اللغة العربية : من التراجع إلى التمكين(*)

-العربية

feather_pen 111 د. رياض زكي قاسم(**)

مقدمة:

1 ـ نفترض، بدايةً، أن حاضر العربية، في الأحوال والمآل، ينتج من إدراك واقع العلاقة التبادلية بين مستويات اللغة والمجتمع؛ فقد وقر في نفوس الكثيرين أن اللغة هي مرآة تنعكس عليها صورة المجتمع العربي، بتفككه السياسي، وتعدد أنظمته الراهنة، وتعدد مستوياته الاقتصادية، إضافة إلى حلم الكثيرين أو رهانهم على غدٍ أفضل.

2 ـ ثم، إنّ ما يجبه العربية من تحديات وصعوبات، داخلية وخارجية، يؤكد أن اللغة بواقعها المأزوم، فعل اجتماعي، تمثّل بالازدواجية، والثنائية، وغياب إنتاج اللغة العلمية، ولا سيّما التقانية منها … أقول: كل ذلك يشهد، بلا مراء، على واقع اجتماعي عربي يعاني التجزئة والانقسامات الإثنية والطائفية والمذهبية، إضافة إلى الإدمان على التبعية، بوجوهها كافة، وفي مقدمتها التبعية المعرفية للغرب.

3 ـ ولكنْ، بقدر ما تبعث قتامة الصورة على القلق الكبير، نتطلع، في المقابل إلى نجاعة تلك المقوّمات الذاتية التي تتّسم بها العربية، وما فيها من روح نابضة بالصيرورة. وننظر، أيضاً، بأمل كبير إلى جهود الكثير من الأفراد والمؤسسات، الرامية إلى إقالة اللغة من عثارها، ودفع قوى المجتمع باتجاه النهوض الحضاري.

4 ـ في هذه الورقة البحثية، نجيب عن سؤالين رئيسيين، هما:

ـ ما هي عوامل تراجع استخدام اللغة العربية؟

ـ ما هي أوجه التمكين والتفاضل؟

أولاً: قراءة في ثلاثة عوامل مُقْلِقة

العامل الأول: التباين في السلطتين التاريخية واللغوية

أ ـ قُدِّر للغة العربية أن تشهد مرحلة فريدة الحصول، زماناً ومكاناً؛ إذ احتضن المكان في الجزيرة العربية، وتحديداً قريش (مكة المكرمة) زمان نزول القرآن الكريم، ببيان عربي مُعْجِز، فاندفعت اللغة في صيرورة فاعلة، على مدى أربعة قرون من التشريع اللغوي، وإرساء الأصول والأحكام، والتألّق في الاجتهاد. أمّا العربية في حاضرها، فقد قُدِّر لها أن تبقى الرابط بين الكثير من الشعوب والجماعات المأزومة، في كثير من الدول أو الكيانات. لكن هذا الحضور بدا مُرْبَكاً بغياب السلطة التاريخية.

ب ـ وقُدِّر للعربية، أيضاً، في مرحلة التقعيد اللغوي ووضع الأحكام، ظهور علماء أرسوا قواعد اللغة، ومكّنوا أصولها في الجزيرة والأمصار، على مساحة جغرافية شاسعة، امتدت من الصين إلى الأندلس؛ فكانت تلك السلطة اللغوية بأجهزتها الاجتماعية ذات نفوذ، تمارس من خلاله صلاحياتها على مستوى علومها كافة.

ونحن، لو قارنا سلطة طبقات اللغويين في العصور السابقة بسلطة علمائنا في المجامع اللغوية، وما تعيشه هذه المؤسسات من تهميش وعزلة، وضعف في السلطة … لهالنا الفارق بين سلطتي القيادتين، دوراً ونفوذاً.

