جورج شامي في رهبانيّة الأدب

يقول «روبرت لويس ستيفنسون» الكاتب والرحّالة السكوتلندي: «لا تقيّم أيّامك بمقدار ما تحصد من الغلاّت، بل بمقدار ما تغرس من البذور».

هذا الغرس الذي تعّلق به الزارع وتعهّده هو الغرس الأدبي عينه الذي تعوّد جورج شامي على زرعه في بستانه الأدبي فأينع أيما إيناع، من سبعين سنة، أي منذ خمسينيات القرن العشرين، أدب وصل بصاحبه إلى حدّ الترهّب والتنسك في صومعة الكتابة ومحراب الرواية ومعابد القصة، وذلك في حمأة البناء والخلق كما استخرج الله الإنسان من التراب؛ ألم يقل جورج شامي حول تجربته في الأدب والصحافة والحياة أنها شبيهة بالحرص على استخراج الألماس من الفحم والتبر من الصلصال[1]!…

أجل هكذا وقبل أن يبدأ التلاعب بذاكرة لبنان الأدبية.

لا بد لنا من وقفة أمام تجربة جورج شامي في واقعيتها اللامحدودة حتى يستعيد الصوت صوته، وتقف المسميّات في حضن التاريخ؛ ليس للذكرى فقط بل لتتويج المعرفة، حرزاً للإنسان بها وإليها يعمل ويطمح ويصبو قبل أن يستريح وقبل أن يقول في ذاته إكتفيت، حيث تظهر العظمة جليّة، حين يصنع الإنسان عظمته لا أن يستجديها من أحد، أو يطلب شيئاً من أحد يفقد من أجله نقاوة قلبه أو عزّة نفسه.

قيل قديماً أنّه ثمّة طرق لتحمّل مصاعب الحياة أهمّها: اللامبالاة، العمل، التقوى، الدين، الصبر وغيرها وغيرها الكثير؛ حتى جاء الأدب وقال علانية أنّه يمتلك مفاتيح الحلّ، وجدها جورج شامي في بداياته في خمسينات القرن العشرين، عندما اخذ على عاتقه تحدي الكتابة، بغية أن يقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة الناصعة، الواضحة التي لا لبسَ فيها، متحدّياً في ذلك الزمن كلّ ما كان يقال ويرّوج له في الأوساط الأدبيّة والفنيّة.

georges-chamii

أراد جورج شامي أن يكون للأدب سلسلة من المطالعات الذهنية، تحول المألوف وتبدّل الكليشهات التي لطالما استعبدت، من قِبَل كثر في ميداني الصحافة والأدب.

هذا ما لاحظه الدكتور جوزف أبو جوده من حلقة «الثريا» في تلك الأيام الماضية التي دُرست وأخذت معها الثمين؟ وها هو يقول في مقدمة مجموعة «ألواح صفراء»:

«جورج شامي، الذي يقدّم إلى القرّاء مجموعة قصصه، «ألواح صفراء» يفرض علينا أن نتوقف قليلاً عند نتاجه، لا لأنّه بلغ الذروة كما يحلو لبعض أدبائنا الشباب أن يقال عنهم، أو إلى اعتبار ذواتهم قد بلغوا ما لم يبلغه واحد قبلهم بل لأنه يتجه في قصصه اتجاهاً خاصاً جديراً بالإهتمام».

في القصة – لا كما يحدث في الشعر – يفرضُ الخلق، خلق أشخاص جدد يعيشون في الحياة على ذريعة أعلى أو أحط من الإنسان العادي.

هل يكون جورج شامي خالقاً؟

أجل ومنذ انطلاقة الشرارة الأولى في دنيا الخلق الأدبي، كان لـ جورج شامي موعدٌ مع تمايز وعلامة فارقة لاحظها الدكتور جوزيف أبو جودة، وخصّه بهذه الملاحظة، مع التحليل الدقيق للولوج في رحاب معرفة الذات والآخر من خلال تشظي المعلومات، وانعكاس المرايا في ألوان بهيجة تؤشّر بعملية الخلق الأدبي الجديد.

ها هو جوزيف أبو جودة يضيف في مكان آخر من المقدمة قائلاً:

«وكمن يرسم لوحة فيضع فيها الظلال والأنوار لتعكس فكرة معيّنة، هكذا يُبرز جورج شامي بطله ويهتم به ويدقق في تصويره حتى تخال أنّه يلازمه بحيث في عدد نبضات قلبه. أمّا سائر أشخاص قصصه فهم في الظلال (وراء الكواليس) لا غاية لهم إلاّ بقدر ما يشكلون الأمداء الحيوية لبطل القصة».

