في كتاب مختارات سياسية من مجلة “المنار” لرشيد رضا، الصادر عن سلسلة “طي الذاكرة” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يستعيد المؤرخ والأكاديمي اللبناني وجيه كوثراني نصوص رضا المنشورة في مجلته المنار بصيغة مختارات سياسية وموضوعات ومواقف في مرحلة تاريخية حاشدة بالحوادث، محاولًا تقديم مادة أولية تساعد في كشف مراحل تكوّن فكر رضا، بصفته فقيهًا مشبعًا بالثقافة الإسلامية التقليدية الرسمية، ومواجهته حوادث وتحديات كان من شأنها أن تهز القناعات والمسلَّمات الموروثة، وأن تفرض أمرًا واقعًا يستدعي التكيف مع حاجات جديدة، نتجت من تحديات التوسع الرأسمالي الغربي ومشروعاته في مرحلة الإمبريالية.
فقيه يبحث عن دولة
يتألف الكتاب (304 صفحات بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة وثلاثة فصول.
في المقدمة، “رشيد رضا فقيه يبحث عن دولة زمن أفول العثمانية”، يتناول كوثراني نشأة رضا ومصادر ثقافته وتأسيسه المنار، ومواقفه السياسية من خلال نصوص مختارة. فـالمجلة رافقت حوادث حوالى أربعين سنة من التاريخ العربي، شكلت مرحلة انهيار الدولة العثمانية وبروز الصيغ العربية البديلة للدولة في ضوء أشكال التبعية للرأسماليات الغربية ونماذجها الدستورية والسياسية والثقافية.
يتناول كوثراني في مقدمته للكتاب مواقف رضا في التعليم والإصلاح والأخذ عن الغرب، وفي الهيمنة الاستعمارية والاستقلال والمقاومة، وفي الدولة العثمانية والاتحاديين، وفي جمعية الشورى العثمانية وحزب اللامركزية الإدارية العثماني، وفي العصبية العربية وتبرير ثورة الشريف حسين من موقع الفقه الإسلامي الرسمي، وفي المسألة السورية والنزعة اللبنانية، وفي الصراع بين الشريف حسين وعبد العزيز بن سعود.
إسلام وتعليم وأوروبا
في الفصل الأول، “الإصلاح والإسلام والتعليم وأوروبا”، يورد كوثراني ستة نصوص، هي: الشيخ محمد عبده: عنوان الفصل السابع من تقرير اللورد كرومر عن مصر والسودان لسنة 1905، وتعليق رشيد رضا عليه؛ التعصب وأوروبا والإسلام؛ منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق: الاستبداد؛ كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (أو مطالب مصر من إنكلترا)؛ رأي الأستاذ الإمام في السياسة (أو سياسته)؛ خطاب صاحب “المنار” على طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت.
في هذا الخطاب، مثلًا، وبحسب ما كتب كوثراني في مقدمته، شدد صاحب المنار على أهمية التعلّم من أمم الغرب للقيام بالمهمة نفسها؛ فهو يقول: “فعلى هذا يجب علينا أن نبدأ بنشر العلم والقيام بالأعمال النافعة في أمتنا ومملكتنا، وأن يقدم أهل كل بلدة خدمة بلدهم الذي يقيمون فيه على غيره من بلادهم، ثم نفيض بعد ذلك من علومنا وأعمالنا النافعة على غيرنا من الأمم على الوجه الذي سبقتنا إليه الأمم الحية في هذا العصر، وأمامكم العبرة في المدرسة التي تتعلمون فيها”.
عرب وترك
يُدرج كوثراني طي الفصل الثاني، “الدولة العثمانية والعلاقات العربية – التركية وإعلان الدستور”، أربعة نصوص لرضا، هي: إعادة القانون الأساسي ومجلس المبعوثان في الدولة العلية؛ عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية، الجمعة 25 جمادى الآخرة (11 تموز “يوليو”)؛ العرب والترك (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)؛ رحلة صاحب “المنار” في سوريا.
