جامعة الحكمة تكرّم جورج شامي بمناسبة تقديم مكتبته الخاصة إليها

chami- hikmeh

أقامت جامعة الحكمة احتفالا تكريميا للروائي والصحافي جورج شامي، بمناسبة تقديم مكتبته الخاصة إلى الجامعة. رعى الإحتفال، الذي اقيم في قاعة المؤتمرات الكبرى، المطران بولس مطر، وكان له كلمة في جورج شامي الحكموي العتيق وفي القيم التي حملها من الحكمة وعاشها في عالم الكلمة.

وبعدما تحدث ألامين العام للجامعة الدكتور أنطوان سعد عن شامي ومسيرته المهنية ونهجه الأدبي وأثره في الرواية الحديثة، كان للرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي غالب غانم كلمة بعنوان: “شلال في الأدب وعاصفة في الصحافة”، مثنيا على نجاح الكاتب في الميادين التي إقتحمها.

أما الشاعر والمحامي ريمون عازار فقد إنطلق من مؤلفات شامي الأخيرة وعنوانها “رواية طويلة في مسيرة عادية” معلقا بأنها سيرة إستثنائية فذة ومتألقة، وختم بأبيات شعرية.

وكان للدكتورة إلهام كلاب البساط مداخلة نقدية قاربت أدب جورج شامي وأناقة أسلوبه ووقعه في عالم اليوم.

شامي

وفي الختام، قدم رئيس الجامعة الخوري خليل شلفون كتبا من منشورات الجامعة للمحتفى به شامي الذي كان له كلمة شكر وجدانية معبرة، جاء فيها: “أنا مسكون منذ اثنتين وخمسين سنة بروح كائن آخر وبروح متفوقة أخرى.

حصل هذا التحول في ليلة أشبه بهذه الليلة، أي في 16 أيار من العام 1966. ليلة سقط علم مميز من أعلام بلادي شهيدا في مكتبه في جريدة الحياة هو كامل مروه الذي تتلمذت عليه برصاص حاقد غادر.

كان كامل مروه قبل أشهر قليلة من هذه الفاجعة قد تخلى بدافع احترازي عن تحمل المسؤولية السياسية لمصلحتي. وأنا منذ تلك الليلة أخذت أشعر بالتبدلات الصاخبة في داخلي، وبالتفوق الذي أورثني إياه في معراج التقدم والنجاح، ولم يذهب عمري هباء حتى هذا اليوم”.

اضاف: “يا أعمدة هذا الوطن العليل وتيجانه الذي يصونه ربه لا شعبه كلما ساورته الفتن، يا من شرفتموني في هذه الغمرة الاستثنائية والدافئة. اعذروني إذا صدرت مني بعض الهنات.. فأنا لست قادرا أن أقدم إلى كل واحد منكم أكثر من باقة من اكسير الحياة مضمخة بعطر الأزل ومعتقة بتسع وثمانين سنة من التخمير في هذا الصرح الحاضن الذي يعتبر “رأس الحكمة” التي بنى عليها الدبس الشجاع فردوسا ثقافيا، بات مفخرة لبنانية – عربية لا تهاب اضطهادا ولا قمعا، وداس على الجهل والظلم وعبر كغزلان البراري والسهوب الجليدية منذ أكثر من مائة وخمسين سنة، ونفخ فيها من بعده رهط من جند الله الملافنة اللاهوتيين الأولياء الاعلام روحا من الحداثة والتقدم والانفتاح يضاهي، لا بل يتجاوز الصعود إلى المجرات الضوئية والصواريخ البالستية العابرة للقارات حاملة رسالة السلام والمعرفة المعمقة بالإيمان الخلاصي، بمباركة صاحب السيادة ولي الحكمة، راعي هذا الحفل المطران بولس مطر السامي الاحترام”.

وتابع: “اسمحوا لي أن أقرأ عليكم بعضا من رسالة وجهتها إلى زمني العجوز ولي من العمر احدى وثمانون سنة، وقد مضت تسع سنوات حتى الآن لم أسمع منه جوابا ولم أكتشف له مصيرا ولا أعرف لماذا عمد، على غير عادته إلى هذا التجاهل والاهمال!