ومن الطبيعي أن يعكس ذلك التباين الحاصل، عبر المقارنة، في كلتا السلطتين: التاريخية واللغوية، خللاً في شرعية صلاحية النظام اللغوي الذي نعيش. ولعلّ غياب إلزامية تطبيق الأحكام الدستورية الخاصة بالعربية، والتساهل إلى حدّ التراخي، والتغاضي المريب، عمّا يُحدثه انتشار الأجنبية من إزاحة للغة الوطنية «الرسمية» شكلاً، أقول … ذلك كلّه، بات يشكّل أزمة قائمة، تمتد جذورها إلى مسألة الاستخفاف بمسألة الهوية، واعتبارها قضية إشكالية مزعجة، لا تتوافق وحال الانبهار باقتصاد السوق، ومصالح الاستثمار والمضاربة في البورصات العالمية.

العامل الثاني: غياب المجتمع العلمي، وضآلة إنتاج البحث المعرفي باللغة العربية

أ ـ على الرغم من توفّر القدرات العلمية لدى الباحثين العرب، وما يمتلكه المجتمع العربي من موارد طبيعية غنية، ورأس مال بشري هائل … يبقى، مع ذلك، «البحث المعرفي»، ولا سيّما التقاني منه، ضئيل المحصول، إلى حدّ الافتقار إلى أساسيات ما نحتاج إليه. والمفارقة المؤلمة في هذا الصدد تتمثل بمحدودية مراكز البحث العلمي المنتج؛ فنحن لا نمتلك مركزاً بحثياً واحداً على المستوى الأكاديمي العالمي، كما أننا لا نملك مؤشراً يلحظ إمكانية إنشاء هيكلية مؤسسية قادرة على الاستفادة من الموارد البشرية المتمثلة بعدد الخريجين الجامعيين، أو أنها قادرة على استثمار مليارات الدولارات التي تُنفقها البلدان العربية في التعليم العالي[1].

ما تجب الإشارة إليه، هنا، أننا حين نتحدث عن المجتمع العلمي المنشود، لا نعني بذلك عدد العلماء الباحثين المتوفر لدينا في البلدان العربية، فهذا العدد هو «تجمّع عددي مشتّت» لا يملك مقوّمات التكوين المؤسسي للبحث العلمي؛ فـ «المجتمع العلمي يكون موجوداً عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي، وتقدِّم له الخصائص التي تميّزه. وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث، لا يبقى سوى كمية من المعلّمين وتجمّع من التقنيين ذوي تكوين متساوٍ في تنافره، وفي عدم تجانسه»[2].

ب ـ من جهة ثانية، تشكّل الترجمة «الاستهلاكية»، أو لنقل «البكماء»، المتراكمة، في ما يصدر عن بعض المؤسسات ودور النشر العربية، كمّاً، على حساب البحث، ظاهرة سلبية، من الوجهة الثقافية الوطنية؛ ففي العصر الذهبي للحضارة العربية، لم يكن الهدف من ترجمة النصوص كتابة الفكر المعرفي، أو الاطّلاع على هذه النصوص وحسب، بل كانت الترجمة، لكتب مختارة، تسهم في وضع النصوص العربية الضرورية لتكوين الباحثين، أو لمتابعة البحث. «فترجمة كتب أرشميدس كان لها أن تسمح بالدراسات الخاصة بقياس المساحات والأحجام، ولكنها لم تكن تهدف إلى الإسهام في كتابة تاريخ هذا الفصل أو إلى شرح نص أرشميدس مثلاً، ثم يقترن هذا «التوظيف العلمي» بالإنتاج الاجتهادي لمضمون النص المترجَم، والتوسّع في شرحه، ووضع ما يحتاج إليه من مصطلحات، ترتكز على توليد الألفاظ، وفق معايير ومقاييس وأوزان اللغة العربية. لذا جاز أن نطلق على هذا الصنيع الاجتهادي «الترجمة التكوينية»؛ أي أنها ترجمة يقوم بها علماء مهتمون بالمعنى، وأن الأولويات المتّبعة ضمنياً في اختيار الكتب للترجمة، وفي تسلسل الترجمات، لا تأخذ معناها إلا إذا أخذنا في الحسبان نشاطات البحث في زمانها.

