك قدرة أن تعطي لذاتِها عينِها الحياة، وبالتالي أن تعطيها لكلّ الأحياء. هذه الحياة الكليّة القدرة التي يسمّيها المسيح الآب”، Paroles du Christ, Paris, Seuil, 2002, p. 54.

[8]   Michel Henry, «Le christianisme: une approche phénoménologique?», in Phénoménologie de la vie, Tome IV, Sur l’éthique et la religion, Paris, PUF, coll. «Épiméthée»,  2004, p. 106.

[9]    السِّنكِسار بحسب طقس الكنيسة الإنطاكيّة المارونيّة، إعداد وتنسيق الأب بولس ضاهر، منشورات معهد الليتورجيّا في جامعة الروح القدس، الكسليك – لبنان، 1996، ص 386.

[10]  C’est Moi la Vérité, p. 39.

[11]  Incarnation, p. 16.

[12]        تجدر الإشارة هنا إلى أنّ مسألة الجسد نالت حيّزًا كبيرًا في الفينومينولوجيا منذ تمييز هوسرل بين Körper (الجسم) وLeib (الجسد)، ثمّ مع ميرلو-بونتي Maurice Merleau-Ponty وميشال هنري وجان-لوك ماريون Jean-Luc Marion، وغيرهم من الفلاسفة الظواهريّين. فالفينومينولوجيا أعادت للجسد مكانته التي كانت قد استلبتها منه الفلسفة منذ اليونانيّين – كما اللاهوت في العصور الوسطى حتّى المجمع الفاتيكانيّ الثاني.

[13]        Incarnation, p. 7.

[14]  المرجع نفسه، ص. 9.

[15] Incarnation, p. 24.

[16] المرجع نفسه، ص. 27.

[17]        C’est Moi la Vérité, p. 128.

[18] المرجع نفسه، ص. 136.

[19] Paroles du Christ, p. 54.. يكتب ميشال هنري في كتابه هذا: “ليس الإنسان سوى ابن الله. يكمُنُ أصله في الله وتأتي طبيعته من طبيعة الله. مولّدًا الإنسان كحَيّ، ومُعطيًا إيّاه حياة لا توجد إلّا فيه، لقد أعطاه الله بهذه الطريقة الطبيعة ذاتها التي هي طبيعته: [طبيعة] الحياة. هكذا صَنَع الله الإنسان على صورته ومثاله (سفر التكوين، 26)”، ص 55. نلاحظ هنا تأثّر ميشال هنري بإيكارت Maître Eckhart (1260-1328) – من أهمّ متصوّفي القرون الوسطى الذي سيء فهم طروحاته في عصره= =واتُّهم بالهرطقة، في حين أنّها تعبّر بعمق وبطريقة جديدة عن الحقيقة كما كُشِفَت لنا من خلال الكتاب المقدّس –، الذي تحدّث عن هذه البنوّة وعن اتّحاد عمق نفس الإنسان بعمق الله، وعن ولادة الله في نفس الإنسان و”تأليه” الإنسان.

[20] C’est Moi la Vérité, p. 91.

[21] Phénoménologie matérielle, Paris, PUF, «Épiméthée», 1990, p. 161.

[22] Michel Henry, «Éthique et religion dans une phénoménologie de la vie», in Phénoménologie de la vie, Tome IV, p. 61.

****

(*) مجلة المشرق الرقمية حزيران 2019.

اترك رد