نجوم العصر الفضي الروسي في قبو “الكلب الضّال”

كان الربع الأول من القرن العشرين في روسيا،  عصر ازدهار ثقافي مبهر، فقد برز خلال تلك الحقبة القصيرة عدد كبيرمن العباقرة في الأدب والفن والفلسفة والموسيقى والمسرح والباليه، الذين كانوا ينتمون الى اتجاهات حداثوية – تجريبية مختلفة،  تتنافس فيما بينها في صخب وكان القاسم المشترك لكل هؤلاء هو الاهتمام الشديد بالقضايا الروحية والاجتماعية،  والبحث المكثف عن وسائل جديدة للتعبير الفني .

وقد اصطلح على تسمية تلك الحقبة  بـ “العصر الفضي”، تمييزا له عن ”العصر الذهبي“ للأدب الروسي في القرن التاسع عشر، الذي يرمز الى ابداع الشعراء والكتّاب الروس الكبار ( الكسندر بوشكين،  ونيكولاي غوغول،  وفيودور دوستويفسكي، وليف تولستوي وايفان تورغينيف،  وأنطون تشيخوف).

boris akounin

بوريس بونين

كباريه “الكلب الضّال”

في ذروة العصر الفضي،  في أواخرعام 1911،  طرأت فكرة مدهشة في ذهن المخرج والممثل المسرحي الروسي بوريس بونين ( 1875-1946)،  وهي جمع نجوم الثقافة الروسية في العاصمة سان بطرسبورغ في مكان واحد ـ أشبه بالمقهى أو النادي الإبداعي – يقضون فيه أوقاتاً ممتعة بعيدا عن عيون المتطفلين،  يتبادلون خلالها وجهات النظر والآراء،  أو يقدمون نتاجاتهم الجديدة،  أو يشاهدون عروضا مسرحية،  أوموسيقية،  أوغنائية،  وغيرها من الفعاليات الثقافية .

وقد تحمس لفكرته بعض اصدقائه الفنانين والشعراء،  واخذوا يجوبون معا انحاء مدينة بطرسبورغ بحثا عن مكان ملائم لتأسيس المفهى المنشود،  ولكنهم لم يعثروا على منزل يصلح لهذا الغرض وعندما هدّهم التعب قال أحد الشعراء: “نحن أشبه بالكلاب الضالة التي تبحث لها عن مأوى”. وقد راقت العبارة لفنان تشكيلي وقال : “لنسمي مكان لقاءاتنا ” كباريه الكلب الضّال “. وقد عثروا في نهاية المطاف على قبو فارغ في فناء جانبي لإحدى العمارات في وسط المدينة،  وكان موقعا مثاليا،  من دون أية نوافذ على الشارع،  حيث لا يمكن للشرطة أن تلتفت الى الضجيج الصادر عنه .

كان القبو في السابق مخزنا للخمور،  وهواؤه مشبعا بروائح الخمور العتيقة،  مما الهب خيال الشعراء والفنانين الذين اسهموا في تأسيس المقهى.

وقد قام كل من الفنانين،  سيرغي سوديكين (1882-1946)،  ونيكولاي سابونوف (1880–1912) برسم لوحات فنية رائعة على جدران القبو : أجساد نسائية،  وأقنعة،  وزهور برية،  مستوحاة من قصائد “ازاهير الشر” لبودلير، وطيور خيالية،  وشخصيات حكايات كارلز غوتسي الكاتب والمسرحي الايطالي ( 1720-1806)،  ومؤلف مسرحيات خرافية،  باستخدام عناصر الفولكلور الايطالي. كانت هذه الرسوم الفنية تنقل الحاضرين الى عالم خيالي .

أصبح حفل افتتاح المقهى في ليلة رأس السنة الجديدة 1912،  الذي جمع بين عدد كبيرمن ابرز نجوم الادب والفن في العاصمة بطرسبورغ،  وحضره عدد من أعضاء مجلس الدوما (النواب)،  حدثا مشهودا في حياة بطرسبورغ الثقافية : الرجال في بدلات السموكنك،  والسيدات في فساتين السهرة ( الديكولتيه )،  تلتمع في اعناقهن قلادات ثمينة مرصعة بالأحجار الكريمة .