يا زمني العجوز، أذكرك اليوم وأنا في حالة من النشوة وفرح الذات لأقول لك وداعا من على رصيف الإنتظار حيث أروح وأجيء مع المنتظرين من أمثالي الذين هم على موعد مع قطار الرحلة الأخيرة!

يا زمني النبيل، أنت تعرف أنني لا أضمر لك سوى المحبة والشكر والامتنان. لقد رافقتني عمرا مديدا مفعما بالرجاء والأمل والنجاح، ولكن طريق الوصول لم تكن كلها ورودا ورياحين، ولم تخل من مطبات وعوائق وعراقيل وتعرضت خلالها للسقوط مرات ومرات في أعماق الفشل!

أضعتك مرات وآلمني ضياعك إلى حد الوجع! ولقيتك مرات وأفرحني لقاؤك. أعترف الآن أنني بت عاجزا عن التفتيش عنك، وأن المغامرة لم تعد تستهويني، وأقعدني العجز عن اللهاث وراء طموحاتك الكبرى والبحث عن ثوابت الأبعاد الإلهية والإنسانية العظمى التي تحكم العلاقة بيني وبينك!

لقد أيقنت في نهاية المطاف، أن وجودي على هذه الأرض متحول وأن حضورك في اللامنظور واللامكان هو الثابت بقدرية مطلقة!

أنت تعرف أنني لم أكن يوما انتهازيا، ولا مرائيا، ولا منافقا، ولم أكن يوما حسودا، ولا دجالا ولا متآمرا ولا غدارا، ولا كذوبا، ولا نماما، ولا سارقا… كنت مؤمنا ومتمسكا بالفضائل.

فلماذا اليوم تتخلى عني ولمصلحة من؟ هل كنت غير مستحق؟ هل هذه القيم باتت من الباليات، وباتت بلا شفاعة؟ وحلت اللامناقبية محل الأخلاقيات؟ وبات التحالف مع الشيطان هو الخيار الأخير وهو أفضل الخيارات؟ وبات الدجالون والكذبة والقتلة والنفعيون والفاسدون حكام هذه الأرض بامتياز!

إذا كنا نتساوى كلنا في الموت، فأين المفر؟ وأين هي الامتيازات المسكونة، ولماذا لا نخلق كلنا متساوين في الخير، ويسقط سيف الشر عن الرؤوس؟ هل وجود الشر يشفي؟ وما هي الحكمة في أن يكون هناك شر وأشرار، وأن يكون سيف الشر جاهزا دائما للتفرقة والقسمة والشقاق؟

يا زمني العجوز، يا خائني، يا من جعلتني ضحية الرعب القاتل والرهاب، وسقيتني سمك جرعة جرعة، يا زمني يا قاتلي، ألا قل لي أليس الموت هو خير القرابين وأغلاها التي نفعنا بها الله وهو خير الماكرين؟ لقد حطمت تمردي، وحطمت ثورتي، وحطمت طموحي، وحطمت مواهبي، وحطمت أشرعتي، وحطمت إرادتي وتركت لهاثك الحارق على جسدي. وسفحت أخطاءك وخطاياك على وجودي وكل حضوري”.

واردف: “في ظني ويقيني، أنك ازددت قسوة مع الأيام، وزادتك التجارب عنادا وصلفا وعجرفة، وكأني بك قد محوت من معجم مفرداتك كلمات من مثل الشفقة والرحمة والحنان! وشربت من “أنهار الفساد” لكي تنسجم مع الحالة المستفحلة التي نعيشها في هذا الوطن الفريد بين الأوطان؟

يا زمني العجوز، يا زمن الطيش، والعربدة، والعشق، والشبق، والمجون، والغطرسة، والكبرياء، زمن النجاح والسقوط والمغامرة. لماذا حاولت أن تغرز خنجرك المسموم في ظهري، وأنا أغط في نوم عميق مستسلما لأحلامي، وتركتني فريسة العزلة والوحدة والإحباط والإكتئاب، أعاني من آثار هذا السم العصي على كل علاج وكأنك خططت لذلك، ريثما أندثر وأتوارى!