ج ـ ثم، إن ما يفتقر إليه «التجمّع» البحثي في البلدان العربية، هو غياب «التشبيك» بين الباحثين العلميين والجامعات ومؤسسات الأعمال. ولا يُخفى أن هذه الجهات الثلاث هي مركزية في كل مراحل التنمية، ولا سيّما التنمية العلمية المنتجة باللغة العربية. وبالتالي، فإن هذا التشبيك، إن لم يكن على صلة وثيقة بالاقتصاد السياسي الوطني، وينطلق من مخطط أو سياسة علمية ـ لغوية، مركزية، فإنه سرعان ما يتعثر، وتذهب الجهود والأموال، وكذلك الوقت، هدراً.

ونحن نجد صدى هذا الشغور، أو غياب العمل المنهجي، في استطلاع رأي، حديث العهد[3]، إذ سجّلت نتائج الشكوى من غياب الاهتمام بإرساء تقاليد وطنية في التقدم المعرفي، باللغة العربية، على صعيد إنشاء، أو دعم مؤسسات تُعنى بالبحث العلمي، 53 بالمئة[4] (من عدد المستطلَع رأيهم) (***)، وبلغت الشكوى، من عدم إنشاء مركز للبحث في تاريخ العلوم، وبخاصة في التراث العلمي العربي، 74 بالمئة. وسجلت شكوى غياب أيِّ اهتمام بإنشاء أو دعم مكتبة علمية عربية خاصة، نسبة عالية جداً بلغت 96 بالمئة، وما يماثلها تقريباً، الشكوى من غياب إنشاء أو دعم مكتبة علمية عربية، خاصة أو عامة بلغت 91 بالمئة. وقد انعكس هذا الأمر سلباً على نتائج ما يراه الباحثون من تقدم معرفي وإنتاج بحثي لتوظيف العلم، في بلدانهم، باللغة العربية. فقد تدنّت نسبة الذين رأوا أن مستوى هذا التقدم جيد جداً إلى 1,4 بالمئة، و11 بالمئة جيد، ووسط 38,6 بالمئة؛ وهي نِسَب مقلقة عموماً[5]. ورأى 11,4 بالمئة فقط، أن الجهد يقوم على استراتيجية وتخطيط علميين. أمّا على صعيد الحاجة إلى تعاون مشترك بين البلدان العربية، فسجّل الاستطلاع نسبة عالية بلغت 84 بالمئة[6].

العامل الثالث: خلل في الثنائية اللغوية الوطنية ـ الأجنبية

أ ـ تقضي طبيعة التثاقف الحضاري، بين الأمم، أن يفيد المجتمع النامي من معارف المجتمعات المتقدمة، ولا سيّما علوم التقانة الحديثة. من هذا المنظور الثقافي بدا المشهد اللغوي في المجتمع العربي (على مختلف بلدانه) متعدداً، وبلغ التأثر بالمرجعيات الفكرية الغربية مرحلة متقدمة، يمكن أن نحسبها مرحلة تكوينية، في حقول المعرفة كافة.

وقد يكون من المألوف، ومن قبيل إغناء اللغة الوطنية (اللغة الأم) أن يلسن أبناء الوطن بلغة ثانية؛ إذ ذاك تقترض اللغة الوطنية (الأم) من اللغة الأجنبية (لغة واحدة أو أكثر) ما هي بحاجة إليه من مفردات ومصطلحات ونصوص، وحتى نظريات ومناهج.

لكنْ، ما بدا ظاهرة مقلقة في المجتمع العربي، هو هذا التوسّع في استخدام اللغة الأجنبية، والاعتماد شبه الكلّي عليها، في عدد من القطاعات الرسمية والأهلية، ولا سيّما اللغة الإنكليزية، في البلدان العربية التي كانت مستعمرة من الإنكليز، واللغة الفرنسية، في البلدان التي عرفت الاستعمار الفرنسي.