وكان سعر بطاقة الدخول الى مقهى”الكلب الضّال” ثلاث روبلات لمن لديه توصية خطية من احد اعضاء مجلس الادارة،  و25 روبلا للآخرين – وكان هذا مبلغا كبيراً نسبياً في ذلك الوقت،  ويعادل الراتب الشهري لموظف عادي، وذلك لتغطية نفقات الحفل،  ولمنع أي طارئ على الأدب والفن، أو فضولي من حضور حفل الافتتاح .

وضعت ادارة المقهى سجلا كبيرا مغلفا بالجلد الأزرق في المدخل يوقع عليه الحضورعند قدومهم، وقد يكتب فيه الشعراء آخر ما جادت به قرائحهم من أبيات شعرية .

لم يكن لـ “كباريه الكلب الضّال ” أية صلة بما تقدمه الكباريهات من عروض إثارة رخيصة ومبتذلة،  بل كان أقرب الى المقهى الأدبي والمسرح الفني معا،  ويتكون من قاعتين تتسعان لحوالي 200 شخص،  قاعة للمسرح واخرى للكافتيريا، و مفتوحا في الليل فقط من الساعة الحادية عشرة ليلا الى الثامنة صباحا،  وربما لهذا سماه صاحبه بالكباريه.

dostoyefsky

دوستويفسكي

فعاليات ادبية وفنية متنوعة

شهد المقهى خلال عمره القصير،  الذي لم يتجاوز ثلاث سنوات ونصف السنة،  حفلات تكريم الشعراء والفنانين،  وعروضا مسرحية رائدة،   ومعارض تشكيلية،  وحفلات موسيقية وغنائية،  ومحاضرات ادبية وفكرية،  واحتفالات رأس السنة الميلادية،  وحفلات تنكرية وراقصة،  ولقاءات مع كبار الشعراء الأجانب من زوار العاصمة بطرسبورغ .

القبو مليء بدخان السكائر والغليونات،  وهواؤه مشبع بروائح الخمور والعطور،  رغم وجود ساحبة هواء لا يسمع طنينها في صخب المقهى ولكن الجو كان ممتعا للغاية، الضحكات تتعالى،  وبين حين وآخر يصعد احد الشعراء على خشبة المسرح،  ليلقي قصيدة جديدة له،  فيعارضه في الحال شاعر بقصيدة ارتجالية .

هنا تفتحت مواهب شعراء شباب اصبحوا لاحقا مفخرة الأدب الروسي : آنّا أخماتوفا،  ونيكولاي غوميليف،   فلاديمير ماياكوفسكي،  وأوسيب ماندلشتام، وكان الشعراء  خليبنيكوف وأندريه بيليكونستانتين بالمونت،  ايغور سيفيريانين، والكاتبة والشاعرة زينائيدا غيبوس،  والكاتبة الكساندرا تافّي أيضاً،  من رواد المقهى الدائمين وقد لا يعني ذكر اسمائهم – باستثناء ماياكوفسكي،  وأخماتوفا،  وماندلشتام – شيئا للقارئ،  الذي ليس له اطلاع واسع على الأدب الروسي الكلاسيكي،  ولكنها اسماء كبيرة في عالم الأدب،  وفي ذاكرة القراء في روسيا،  حيث دخلت أعمالهم الأدبية الى المقررات الدراسية في المرحلة الثانوية،  والى المناهج الجامعية للتخصصات الأدبية واللغوية .

وكان للمقهى شعار رسمه فنان شهير من رواد المقهى،  ونشيد خاص كتبه الشاعر ميخائيل كوزمين (1872- 1936) تحت عنوان “لكي ننجو من النسيان” وذلك لمناسبة مرور عام واحد على تأسيس المقهى.

كان عمالقة المسرح الروسي يفغيني فاختانكوف،  فسيفولد ميرخولد،  الكساندر تاييروف،  يسهرون في هذا المقهى الى وقت متأخر من الليل،  بل أن بعض الأدباء كانوا يسهرون فيه حتى الصباح الباكر، ومنه يتوجهون الى اعمالهم أو منازلهم، ويخيل اليهم ان كل الحياة متركزة هنا،  في هذا المكان تحديداً، ولا توجد حياة أخرى يماثلها. واصبح المقهى البيت الاول للعديد من المبدعين.

akmatova

أنا اخماتوفا

محاضرات ادبية

وشهد المقهى القاء محاضرات لألمع النقاد والمفكرين، هنا القى فيكتور شكلوفسكي (1893 – 1984)،  رائد المدرسة الشكلانية في الأدب الروسي والعالمي – محاضرة تحت عنوان “  الآفاق المستقبلية لتأريخ اللغة “،  كما القى الشاعر سيرغي غوروديتسكي (1884 – 1967)  محاضرة عن تيار”الذروة” في الشعر الروسي،  صاغ فيها لأول مرة المبادئ النظرية لهذا التيار الصاعد،  الذي حل محل المدرسة الرمزية، وأعقبت المحاضرة مداخلات لأخماتوفا،  وغوميليف وشعراء آخرين .