ويختم أبو جودة قائلاً:

«لكأنك، وأنت تقرأ لجورج شامي، تحسُّ طعم الحياة كالرمل تطحنه الأضراس».

هذا الشعور يتساوى مع عملية استخراج الألماس من الفحم والتبر من الصلصال، فالرواية والقصة كلّها مأخوذة من عناصر الأرض والمادة، التي لا تلبث وأن تمتزج بالروح لتكون لها الحياة والحياة في ملئها.

إنها الخمسينات في القرن الماضي إذن، حيث كل البدايات والحظوظ والآفاق الجديدة التي بدأت تبزغ بأنوارها،  واحة رخاء أدبية وازدهار ما بعده ازدهار على الرغم من الفقر المادي، وانسداد الأفق والتفاوت الاجتماعي والطبقي بعيد الحرب الكونية الثانية وزوال الإنتداب عن بلدنا.

في تلك المرحلة لم يكن لبنان قد بلغ سن الرشد بعد، فهو بالكاد طفلٌ يحبو على أربع يتلمس طريقه وعهد الإستقلال في بداياته المتعثرة مع التجاذبات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية الحزبيّة والمذهبيّة، لكن في ظلام الليل يبزغ النجم المضيء، والظلام يعقبه انبلاج الفجر، فجر الأدب والفكر نهرٌ دافقٌ في معناه الديناميكي، حين ظهرت الحلقات الفكرية (الثريا – والندوة اللبنانية)، ظهور منابر ومتكلمين وشعراء وأهل صحافة، ودور للنشر، طافت الإنتاجات في ذلك الزمان في كلّ أنحاء العالم، واشتهرت ولمعت أسماء فوق المنابر، واتصلت بالمهاجر متنفساً ووسيلة تعبير، وأصوات عابرة للقارات من أميركا إلى المكسيك والبرازيل والأرجنتين وصولاً إلى أوستراليا في المقلب الآخر من الكرة الأرضيّة.

في ذلك الزمان لمعت أنجم دور النشر والصحف والمجلات والدوريات والمنشورات، وصدرت الكتب وكان لدار «المكشوف» مثلاً لصاحبها فؤاد حبيش دوراً فعالاً في هذه الحركة بالإضافة إلى «دار العلم للملايين» وغيرها وكانت صحيفة «البرق» مثلاً لصاحبها الشاعر الكبير الأخطل الصغير، علامة مميّزة إذ بدا وأن الشعر هو توأم الصحافة؛ بدليل أن الأخطل كان صاحب جريدة يوميّة.

لذلك يبدو جلياً، أنّ الفترة الزمنية تلك، هي فترة خصبة، لا شبيه لها وقد لا تتكرّر أبداً، إن من حيث الشكل أم من حيث المضمون، فلكل مرحلة خصائصها ومتغيّراتها، مهما تعددت المقولات بحيث أن الزمن قد يعيد نفسه أو قد لا يعيد.

في هذا الخضم بدأ جورج شامي يعدّ العدّة، ويتحضّر للشروع في رحلته الطويلة، التي رسم دروبها منذ عقود طويلة، ومع حلول سنة 2019 سنة صدور مذكراته في ثلاثة أجزاء، نعود إلى عقدين حين نُشر حوار  مع جورج شامي في مجلة «الغد العربي» القاهرية[2] سأله خلالها حسن حامد:

  • متى تخرج إلى النور سيرتك الذاتية؟

فأجاب:

«لقد باشرت في كتابتها وستكون «روايتي الوحيدة… وقد تأتي في ثلاثة أجزاء وسأعتمد في تكوينها على نمط غريب وسأنهج فيها النهج الإبداعي لا النهج التقريري… وسيكون أبطالها معروفين بأسمائهم على عكس قصصي التي ليس لأبطالها أسماء».

ولكن نحن نعلم أن روايات كثيرة سبقت السيرة «ماذا بقي من القتال»، «عصير الزنزلخت»، «أول الذهب»، «ذكريات عارية» ومجموعات قصصية عديدة، ذلك ليظهر أن ثمة تحولات تصيب مسار الإنسان المبدع، ولا يبقى أسير قوالب سمجة وتداعيات مجمّدة راسخة، لا أمل في تغييرها، وشتّان ما بين الأسلوب الإبداعي والتقريري، ولو فات على كثرين نعمة التمييز عن حقٍ أو باطل، ولو طاف الناس، يبررون بلغة محنطة عن حق يراد به باطل أو بالعكس، ففي كل الحالات عندما تحيد المعاني الصافية عن مسارها الطبيعي، فمن العبث أن تسير المياه في مجاريها إلى البحر كما أرادت الطبيعة، وكما تفرض قوانين الجاذبيّة!..