يكتب كوثراني في ذلك: “ما كان رشيد رضا يصوغ موقفًا من مسألة سياسية حتى تبرز مسألة أخرى؛ فالدعوة إلى محاربة استبداد السلطان عبد الحميد على قاعدة حكم الشورى في الإسلام وجدت في الانقلاب العثماني في عام 1908 مجالًا رحبًا للتوسع فيها، وعقْد آمال عريضة على الحياة الدستورية التي بشّر بها الانقلابيون. لذلك، نرى رشيد رضا يلتحق بهذه الموجة العارمة من التفاؤل التي عمّت أوساط الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، فيكتب المقالات ويلقي الخطب ويدعو للحكم الجديد والرابطة العثمانية القائمة على الدستور. يقول: ’في هذا اليوم (عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية) أحس العثمانيون بأنهم أمّة لهم حقوق على دولتهم، ومصالح يقوم عليها بناء وحدتهم، وعليهم فروض وواجبات يؤدونها لحكومتهم، ولهم قانون يساوي بينهم في معاملاتهم، وإن لهم بذلك جنسية جامعة لهم على اختلاف انتسابهم ولغاتهم، وتباين مذاهبهم ودياناتهم‘”.
في استقلال الحجاز
في الفصل الثالث، “المسألة العربية وثورة الشريف حسين”، ثلاثة نصوص لرضا: المسألة العربية: مقالة للتاريخ؛ آراء الخواص في المسألة العربية واستقلال الشريف في الحجاز؛ تأسيس حكومة مكة وخطبة رشيد رضا في منى. يرى كوثراني أن موضوع الاستقلال عن الأتراك بالنسبة إلى رشيد رضا، يبقى مرتبطًا بمسألة الأمانة التاريخية للإسلام: حمايته وإنشاء دولته. فإذا كان الاتحاديون الملاحدة (على حد قول رضا) قد خانوا الإسلام ونكلوا بالعرب، وما عاد بالإمكان الرهان عليهم، فإن مشروع الشريف حسين يقدم لرضا، في عام 1916، إمكانية المشروع البديل في حال سقوط الدولة العثمانية.
يقول رضا في خطبته في منى، وكان الشريف حسين قد أعلن الثورة واستقلال الحجاز عن الدولة، ما يأتي: “لكن العمل لإنقاذ الدولة نفسها من الخطر قد أصبح فوق طاقته وطاقة غيره، فرأى أن يبدأ بالمستطاع، وهو إنقاذ الحجاز، مهد الإسلام ومشرق نوره، ممّا نزل به من البلاء والشقاء، ثم إنقاذ غيره ممّا يمكن إنقاذه من البلاد العربية، ليكون ذلك بيئة لحفظ الاستقلال الإسلامي وعدم زواله ممّا يُخشى ويُتوقع أن يحل بالدولة العثمانية والعياذ بالله تعالى”.
يضيف رضا مبررًا استقلال الحجاز: “لا يغيب عن أذهانكم أنه لولا إعلان هذا الاستقلال لترتّب على سقوط الدولة العثمانية وقوع حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم غنيمة في أيدي الدولة الفاتحة. فإن تركوهما بعد ذلك لنا، كان لهم منّة التصدق بهما علينا، وإلا كانا تحت سيادتهم والعياذ بالله تعالى. وبهذا يتبين لكم أن هذا العمل العظيم، الذي قام به هذا الزعيم العظيم، قد أنقذ الحرمين الشريفين وما حولهما من هذا الخطر الجسيم، ووضع أقوى أساس لحفظ الاستقلال الإسلامي بإنشاء دولة جديدة له”.