وفي ابريل  1914 أقام المقهى أسبوع “الثقافة القفقازية” القى خلاله العديد من الأدباء الروس محاضرات عن زياراتهم الى منطقة القفقاز،  وانطباعاتهم عن ثقافات شعوب المنطقة، . وقد اقيم ضمن فعاليات الأسبوع معرض للمنمنمات الفارسية،  التي اقتناها أحد الأدباء في منطقة القفقاز .

Sklovsky

فيكتور شكلوفسكي

شعراء عالميون من زوار المقهى

وكان المقهى يستضيف كبار الأدباء الأجانب، عند زيارتهم لبطرسبورغ، فقد استضاف الشاعر الايطالي الشهير فيايب مارينيتي ( 1876- 1944)، الرائد المؤسس للمدرسة المستقبلية في الشعر، الذي القى محاضرة قيمة عن المستقبلية اثارت دهشة الحضور،  وترحيبهم،  وخاصة فلاديمير مايا كوفسكي الذي جلس يستمع الى استاذه الايطالي مذهولا، كما ألقى الشاعر الفرنسي،  بول فورت (1872-1960)،  محاضرة عن الشعر الفرنسي. وهذا الشاعر الذي يكاد يكون مجهولا للقارئ العربي،  تم اختياره –بعد استطلاع للرأي جرى عام 1912 – أميرا للشعراء الفرنسيين .

كما زار المقهى الشاعر البلجيكي ( فرنسي اللغة ) أميل فيرهارن ( 1855- 1916)،  والعديد من الأدباء الأوروبيين،  زوار العاصمة بطرسبورغ .

Emile_Verhaeren

أميل فيرهارن

قصص حب لا تنتهي

لم يقتصر هذا المقهى الابداعي على الذكور فقط،  فقد كان عدد لافت من الكاتبات والشواعر يحرصن على التردد الى هذا المقهى الابداعي، كما كان كثير من رواد المقهى يصطحبون معهم زوجاتهم أو صديقاتهم، وقد ولدت هنا،  والتهبت قصص حب لأشهر أدباء وفناني العصر الفضي،  بينهم فلاديمير ماياكوفسكي،  وأدت الى تغيير حيواتهم ومصائرهم، ومن الاحداث الدراماتيكية المرتبطة بتأريخ ” الكلب الضّال” ان الشاعر فسيفولد كنيازوف انتحر بعد خيبة امله في كسب ود فنانة أحبها الى حد الوله.

كانت هذه الحياة الفنية الساخنة جانبا واحدا من جوانب الحياة في القبو،  اما الجانب الآخر،  وربما الأهم،  فهو ذلك التحرر الروحي الذي ظل عالقا بذاكرة رواده طوال حياتهم .وكانوا يتذكرون القبو بحنين جارف ولوعة محرقة،  كما جاء في مذكراتهم الشخصية .

Osip Mandelstam

أوسيب ماندلشتام

آنّا أخماتوفا في مقهى “الكلب الضّال”

كانت آنّا أخماتوفا،  في الثالثة والعشرين من عمرها، إمرأة جذّابة،  وشاعرة رقيقة،  ذات موهبة عظيمة،  مفعمة بالأنوثة،  والبراءة،  والرومانسية، و نشرت قصائد تنم عن ولادة شاعرة واعدة وذاع صيتها،  حتى قبل ان تجمع قصائدها المنشورة في المجلات الأدبية المرموقة بين دفتي ديوان صدر في آذار عام 2012 تحت عنوان  “المساء”.

وكانت اخماتوفا وزوجها الشاعر نيكولاي غوميليف (1886-1921) يشكلان ثنائيا مبهراوكان الأخير ضابطاً في الحرس الإمبراطوري،  وشاعرا ذاع صيته وهو في مقتبل الشباب.