ب ـ ويتجه الحديث، هنا مباشرة، إلى الشكوى من غياب نظام تعليم للغة العربية، ولا سيّما مواد العلوم والرياضيات. وتشمل هذه الظاهرة مراحل التعليم كافة، وبخاصة التعليم العالي، فقد أزاحت اللغة الأجنبية لغتنا الوطنية، بشكل شبه تام، عن تأدية دورها الحيوي في التكوين الفكري، وغدت اللغة الأجنبية عامل جذب مهم للطلبة. ففي استطلاع الرأي، المشار إليه سابقاً، وردت جملة أرقام مقلقة، عن واقع التعليم الجامعي باللغة الأجنبية، فتعلّم المصطلح، مثلاً، وهو الركن الأساسي في النص العلمي، بلغ 78 بالمئة باللغة الإنكليزية في بلدان المشرق العربي، و88 بالمئة باللغة الفرنسية في بلدان المغرب العربي، مقابل 9 بالمئة باللغة العربية. وينسحب هذا الواقع المقلق على لغة الامتحانات والأبحاث؛ فاللغة العربية لم تنل إلا 14 بالمئة، مقابل 76 بالمئة للإنكليزية، و87 بالمئة للفرنسية.

ولعلّ مفاعيل هذه الإزاحة للعربية عن مكانتها التعليمية، على مدى سنوات طويلة، أفرز واقعاً سلبياً، جعل 13 بالمئة فقط يؤيدون، حالياً، مبدأ تعلّم العلوم والرياضيات وسائر الاختصاصات التطبيقية باللغة العربية[7].

والجدير ذكره في تحليل هذه الظاهرة؛ أي التدريس بلغة أجنبية، ولا سيّما مواد العلوم والرياضيات، أنها لم تعد إرثاً استعمارياً مفروضاً على الحكومات والشعوب العربية، بل غدت نتيجة أحد أمرين، أو كليهما معاً؛ فهي أحد عوامل الجذب المهمة للطلبة وأولياء أمورهم، وهو جذب تبرّره التغييرات التي ميزت سوق العمل التي تجعل من اللغة الأجنبية، وأحياناً كثيرة جامعات بعينها، شرطاً للالتحاق بأهم الوظائف وأعلاها عائداً. وهي نتيجة سيادة العولمة والريادة الأمريكية في مجال تقانة المعلومات والاتصالات، تلك التي جعلت من الإنكليزية لغة أسواق العمل العالمية، ولغة المؤسسات والشركات عابرة القارات، ولغة التواصل والاتصالات على مستوى العالم.

ثم، إن التوسّع بمدارس مراحل التعليم ما قبل الجامعي، التي تعتمد التدريس بلغات أجنبية، إضافة إلى المدارس الدولية التي تتبنّى بالكامل منهاجاً أجنبياً، كان خطوة مسبقة لكي تتوفر المُدْخَلاَت المناسبة من أعداد الطلبة لمؤسسات التعليم العالي التي تأخذ في مبدأ التدريس باللغات الأجنبية[8].

ويطيب للبعض أن يردّد مقولة خاطئة، مفادها أن تعليم مواد العلوم والرياضيات باللغة العربية، يدفع بالخريجين إلى البطالة، فهم لا يستطيعون العمل مع مؤسسات كبيرة تعتمد اللغة الأجنبية في إدارتها واتصالاتها ومراحل تنفيذ خططها. وهذا أمر يعود بنا إلى استراتيجيات سوق العمل، والسياسات الاقتصادية التي تتبناها البلدان العربية في خططها ومشاريعها التنموية. وإذا أمعنّا في رصد هذه الظاهرة، تجلّى لنا سريعاً أن مثل هذه الدعوى تعني أن النظام التربوي في مفهومه السيادي هو غير فاعل، وبالتالي هو منحاز إلى عامل يهدد مقومات الهوية والانتماء. وقد حذّرت إحدى الدراسات التي أُجريت مؤخراً من خطورة الاتجاه المتزايد نحو التعليم بلغات أجنبية، مع ما ينطوي عليه ذلك من فقدان الانتماء إلى الوطن، ومن هجرة العقول، ومن اغتراب فكري وسلوكي لأبناء الوطن. وتوصي هذه الدراسة بأن تدرِّس كلّ أمّة أبناءها العلم بلغتها، وذلك إذا رغبت في المساهمة بظهور علماء واتساع فرص الإبداع العلمي[9].

