زيارة لكاتدرائية القديس اسطفان في فيينا
من ضروب الحظ التي حالفتني وفاجأتني في الجولة الأوروبية التي قمت بها مؤخراً، أنني وصلتُ إلى كاتدرائية القديس اسطفان في فيينا قبل ثلاثة أيام فقط من انتهاء عرض فني كانت تحتضنه وعنوانه “سماء من حجارة”. فمن دون تخطيط مسبق، أتيحت لي فرصة معاينةٍ مباشرة لحدثٍ فني مميز ونادر أو فريد من نوعه.
“سماء من حجارة”
هو عبارة عن 1332 حجراً أو أشكال حجارة، لأن هذه الحجارة مصنوعة من ورق. كل حجر معلق بالسقف، وتتدلى المجموعة على ارتفاع 6.5 أمتار، في ما يشبه سماء مغيّمة أو سقفاً مخرَّماً يحلِّق فوق الرؤوس.
صاحب هذا العمل هو الفنان النمساوي المعاصر بيتر بَالْدنجر (Peter Baldinger، مواليد 1958). وقد نفذه ليُعرض في فترة الصوم السابقة لعيد الفصح لدى المسيحيين. ونوَّع الفنان إضاءة تلك الحجارة فجعلها بنفسجية في فترة الصوم، ثم ذهبية في عيد الفصح، ثم حمراء في الفترة من عيد الفصح حتى عيد العنصرة.
وتتردد في أرجاء الكاتدرائية على مدى ساعات العرض المفتوحة للزوار موسيقى تعبيرية، بل أصوات غريبة ترافق الحجارة بل تتماشى مع هذا التكوين المبتكر والخارج عن المألوف.
اسطفان شهيد المسيحية الأول
واختيار “الحجارة” لتشكيل هذا التكوين الفني ليس مجرد صدفة أو ميلاً فنياً تجريدياً ومجرداً. فقد استوحى الفنان هذه الفكرة من قصة شفيع هذه الكاتدرائية، القديس اسطفان، الذي رُجم بالحجارة حتى الموت بسبب إيمانه المسيحي في الفترة التي تلت صلب المسيح، ويُعتبر أول شهيد للمسيحية.
وقد ورد أول ذكر لاسطفان في سِفر “أعمال الرسل” من كتاب العهد الجديد، حيث جاء أنه واحد من سبعة شمامسة عيَّنهم رُسُل يسوع لتوزيع الغذاء والمساعدات على الفقراء في أورشليم والتبشير برسالة المسيح في الفترة الأولى التي تلت صلبه وقيامته. وكان اسطفان قد أثار غضب اليهود بأعماله وتعاليمه فاتهموه بالتجديف. ويُروى أنه ألقى خطاباً في جلسة محاكمته، ندَّد فيه بالسلطات اليهودية، فحكم عليه مجلس المحكمة بالرجم بالحجارة حتى الموت. كما يُروى أن بولس الطرسوسي (الذي عُرف في ما بعد ببولس الرسول بعد اعتناقه المسيحية) كان شاهداً على رجمه! وبعد قتل اسطفان بهذه الطريقة، هاجر باقي الرسل إلى أراضٍ بعيدة أكثر أمناً، وخصوصاً أنطاكيا.
لماذا الرقم 1332؟ يقال، وهذا ليس مؤكداً، إن هذا الرقم هو حصيلة عملية ضرب الأرقام التي تشكل بعض قياسات الكاتدرائية!
تشابه عناوين؟
اللافت أيضاً في عنوان هذا العرض “سماء من حجارة” أنه ذكَّرني بمجموعة شعرية بعنوان “حجارةُ السماء” للشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904-1973) صدرت عام 1970. بالطبع لا أعرف، ولم يكن ممكناً لي أن أعرف، ما إذا كان الفنان بيتر بالدنجر قد قصد التلميح إلى ذلك العنوان أو محاكاته، أو استوحى منه. “حجارة السماء” لنيرودا تضمنت ثلاثين قصيدة كانت بمثابة نشيد حب للأرض، كتبها الشاعر في أواخر حياته عندما كان يصارع السرطان. وهو لم يقصد الحجارة بمعناها العادي، بل بمعناها الكوني، تلك التي تُصالح جماد الأشياء الدائمة مع تحليق الروح الهائمة، بحثاً عن جوهر الذات ومعنى الوجود على الأرض.
كاتدرائية القديس اسطفان
هي أهم مَعلَم ديني في فيينا، وأهم موقعِ جذبٍ سياحي في النمسا، إذ يمر عليها أكثر من مليون زائر في السنة. يعود تاريخ بنائها إلى عام 1147، وشهدت أحداثاً هامة في تاريخ النمسا، وخصوصاً حكم سلالة هابسبورغ. وأصبحت كنيسة رئيس الأساقفة منذ عام 1723.
سطحُها مشغول بموزاييك متعدد الألوان، يتألف من 230 ألف قطعة، ويشكل علامة فارقة جداً في مشهد فيينا. ترتفع أعلى نقطة فيها 137 متراً وتقع في برجها الجنوبي. تشكل الكاتدرائية أهم صرح بالطراز المعماري القوطي وتحتضن تسعة قرون من التاريخ الهندسي والمعماري والفني. وقد تَواصلت إضافةُ أجزاء إليها طوال القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، إلى أن اتخذت شكلها الحالي تقريباً. لعبت دوراً هاماً في حياة السكان الدينية والدنيوية، وسيطرت بمعمارها المهيب وحجمها الشامخ وقيمتها الفنية العظيمة على مشهد فيينا المنظور وعلى ذاكرة النمسا ووجدان أهلها.