من المنفّر أن تفهم الأشياء بعكس دلالاتها، ومن المحبط أن تمرّ الأيام على كسالة وتبلّد، ومن المؤذي أن تنفق الساعات والمجهود في غير محلّه وغير مساراته الفضلى، وكم يجب أن يكال بالمكيال نفسه، من أجل الحق ولا شيء غير الحقّ!…

لا شك أن جورج شامي، كان يخطط للغد أكثر من أي إنسان آخر، وكأنه قد عرف مغبة الكسل وما يترتب عنه من نتائج على الإنسان، خاصة كلّما تقدم في العمر حيث يقول مثلٌ إنكليزي:

«كسولٌ وهو شاب فقيرٌ وهو كهل»

في كلّ ذلك كان جورج شامي يراقب ما سيصير بعد ذلك، يراقب التحوّل الأكبر الذي سيطرأ على اللغة، وكأنها مارد سيخرج من القمقم محدثاً زلزلة ودوّياً كبيرين وذلك ابتداءً من الستينات، يقول هاشم صالح في هذا الصدد[3] في الصفحة 33 من مجلة الكشكول:

«من هنا ظهر أيضاً موضوع تفجير اللغة، الذي انتقل إلى ساحة الشعر الحديث في الستينات، وانتج بعضاً من أجمل الدواوين الشعرية العربية. أقول ذلك وأنا أفكر «بأغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس مثلاً؛ كل الشعر العظيم نتج من هذه الحركة التحريرية الهائلة:

تفجير اللغة، تفجير الشعر، تفجير التفجير ذاته. ثمّ بالأخص تفجير اللاهوت والكهنوت، وكل ذلك من خلال مغامرة استكشافية كبرى في أرضٍ بكر لم تطأها قدم قط، ومن خلال لغة ابتكارية ومجازات ابداعية خارقة، غيّرت خريطة الشعر العربي ودشّنت مساحة جديدة من الحريّة، بهذا المعنى. فكل الحداثة الشعرية العربية خرجت من معطف أدونيس..

الجدير ذكره هنا أن جورج شامي كتب هذا الشعر الحداثي في «زورق على شاطئ الانتحار» من سبعين سنة، وذلك من خلال نزهات حداثية ومجددة كانت في بداية الموجة، بيد أن جورج شامي لم يبقَ طويلاً في سفينة الشعر التي تركها لآخرين، بل ذهب في أبعاد أخرى من الأدب والقصة والرواية والدراسات، فاتحاً لنفسه مجالات وآفاقاً وأحلاماً جديدة، لم يكن الشعر بقادرٍ بمفرده على الإتيان بها.

ولو أن المسائل التي تناولها جورج شامي في أدبه كانت قد وردت متكررة ولأكثر من مناسبة، في قصائد لشعراء قدماء ومحدثين، وعادت لتجثم على صدور كل المفكرين والشعراء والفلاسفة وأهل الفكر، ومنها مسألة الوجوديّة، وتماهيها مع كتابات جورج شامي، والتطرق إلى ما إذا كان هناك من مشرقيّة إيحائيّة تلتات بها الوجودية، فتبتعد عن وجودية  الغرب عموماً ووجودية سارتر تحديداً. وكم ينسى كثر أن الوجودية ليست واحدة، وفيها الملحدة والمؤمنة فكما يوجد جان بول سارتر، يوجد أيضاً غبريال مارسيل وكيير كغارد وغيرهم.

ولعلّ أبرز الوجوديين أبو العلاء المعرّي حين قال:

العقل زين ولكن فوقه قدرٌ               فماله في ابتغاء الرزق تأثير

فالعقل إذن يحكم على الأمور التي يستطيع الإحاطة بها، لكنّه عاجزٌ عن الإحاطة بالأمور الغيبيّة.