وكان كثير الأسفار،  يجوب البلدان التي تختلف ثقافتها كثيراً عن الثقافة الروسية،  فقد قضى فترة من الزمن في مجاهل افريقيا،  ونشر عنها بعض الكتب. أما أخماتوفا فقد كانت تسهر في هذا المقهى حتى الفجر بجوار الموقد شتاءً، شاحبة الوجه،  ترشف القهوة السوداء،  وتدخن سجائر نسائية رقيقة،  وترتدي تنورة حريرية سوداء ضيقة لتبدو– كما تقول في قصيدة لها مكرسة للقبو – أكثر رشاقةً، وتشد خصرها بحزام جلدي عريض،  وتجلس مع سيدات ذوات عيون وسيعة،  يرتدين قبعات عريضة الحوافي،  يحيط بهن جمهور من المعجبين بشعر أخماتوفا. كانت الشاعرة الشابة مرحة دائما،  تتعالى ضحكاتها في ارجاء القاعة،  فيقترب منها شاعر متمرس، ويطلب منها هامساً،  أن تخفض صوتها،  كما يليق بشاعرة معروفة، وعندما يطلبون منها القاء أبيات من شعرها،  يرتسم على وجهها تعبير جاد،  وتتوجه الى خشبة المسرح،  وتلقي ببراعة ممثلة مقتدرة،  شعرا حداثيا بإيقاعه الجميل وصوره المجازية المبتكرة .

كان هذا في زمن الازدهار الثقافي،  قبل النكبات التي حلت بروسيا في السنوات اللاحقة، ورغم ان الوضع السياسي كان مشحونا بنذير احداث عاصفة،  الا أن ذلك لم يمنع من مواصلة الحياة الابداعية الصاخبة في هذا المقهى الفريد من نوعه في روسيا والعالم، فقد كانت الأحلام الجميلة ما زالت ممكنة التحقيق،  وأصبحت اخماتوفا معبودة  الشعراء من مدرسة الذروة “الأكميزم” – الذين شكلوا تجمعا اطلقوا عليه اسم “ورشة الشعراء” بمبادرة من الشاعر غوميليف – وتثير قصائدها رغبات حسية دفينة وموجعة لدى الجيل الجديد، ولم يدر بخلدها في ذلك الحين،  ان المستقبل محمّل بالمصائب .

وفي هذا المقهى توثقت علاقة أخماتوفا بواحد من اعظم الشعراء الروس في القرن العشرين وهو أوسيب ماندلشتام (1891- 1938 )، ذات مرة عندما انهت اخماتوفا القاء قصيدتها صعد ماندلشتام الى خشبة المسرح،  وارتجل احدى روائعه التي يصف فيها الشاعرة الموهوبة آنّا وشالها الكلاسيكي (المزيف على حد تعبيره)،وبعد ايام كانا يتجولان في شوارع بطرسبورغ،  عندما دخلت آنّا الى كابينة التلفون،  وبعد ان انهت مكالمتها،  ارتجل ماندلشتام قصيدة في وصف جمالها،  وكيف تبدو وراء زجاج الكابينة وهي تتحدث في التلفون.

maykovisky[10]

فلاديمير ماياكوفسكي

فلاديمير ماياكوفسكي : اليكم يا من تحبون النساء والعربدة !

ظهر الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في “الكلب الضّال” لأول مرة في خريف عام 1913،  وكان عمره عشرين عاماً،  ولم يكن يرتدي قميصه الأصفر المخطط الشهير، بل بدلة عادية ويعتمر قبعة عالية .

هنا وعلى مسرح المقهى القى الشاعر الشاب قصيدته الطويلة الشهيرة “غيمة في بنطلون”. اثارت القصيدة هيجانا لم يسبق له مثيل، كانت اصوات الشجب والاستنكار تتعالى في ارجاء المقهى،  فطلب الكاتب الروائي ميخائيل فولكوفسكي – وكان شيخاً مهيباً بلحيته البيضاء الكثة – الكلام للتعقيب وقال: “انا عندكم هنا لأول مرة،  ولم التق بكم سابقا، لقد القى الشاعر الشاب قصيدة غير تقليدية، ولولا بعض الكلمات الخادشة في نهايتها لكانت قصيدة رائعة .هذا شعر جديد وأصيل،  وغير مألوف،  لذا فأنه أثار غضبكم ولكن مهلا،  إشاعر موهوب وستتعودون على مثل هذا الشعر، وكل جديد يثير لغطا في البداية لينتهي الى الاعتراف بموهبة شعرية أصيلة “.