وحول تفسير هذه الظاهرة، وبيان أسبابها، نوجز نتائج استطلاع الرأي (المشار إليه سابقاً) في المجامع اللغوية ومراكز البحث الأكاديمي. فقد سجلت خمسة أمور سلبية يعانيها نظام تعليم اللغة العربية، في بلدان المستطلَعين؛ كان الأمر الأول والأبرز هو ضعف مستوى معظم معلّمي اللغة العربية وآدابها (هذا برأي 74 بالمئة)؛ الأمر الثاني، هو غلبة اهتمام المتعلمين باللغة الأجنبية على حساب اللغة العربية (هذا برأي 70 بالمئة)؛ الأمر الثالث، هو عدم تحفيز المتعلمين وأسرهم للاهتمام باللغة العربية (هذا برأي 63 بالمئة)؛ الأمر الرابع، هو عدم ربط سياسة تعليم اللغة العربية وآدابها بسياسات باقي مواد التعليم (هذا برأي 60 بالمئة)؛ الأمر الخامس، هو غياب التجديد المستمر لبرامج اللغة العربية، بحيث تكون مواكبة لمتطلبات العصر (هذا برأي 56 بالمئة)[10].

ج ـ يضاف إلى ما تقدم ظاهرة «تَطْعيم» اللغة العربية باللغة الأجنبية، في مستوى من مستويات الثنائية اللغوية. وهي ظاهرة لغوية، كثيراً ما نسمعها في التواصل اليومي، ووسائل الإعلام، حيث تُدْرَج مفردات، أو عبارات، أو مصطلحات، أو مفاهيم وأفكار، أجنبية في سياق الحديث بالعربية، بدعوى الضرورة الفنية التقنية، أو «التفرنج»، أو تحت عناوين شتى.

كما بدا التراجع التدريجي للغة العربية في النصّ الإعلامي المقروء، والنشرة التلفزيونية (الأخبار، التعليق، الحوار في المقابلات … إلخ). والمسألة هنا مردّها، غالباً، إلى ضعف قدرة وكفاءة الإعلاميين ووسائلهم على الوصول إلى المتلقّي، بالمستوى المطلوب من الكفاية.

نخلص في محصّلة هذا المبحث إلى أن خللاً في التكيّف اللغوي يصيب العربية، في حاضرها، من جرّاء تضييق الاستخدام اللغوي لها، من قبل أبنائها المتكلمين بها، وبسببٍ من تخلّفهم في مواكبة التقدم الحضاري. فـ «اللغة (على حدّ العبارة المشهورة لإبراهيم اليازجي (1847 ـ 1906)) بأهلها تشبّ بشبابهم، وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عمّا يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثّل ألفاظهم إلا صور ما في أذهانهم (…)». لذلك، فإن كان ثمّة هرمٌ، فإنما هو في الأمة لا في اللغة، لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاصق بها، ولا يلحق بها وهناً ولا عجزاً، وإنما هو عجزٌ في ألسنة الأمة ومداركها، وتأخّرٌ في أحوالها واستعدادها. ولو صادفت من أهلها البقاء على عهد أسلافهم من السعي في سُبُل الحضارة وتوسيع نطاق العلم، لم تقصِّر عن مشايعتهم في كلّ ما فاتهم من الأطوار حتى تبلغ بهم إلى مجاراة العصر الحالي»[11].

****

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 413 في تموز/يوليو 2013.

(**) رياض زكي قاسم: باحث لغوي، ومدير عام سابق بالوكالة في مركز دراسات الوحدة العربية.

[1] للتوسّع، انظر في هذا الصدد: أنطوان زحلان، العلم والسيادة: التوقعات والإمكانات في البلدان العربية، ترجمة حسن الشريف (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، وتحديداً الفصلين الأول والثاني.