ألهذا المقدار كنت عالة عليك؟ وكنت أثقل منكبيك؟ ألهذا المقدار كرهتني؟ أبسبب الغيرة والحسد انقلبت على الصداقة والرفقة وفضلت التخلص مني؟ وألبت علي كل الحاقدين والناقمين والكارهين في الأرض ممن أقمت بينك وبينهم حلفا مرذولا ولعينا؟

أيها التائه في اللازمان واللامكان واللامنظور واللامتناهي، يا من ضيعت سر التمايز والتغافل، كأن الخرف قد دب في تلافيف دماغك فلم تعد تميز بين الصالح والطالح، بين الشفاف وبين الضحل، بين العفيف وبين الرذيل، فساويتني بمن هم دوني، وعاملتني كمعاملتك للأشرار والمرذولين. أين هي حكمتك؟ وأين هي عدالتك؟

يا زمني العجوز، أعرف تمام المعرفة أنك تقهقه في سرك من هذه الكلمات التي أبثها إليك، ومن هذا العتاب المر، وكأني أصدر بحقك أحكاما غيابية، صدقني أنت جنيت على نفسك وعلي، وأنك ستبقى دائما وأبدا ضحية عاداتك السيئة وشهواتك الدنيئة وساديتك القائمة على الاستمتاع بتعذيب ضحيتك!

يعزيني أنني مثلك من برج الحمل، فلماذا انقلبت على هذا الواقع واخترت أن تبدل برجك لتصبح من برج العقرب؟ ألأن الغدر من شيمك؟ مرة وحيدة أطلب منك، وأصر على أن تتجاوب فتكون صادقا ولا تشوه رصيدي في سجل الأزمنة!

يا زمني العجوز، لماذا آثرت الغدر على الوفاء؟ ولماذا فضلت المراوغة على الصراحة؟ ولماذا اعتمدت الهزيمة بدلا من المواجهة؟ ولماذا اخترت النفاق بدلا من المصارحة؟ وصار الهروب أفضل خياراتك؟”.

وختم شامي: “أكتب إليك واليأس يتملكني، فلا أمل عندي، بعد آلاف الرسائل التي ظلت دون جواب، أن تصلك هذه الرسالة، ولو عبر الأثير، لأنني قد أضعت منذ زمن بعيد عناوينك وغابت عني مشاعرك واهتماماتك في المدى الروحي، بعد أن فقدت المدى الجغرافي، وتحول اللامكان واللازمان واللامنظور، قاسما مشتركا بيننا في المدى الزمني.

أنا لا أبحث عنك لأقاضيك، أو أعاتبك، ولا لأطالبك، ولا لأمارس عليك لعبة الصفح والغفران، بل لأحيطك علما بأن ما صنعته بي طوال هذا العمر المديد محفوظ في علب الذكريات، وعصي على الاهتراء والنسيان في ذاكرة التاريخ! وإنني ما نسيت، ولن أنسى الحبل المشدود الذي اضطررتني لأن أنقل خطواتي فوقه كلاعب السيرك وجعلتني مع كل خطوة معرضا للسقوط. لقد حفظته لك في مكان آمن لربما اضطررت يوما لأن تشنق نفسك به، فهو أسلم وسيلة للثأر منك!

يا زمني العجوز، يا خائني، أينما كنت، وفي أية بقاع تركت آثار أقدامك وعلى أي جسد لدن تركت بصماتك، وفي أي حقل جنيت الشهد الملوكي! يا من مزقت وطني، وضيعت عقيدتي، وسفحت قوميتي، واغتلت إيماني، وحرضتني مرات على الكفر، وأنا أبحث في الديانات السماوية عن الحقيقة، وأنقب عن القيم النبيلة فأزداد في كل مرة كفرا وأرتد خائبا وأزداد ضياعا.

يا زمني العجوز، ما زلت بانتظارك لنذهب معا، ولا أظن أنك نسيت موعد الرحيل، فوصول قطار الرحلة الأخيرة بات وشيكا فلا تتقاعس عن الحضور، أنت الذي علمتني الدقة في التزام المواعيد، ولم يخالجني الشك يوما في أن تتخلى عني في رحلة استغرقت أكثر مما كان مقدرا لها أن تستمر!”.

اترك رد