ويقول أبو العلاء أيضاً:

وللإنسان ظاهر ما يراه                            وليس عليه ما تخفي العيوب

          أمّا جورج شامي فهو دائماً في حالة من النهوض المرن والإستنهاض الثوروي، لأنه لا يستسلم إلى شيء أبداً، أكان غامضاً أم لم يكن، واضحاً أم غير واضح، ظاهري أم باطني، وها هو يقول في حوار مع رياض فاخوري[4]:

«وطالما أن الحديث عن «شيء لم يكن…»

فأيّ الأشياء هو الذي كان… وأية نعمة هي «نعمة الأشياء» التي يتساوى فيها الماضي والحاضر والمستقبل، في تجويف زمني، كالتجويف الذي نعيش فيه، تسيطر عليه حالة من التشويش والهلوسة، ينتهي فيها كل ابداع، وينبثق منها كل ابداع وفقاً لنمط إرادي».

وهل بعد هكذا كلام يجوز كلام آخر، في التعداد والتقييم والتصنيف، وعن أيّ وجودية سنتكلم في حين أن كثراً لا يعرفون الوجوديّة حق المعرفة؟!

ففي حين يقول سارتر، أن الوجودية تجعل من الإنسان يخط طريقه بنفسه ويقوم بما يريده حين يشاء وأينما شاء، فليس ثمة خطة مسبقة ما ورائية جعلته يفعل ما يفعل، وأن الوجود سابق للجوهر وليس العكس؛… أنّى لنا والحال كذلك أن ندرك ونعرف متى سنمرض وكيف وما إذا كنّا سنحصل على رزقٍ مادي أم أننا في غنى عن كل ذلك…

بالنسبة لجورج شامي فهو يقول في محطات كثيرة أن الكتابة أتت إليه من الباب الأكثر طبيعية، والأكثر لصوقاً بالواقع والتفكير الواضح، ففي حوار أجرته فاطمة أبو الحسن[5]، تسأله هذه الأخيرة السؤال التالي:

أغلب الأدباء يكتبون  من منطلق النقد للمجتمع والبقية من حولهم، بما تفسرّ تبريرك لهذا الواقع في أغلب أعمالك الإبداعية؟

فيجيب جورج شامي:

«أنا لم أكتب من منطلق النقد، أي من ردّ الفعل، أنا أكتب من منطلق العقل، قدمت صوراً وانفعالات ومشاعر، مستخرجة من صلب الواقع الذي يحيط بي وأعيش فيه وأنا ابنه بامتياز، هذه النماذج التي كوّنت أعمالي [….] يبررّها كونها في الملموس لا في المتخيّل، نمرّ بها في الغالب ولا نقيم لها وزناً، فأعطيتها القيمة، وثمنتّها من خلال الحديث عنها، كانت الوقائع نوعاً من المنتقيات المهملة فصارت من المنتقيات المثمنة، اقتلعتها من مقلع الوجود، لا من مقلع العدم، كانت في مهملات الطرق والشوارع والأزقة، فصارت في علب الهدايا والألبومات».

هذا هو الخيط الرفيع في المسألة كلّها، وهذا هو الإستشفاف، كمن يحاول أن يستخلص عند الفجر خيوط العتمة من خيوط الضوء. صائغٌ حاذق يعرف كيفية تنقية الحجر الكريم من الشوائب حتى يضيء وإلا بقي في وحوله والضوء محتجب إلى الأبد.

في رواية «العزّى ألف عاشق وعاشق” لليوناني «ثيوذوروس غريغورياذيس» نجد بطلة الرواية في الصفحة 452؛ وهي في غمرة تأملاتها:

«… تذكرت بين قراءاتها أحد الرهبان يقول: إن العالم ليس مصنوعاً ليصبح كتاباً. كلّ يحمل في داخله كتاباً لن يستطيع أبداً أن يكتبه هناك كتب يستحيل كتابتها».

يبدو أن جورج شامي نجح في كتابة أربعين كتاباً…

10 آذار 2019

 المراجع

[1]مجلة الحوادث في 18تشرين الأول سنة 2002 – حديث أجراه معه اسكندر حايك.

[2]حوار نشر في مجلة “الغد العربي “القاهرية سنة 2000 أجراه حسن حامد.

[3]هاشم صالح في دراسة في مجلة الكشكول-العدد (208-209-210) تموز،آب،أيلول السنة 2018

[4]حوار أجراه رياض فاخوري في جريدة الأنوار سنة 1980.

[5]حوار مع فاطمة أبو الحسن في جريدة «بريد الجنوب” القاهريةسنة 2001.

****

(*) من كتاب “قرابين مشتعلة دراسة تحليلية في أدب جورج شامي” الصادر حديثًا. 

اترك رد