[2] رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب؛ 12 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011)، ص 434.

[3] لننهض بلغتنا: مشروع لاستشراف مستقبل اللغة العربية (بيروت: مؤسسة الفكر العربي، 2012).

[4] المصدر نفسه، ص 73.

(***) تمّ تنفيذ البحث، وتوزيع الاستمارات في أحد عشر بلداً عربياً، وبَلَغَ مجموع ما تمّ توزيعه من استمارات سبعة آلاف وثمانمئة وثلاثاً وستين (7863).

[5] المصدر نفسه، ص 73.

[6] المصدر نفسه، ص 71.

[7] المصدر نفسه، ص 33.

[8] للتوسع، انظر في هذا الصدد: محيا زيتون، التعليم في الوطن العربي في ظل العولمة وثقافة السوق (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، ص 335 ـ 336، وزحلان، العلم والسيادة: التوقعات والإمكانات في البلدان العربية، ص 118 ـ 121.

[9] عبد الإله يوسف الخشاب وخالص حسني الأشعب، «محتوى التعليم العالي لمواكبة مجتمع المعرفة،» نقلاً عن: زيتون، المصدر نفسه، ص 373 ـ 374، الهامش الرقم (37).

[10] لننهض بلغتنا: مشروع لاستشراف مستقبل اللغة العربية، ص 35.

[11] من مقال: «اللغة والعصر». وهو بحث طويل، كان قد نشره اليازجي متسلسلاً في عدّة أجزاء، من مجلة البيان سنة 1897.

[12] معظم الدساتير العربية تتعامل مع اللغة العربية بوصفها اللغة الرسمية ومصدر الانتماء. ولعلّ أوّل نصّ حديث عن رسمية اللغة العربية، جاء في مشروع أقّره مجلس شورى النواب في مصر في 8/8/1879 مرسل إلى الخديوي، من قِبَل شريف باشا في 25/7/1879، حيث جاء في البند 30 من ذلك المشروع ما يلي: «اللغة الرسمية التي يلزم استعمالها في المجلس هي اللغة العربية». أما اليوم، فنجد النصّ على اللغة العربية كلغة رسمية، في كلٍّ من دساتير: لبنان والأردن وتونس وموريتانيا والكويت والجزائر وليبيا والعراق والمغرب واليمن ومصر والإمارات وقطر وسورية والسودان. ولا يشذّ عن هذا الإجماع إلا الميثاق الوطني الفلسطيني لسبب ظاهر، إذ ليس ثمة دولة ليكون لها لغة رسمية، وكذلك الميثاق الأول لثورة الصومال، الذي أوجبت المادة الرابعة منه «خلق» الظروف الأساسية الملائمة لكتابة اللغة الصومالية.

كذلك ثمّة خمسة دساتير تتيح استعمال لغة أخرى، بالإضافة إلى اللغة العربية، هي (1) الدستور اللبناني، ونص المادة 11 منه كالتالي: «اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية. أما اللغة الفرنسية، فتحدّد الأحوال التي تستعمل بها بموجب قانون»؛ (2) الدستور الموريتاني: وقد نصّت المادة 3 من هذا الدستور على ما يلي: «اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوطنية، واللغتان الرسميتان هما اللغة الفرنسية واللغة العربية»؛ (3) الدستور الجزائري: بعد أن نصّ الدستور الجزائري في المادة 5 على أن «اللغة العربية هي اللغة القومية والرسمية» عاد فنصّ في المادة 76 الواردة تحت باب «أحكام انتقالية» على ما يلي: «يجب تحقيق تعميم اللغة العربية في أقرب وقت ممكن في كامل أراضي الجمهورية، بيد أنه خلافاً لأحكام هذا القانون، سوف يتجاوز استعمال اللغة الفرنسية مؤقتاً إلى جانب اللغة العربية»؛ (4) الدستور العراقي: تنص المادة 7 من الدستور العراقي على ما يلي: أ – اللغة العربية هي اللغة الرسمية. بـ – تكون اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في المنطقة الكردية؛ (5) الدستور السوداني: بعد أن نصّ الدستور السوداني في المادة 10 على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، عاد فأكد هذا المعنى، في المادة 139 لدى الحديث عن مجلس الشعب، فجعل مداولات هذا المجلس وأعمال لجانه ومكاتباته باللغة العربية «على أنه يجوز استعمال غير اللغة العربية بإذن من رئيس المجلس أو رؤساء اللجان». مثل هذا الاستثناء تمليه الظروف السياسية في السودان.