ومع بداية الحرب العالمية الاولى،  واشتراك روسيا فيها كتب ماياكوفسكي قصائد تدين الحرب بكل صورها، وفي اوائل عام 1915، وفي ذروة الزمهرير الروسي، جاء ماياكوفسكي من الجبهة تواً – وكان قد استدعي للخدمة العسكرية الاجبارية – وحضر الى “الكلب الضّال” وطلب من بونين،  صاحب المقهى السماح له بالقاء قصيدة جديدة له بعنوان “اليكم” قائلا له : “دعني أتحرش بالبورجوازيين قليلا”.

وكان بونين من المعجبين بشعر ماياكوفسكي،  كما يقول في مذكراته عن القبووقف الشاعرالمثير للجدل على خشبة المسرح بقامته المديدة،  وألقى قصيدته الشهيرة “اليكم ” بصوته الجهوري، وكانت قصيدة هجاء لاذعة،  يسخر فيها من هؤلاء السادة الذين يعيشون في منازل مدفأة،  تتوافر فيها كل وسائل الراحة،  ويقضون اوقاتهم في المغامرات العاطفية،  والسكر والعربدة،  واكل ما لذ وطاب،  قي وقت تخوض فيه روسيا حربا دامية،  وتخسر كل يوم عددا من خيرة شبابها.

اثارت القصيدة غضبا عارما،  ونقاشات حامية داخل المقهى،  وانتقل النقاش في اليوم التالي الى احدى كبريات صحف بطرسبورغ “بيرزفوي فيدومستي”، وظهرت في الصحيفة مقالة وصفها بونين بأنها قذرة، مقالة تحريضية ضد المقهى،  بقلم صحفي كان يرتاد المقهى بانتظام،  ويسكر فيه أكثر من أي زائر آخر.

لفتت المقالة انتباه الشرطة،  التي دهمت المقهى،  ولم تجد فيه مخالفة تذكر،  سوى عدم الالتزام تماماً بالقرار الحكومي الذي صدر في اوائل الحرب بمنع تقديم الخمور في المطاعم والحانات والمقاهي،  حيث عثرت الشرطة على بعض القناني الفارغة تحت الأرائك،  فتم غلق المقهى في 3-3-1915 .

خلال الحرب العالمية الثانية تحول القبو الى ملجأ آمن من الطائرات الالمانية المغيرة وصادف وجود اخماتوفا خلال احدى الغارات بالقرب من القبو،  فلجأت اليه مع أناس آخرين ولا أحد يدري،  ما الذي كان يدور في خلد الشاعرة العظيمة في تلك الدقائق،  التي لجأت فيها الى المكان الذي شهد أجمل ايام حياتها. وقالت فيه قصائد مرحة، وتحدثت عنه في مذكراتها،  وفي قصيدتها الطويلة “ملحمة بلا بطل” .

 استغلال اسم “الكلب الضّال” تجارياً

اما اليوم فإن البعض يحاول استغلال اسم وشهرة “الكلب الضّال” تجاريا،  فقد تم اعادة ترميم وتجميل القبو،  ليس من اجل تأسيس مركز ثقافي فيه، بل تحويله الى (ريستوران) يحمل اسم ” الكلب الضّال”، يقدم فيه – الى جانب الأكلات الروسية – فعاليات مسرحية،  وغنائية بأسعار باهظة، ويحاول صاحب الريستوران أو القاعة عبثا،  تقليد الجو الذي كان سائدا في القبو في اوج ازدهاره وشهرته في العصر الفضي. ورغم الدعاية الهائلة،  الا ان االمكان اليوم يفتقد روح مقهى “الكلب الضّال”،  واجوائه الابداعية،  وعباقرته الذين تحولوا الى اساطير جميلة في ذاكرة الاجيال الروسية المتعاقبة، واذا كان من الممكن انتحال اسم المقهى القديم،  وتقليده في كل شيء،  فمن يعيد اليه عباقرته،  وروحه،  والأجواء الإبداعية التي كانت سائدة فيه؟.

 

 

اترك رد