سورية ولبنانية
في الفصل الرابع، “المسألة السورية والنزعة الإقليمية اللبنانية”، خمسة نصوص لرضا: المسألة السورية والأحزاب؛ الرحلة السورية الثانية؛ الحكومة السورية الجديدة: أجمهورية تكون أم ملكية؛ الجنسية اللبنانية وغلو طلابها؛ لبنان الكبير وطن مسيحي (هكذا يقول بطرك الموارنة الزعيم الديني السياسي). بحسب كوثراني، بعد تحجيم حسين في الحجاز، استمر رضا في البحث عن الدولة البديلة التي تنقذ الإسلام، “لذلك، نراه ينضم إلى الحركة العربية السورية في بلاد الشام بقيادة فيصل. لكن هذه المرة من دون أن يبني أوهامًا كبيرة حول مشروع الدولة العربية السورية. وعلى الرغم من انتخابه رئيسًا للمؤتمر السوري في عام 1919، نلاحظ أن لديه ترددًا في الالتحاق بهذا المشروع، وأنه يشعر بشيء من الحرج في ترؤسه المؤتمر”.
كذلك، بقي رضا معارضًا أي نزعة انفصالية لبنانية – طائفية منذ بدأت الحركة المطلبية التوسعية لمتصرفية جبل لبنان في أواخر العهد العثماني دعوتها الانفصالية (دعوة البطريرك أنطون عريضة) عن الحركة الاستقلالية العربية في سورية، مرورًا بمطالبة البطريرك إلياس الحويك بدولة لبنان الكبير تحت الوصاية الفرنسية بعد الحرب الأولى. يعلّق رضا على حديث البطريرك عريضة “لبنان وطن مسيحي”: “يا حسرة على لبنان، كان متمتعًا باستقلال عديم المثال، فسلبته منه الأم الحنون وجعلته شر آلة لسلب استقلال سورية كلها، وأبناؤه البررة لها لا يشعرون، فلا قومية ولا وطنية ولا سياسة ولا إدارة، فأين ما كانوا يدعون؟”.
بين حسين وعبد العزيز
في الفصل الخامس والأخير، “الهاشميون وعبد العزيز بن سعود”، نص وحيد: الخطر على الحجاز وعلى الإسلام. عن هذا النص، يكتب كوثراني في مقدمة الكتاب: “كانت المخططات الاستعمارية في المنطقة قد انكشفت كليًا ونفذت مشروعات الاحتلال الأجنبي بصفة انتدابات. وبان لرشيد رضا انخراط الشريف حسين وأبنائه في المخططات الإنكليزية وإقامة الإمارات والدول تحت الإشراف الإنكليزي. ويجيء صعود عبد العزيز بن سعود في نجد مجددًا لواء الدعوة الوهابية، مشجعًا على الانقلاب على الشريف حسين. فيعتبر رشيد رضا المشروع الوهابي – السعودي مشروعًا إسلاميًا بديلًا بعد أن سقطت الدولة العثمانية وأصبحت حكومة الترك لا دينية، فيخصص في المنار المقالات الطويلة، ولا سيما في المجلدين 25 و26 (في عام 1925)، ليتصدى لدعاية الشريف حسين وأبنائه، ويدافع عن عبد العزيز بن سعود، داعيًا إلى طرد الشريف حسين وأبنائه من الحجاز”.
يدافع رشيد رضا عن إسلامية الوهابية في وجه اتهامها من الشريف حسين بالكفر. وبالنسبة إلى العصبية المؤهلة لاستلام السلطة، يرى رضا أن الشريف حسين وأولاده “ليس لهم قوة ولا عصبية في بلاد الحجاز ولا في غيرها من بلاد العرب”، وأن “جميع قبائل الحجاز القوية مشايعة لسلطان نجد عليهم، ولولا ذلك لم يستطع الوهابيون البقاء في الحجاز”. ويرى كوثراني أن دعم رشيد رضا المشروع السعودي يبقى دعمًا “ينبع من قناعات الفقيه المسلم السنّي الرسمي، الذي يحرص على بناء الدولة الإسلامية ومركزتها وكما يفهمها”.