لم تتعرض الكاتدرائية فقط لعوامل الزمن والطبيعة والطقس، بل لأضرار مختلفة مثل الغزو التركي في عام 1529 وعام 1683، وللحروب النابليونية، والحريق، والقصف في الحرب العالمية الثانية. وفي كل مرة كان يعاد ترميمها وتطويرها دون كلل.
في عام 1990 تم تشييد مبنى على الطراز الحديث جداً، كل واجهاته من زجاج، قبالة الكاتدرائية الطاعنة في التاريخ والصارخة عراقةً وزخرفاً وكلاسيكية. وأثار ذلك جدلاً محتدماً، سرعان ما هدأ لدى مشهد انعكاس صورة الكاتدرائية في زجاج المبنى الحديث!
البرج الجنوبي تم إنجازه في عام 1433 وقد استغرق بناؤه وزخرفته وتزيينه 65 سنة، وهو حتى الآن أعلى نقطة في فضاء مدينة فيينا (137 متراً). الصعود إليه متاح للزوار الذين عليهم أن يتسلقوا سلّماً من 343 درجة. وإن كان هذا الصعود مرهِقاً، فسرعان ما يُنسى الإرهاق لدى رؤية مشهد أخاذ يخطف الأنفاس لجسد فيينا النابض حياة وجمالاً. وقد كان هذا الموقع المرتفع من البرج يُستخدم في الماضي كمحطة مراقبة للحرائق، يطلِق منها الحراس إشارات الإنذار للسكان في حالة نشوب حريق في أي موقع من المدينة.
في الجزء الرئيسي من داخلها يقف 18 مذبحاً، عدا عن المذابح (أو الكنائس الصغيرة) الموجودة في الأجزاء الجانبية، وكلها مزينة باللوحات أو المنحوتات والزخرفات البديعة التي تشهد على عصر تَعانق فيه الفن مع الإيمان وجسَّد انتماءً قوياً إلى الكنيسة. من الكنائس الصغيرة الجانبية، كنيسة Tirna، التي بُنيت سنة 1359. وقد دُفن تحتها في عصر لاحق الأمير يوجين الذي قاد المقاومة ضد الأتراك وأوقف غزوهم لأوروبا.
في كاتدرائية القديس اسطفان 23 جرساً بأحجام مختلفة. أكبر هذه الأجراس يزن 20130 كلغ وهو ثاني أضخم جرس في أوروبا بعد جرس كاتدرائية كولون في ألمانيا. صُنع في عام 1711 من بقايا مدافع تم الاستيلاء عليها من الغزاة الأتراك.
لا شيء في تكوينات الكاتدرائية صُنع بالصدفة، فلكل دقيقٍ وضخمٍ من تفاصيلها، لكل مذبح وكل مدخل وكل برج وكل منحوتة وكل صورة، رمزه ومقصده.
فمن المعالم الموجودة في الكاتدرائية وتحتل مكانة غالية لدى النمساويين والهنغاريين على السواء، أيقونة السيدة العذراء، التي تروي الحكاية أن الدموع ظلت تسيل من عينيها طوال 15 يوماً إبان المعركة ضد الأتراك.
ومن أبرز مكونات الكاتدرائية أيضاً سرداب الموتى، أو المقابر تحت أرضها. أنشئت في نهاية القرن الرابع عشر حيث دُفن فيها الملوك والأباطرة والأمراء وأغلقت عام 1783.
ويُروى أن المؤلف الموسيقي بيتهوفن اكتشف أنه فقَدَ حاسة السمع كلياً عندما رأى حركة من دون أن يسمع صوتاً هناك: رأى طيوراً تفرُّ من قلب أحد أجراس هذه الكاتدرائية بسبب قرعها ولكنه لم يَسمع صوت الجرس.
كما تشهد لوحةٌ تذكارية في الكاتدرائية على علاقة المؤلف الموسيقي موزارت بها، حيث كان ينتمي إلى رعيتها ويتردد إليها، وقد احتفل بزواجه فيها سنة 1782، وفيها عمَّد اثنين من أبنائه، وجرت فيها مراسم دفنه في عام 1791. وقبل وفاته بفترة قصيرة كان قد عُيِّن مساعد المدير الموسيقي فيها.
منذ إنشائها تخضع كاتدرائية القديس اسطفان في فيينا لعمليات صيانة وتصليح مستمرة، خصوصاً وأن طبيعة حجارتها وجدرانها تجعلها قابلة للتأثر جداً بعوامل الطقس والأمطار والرطوبة. وأصبحت عمليات الصيانة تعتمد على أحدث التقنيات العلمية واللايزر بحثاً عن وسيلة لمنع المياه من التسلل بين الحجارة وعبر الجدران. وتم تصميم مجسَّم إلكتروني ثلاثي الأبعاد للكاتدرائية على الكومبيوتر، يستطيع الخبراء استخراج وتظهير صورة لأي جزء تفصيلي منه في حالة حصول ضرر ما، وذلك لإرشاد البنّائين التسعة الموظفين بدوام كامل في القيام بأعمال الصيانة. وتبلغ تكلفة الصيانة 2.2 مليون يورو في السنة، تُجمع كلها من التبرعات.
أسرار كاتدرائية القديس اسطفان غير مخبأة ولكن الزائر يحتاج إلى التروي في زيارتها للبحث عن هذه الأسرار والتمعن في تفاصيل كنوزها والغوص في أزمنتها والاطلاع من خلال ثرواتها الفنية والمعمارية على مراحل من تاريخ فيينا والنمسا العريق والانبهار بعظمة هذا الصرح الذي، على غرار أمثاله الكثيرة في أوروبا، يشهد على ما كان من قوة الإيمان ومكانة الكنيسة في حياة الناس.