[13] هذه الفصول الخمسة، هي تباعاً: «الأحكام العامة، وفيها تحديد الأهداف (أبرزها حماية اللغة العربية) والربط بين اللغة والشخصية الوطنية، وتحريم كتابة العربية بغير الحرف العربي. أما نطاق التطبيق فيشمل الإدارات العامة، والمؤسسات والمشاريع والتجمعات على اختلاف طبيعتها. ويفرض استعمال العربية في الوثائق والتقارير والمذكرات والأعمال القانونية والمرافعات وقرارات المحاكم والمباريات والامتحانات والمراسلات والاتفاقيات والتعليم والإعلام والإعلان والبرامج الثقافية والأفلام، وسواها من أدوات التنفيذ والمتابعة والدعم، ومنها الجهاز الوطني للتنفيذ المرتبط برئاسة الحكومة، والمركز الوطني الهادف إلى تعميم استعمال اللغة العربية».

[14] لننهض بلغتنا: مشروع لاستشراف مستقبل اللغة العربية، ص 194.

[15] المصدر نفسه، ص 195. وممّا جاء في مواد هذا القانون:

1 ـ التزام الوزارات وما يتبعها من الدوائر الرسمية وشبه الرسمية، والمؤسسات والمصالح والشركات العامة والجمعيات والنقابات والمنظمات الشعبية بالمحافظة على سلامة اللغة العربية، واعتمادها في وثائقها ومعاملاتها.

2 ـ اعتماد العربية لغة التعليم في جميع مراحله.

3 ـ التزام مؤسسات النشر والإعلام بالعناية باللغة العربية ألفاظاً، وتراكيب، ونطقاً، وكتابةً، وتيسيرها للجماهير، وتمكينها من فهمها.

4 ـ التحرير باللغة العربية للوثائق والمذكرات، والمكاتبات، والسجلات، والمحاضر، والعقود، واللافتات، وأسماء الشركات، والعلامات، والبيانات التجارية، وبراءات الاختراع، ونحوها.

[16] المصدر نفسه، ص 195.

[17] لمزيد من التوسع في هذا السياق، انظر: زحلان، العلم والسيادة: التوقعات والإمكانات في البلدان العربية، الفصل الرابع: «العلم والجامعات ومؤسسات الأعمال».

[18] أنطوان زحلان، «اكتساب القدرة على التخطيط الاستراتيجي،» في: محمد محمود الإمام [وآخرون]، النهضة واكتساب المعرفة في الوطن العربي، تحرير نادر فرجاني (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2002)، ص 34 ـ 35.

[19] راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص 168.

[20] عبد الصبور شاهين، العربية لغة العلوم والتقنية، ط 2 (القاهرة: دار الاعتصام، 1986)، ص 81 ـ 94.

[21] هارالد هارمان، تاريخ اللغات ومستقبلها، ترجمة سامي شمعون (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر؛ الدوحة: المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، 2006)، ص 492 ـ 495.

[22] إبراهيم اليازجي، «التعريب اللغوي،» 4 ج، الضياء، السنة 2 (1899 ـ 1900).

[23] لننهض بلغتنا: مشروع لاستشراف مستقبل اللغة العربية، ص 49.

[24] المصدر نفسه، ص 51.

[25] أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج 2، ص 900 وما بعدها.

****

(*) مركز دراسات الوحدة العربية.

اترك رد