بقلم: الأديب مازن ح. عبّود
راح “برهوم” يرصد الموقد. حكش عيدانه المتقدة. فحملته ظلا إلى عالم النار والعتمات. أحسّ بالغربة والبرد. شعر بالخوف الشديد. رأى العولمة وحشاً يسلخ من الناس قلوبها. فتكبر رؤوسها. فتصير البشر رؤوساً كبيرة تتحرك على أقدام صغيرة.
قيل له إنّ الوسائل تطورت كما الرجعية والقبلية والشقاق. فحصل انكسار. تنامى الذكاء وصار في خدمة الغريزة. والغريزة طمع وتفلت من الضوابط. قيل له إنّ الوحش نما جراء التفاوت ما بين الذكاء والإحساس، وجراء تطور الوسائل دون تطور المفاهيم. صار الناس يمتلكون كل شيء ما عدا الإنسانية. حصّلوا العلم وفقدوا القلب. امتلكوا الذكاء والهواتف الذكية وفقدوا البساطة والقناعة والتواضع. غزاهم العلم والخوف والقلق. استقر فيهم الطمع، فانتج فراغاً ووحدة وعزلة وموتاً.
أضحى “برهوم” وحيداً بالرغم من أنّ دارته تعجّ بالرفاق والأنسباء. والناس بمجملهم تحولوا إلى آلات. أضحى رفاقه بغالبيتهم وحدات. أعمى الذكاء بصيرة الناس ففقدوا الإحساس.
قرّبت التكنولوجيا المسافات. فألغت غربة الهجرة. إلا أنّ الغربة أقامت في الدار. وعشعشت برودة وبعداً وكبرياء. أضحى البشر يفكرون كثيرًا. ويشعرون قليلا جداً. أصبحت حاجة البشر إلى الإنسانية وليس إلى آلات. وقد تحولوا بغالبيتهم إلى آلات. تولدت الآلات غزارة في الإنتاج إلا أنها تركت البشر في عوز شديد. صار اللطف أثمن وأندر من الذكاء.
ثمّ سمع “شارلي” يصدح: ” آسف لأني لا أريد أن أصبح امبرطوراً، فهذا لا يعنيني. لا أريد أن أحتل أو أحكم أحداً. أود أن أساعد الجميع إذا ما استطعت”. كان ما أبصره وبلغه مقاطع من خطاب الفنان تشارلي شابلن الشهير الذي تناساه البشر لأكثر من سبعين سنة. وها هي كلماته تعود اليوم، كأنها صممت لهذه الحقبة. كأنها صممت من أجله هو، كي تعالج قروح نفسه. وهو كان يحلم قبل أن يكون امبرطوراً دون أن يتمكن من ذلك. فسقط في الإحباط. شهوة السلطة والعظمة أسلمته للوحش فصار حاقداً على البشرية. استسلم لفترة للفراغ والإحباط والطمع والغريزة، حتى جاء من انتشله.
وبلغته أنغام “ريم” الصغيرة التي كانت تمسك بعلم البلاد، وتلاعبه، شادية:”لفلف، لفلف يا علم بلادي”. لقد أرادت الطفلة أن تقول “رفرف”. إلا انّ لسانها ما طاوعها لنقل ما في بالها. فكانت أن مرّرت رسالة أخرى، أكثر تطابقاً مع الواقع. وقد سمعتها “هيفا”، فأجابتها: “والله ما في رأس خال من الحكمة. أصبت يا طفلة يعقوب ابنة جبور. كل عمري أقول إنّ الولد يولد وذكاؤه معه. فالعام المنصرم كان زمن لفلفة وليس رفرفة. مات من مات وخطف من خطف وأكل ولفلف من لفلف”. سرّت ريم بما التقطت. وصدح صوتها بالأغاني والأناشيد. ضحك “برهوم” كثيراً. قبّل الصغيرة التي سألته أن يغني معها. ولمّا لم يعرف أغنية Tombe La Pluie تفاجأت. وسألته: “كيف كبرت وتعلمت يا “برهوم” وأنت لا تعرف كيف تغني Tombe La Pluie؟؟”.
وتتابعت أحداث ذاك النهار. وما بلغه عبر وسائل التواصل كان أزمات وخطف واغتيالات. شعر برغبة بالاستقالة من العالم الوهمي والعودة إلى الحقيقة. إلا انّ ذلك كان صعباً. فقد أدمن على لحس المبرد. غير أنه ما عاد يرغب أن يصبح امبرطوراً لانّ هذا ليس من شأنه. ولا يريد أن يحتل أو يحكم احداً!!! أراد أن يتعلم كيف يغني أغنية “ريم” المفضلة!