العربية خياري، وإن بقيتُ وحدي

charbel dagherrrrrrrrr

feather_pen 111 د. شربل داغر

الشكر والتقدير لمعالي وزير الثقافة، د. محمد داوود، للقيم العام، لرفاق العمر، الدكاترة: وجيه فانوس، وسهام حرب، وميشال سعادة، للأستاذ كمال البكاسيني، الذي أدار الحفل التكريمي، ولفريق العمل معه.

أصحاب المعالي، والسعادة، من وزراء ونواب، حاليين وسابقين،

ممثلي الأحزاب والتيارات السياسية،

نقيب المحررين، الاستاذ جوزف القصيفي،

د. أنطون سيف، أمين عام الحركة الثقافية،

رئيس بلدية تنورين،

وجوه الثقافة والفكر والفن، وزملائي الأكاديميين.

“لقاء”: كم يناسب اسمُ هذا المكان الجميل والرحب والمضياف سببَ اجتماعنا.

الكتاب يقيم بيننا، وإن لم نلتفت إليه. الكتاب يجمعنا، وإن نظرْنا إليه متباعدِين. فكيف إن طلبنا الاحتفاء بكتاب!

هذا الذي يتقدِّم في العمر، الذي يقف بينكم مكرَّمًا، في هذه الأمسية، لم يكن يفكر بكل هذا، عندما علَّمَه الراهب الأب مارون كرم، في قريتي وطى حوب من بلدتي تنورين، حسنَ النطق بحرف الضاد. كان يلهو إذ يتعلم، ويضجر من كلام والدته أن “الصعتر يفتح الذهن”، ومن كلام والده أن أجمل الميراث هو: وصية التعليم.

كان يتذمر ويلهو معًا، ما دامَ أن هناك دربًا سالكة وآمنة كانت تتقدم أمام خطوات صندله العجولة. هذا ما ورثَه، هذا ما عملَ على تنميته، غير مدركٍ أن اللبنان – لبنان الستينيات – الذي نشأ عليه، في تربيته وتطلعِه، تحت أنوار نجومه في الثقافة والفن، هذا اللبنان سيدخل بعضُه في بعضِه ما أن كان له أن يتقدم بما هيَّأ نفسَه له.

أحب أن أتوقف، في كلمتي، عند ثلاث كلمات حرَّكَتْني منذ أيام الفتُوَّة والتطلع: العربية والبحث والقصيدة.

أشتاق إلى العربية، مثل من يفقدُها وهو يتفقدُها. أحيانًا أقول لنفسي: أعيش في العربية، لا خارجها.

العربية تعاني، اليوم، أيامًا صعبة. باتت لغة مهمَلة، فاقدة للقيمة والأمل. هذا مؤسف وخاطئ في حسابات كثيرين، من أفراد وعائلات وحكومات. مؤسفٌ في وطنٍ، رسمَ نجمةً له في عالم العرب والعربية، أن تتراجع العربية فيه، وهو الذي تكفلَ بنهضةِ العربية، وجعلَها أشعةً تنير الكثير من العقول والنفوس منذ أكثر من مئتي سنة. مؤسف ما يحدث للعربية في لبنان وفي العالم العربي بوتيرة متسارعة، ما يجعلنا أناسًا أشبه بمخطوفين عن أنفسنا وتاريخنا ولساننا.

صدقوني: لن نخسرَ الانفتاح، ولا التقدم، ولا اللغات والمعارف، إن أحسنّا علاقتنا بالعربية. صدقوني: إن تعلمي في جامعة السوربون الجديدة-باريس الثالثة، وتمرسي بالمناهج الحديثة عند أفضل أساتذتها، هو ما مكَّنني من العربية.

العربية كانت خياري في الكتابة، فلم يعكرّْها إصداري بعض الكتب في الفرنسية في بداياتي الكتابية والبحثية. هي خياري، طامعًا في أن أجددَ الإرث مع غيري، أن نتكفلَ بالوديعة، مِمَّن سبقنا، من أهلي، ومن تراثنا اللبناني المشترك. هذا خياري في الكتابة، البحثية وغيرها، إذ إن لغة لا تحيا بالمحادثة والفكر والأدب تنخسفُ في نظر المتعاطِين بها، فلا تنير الدرب ولا الأفق.

العربية كياني. فيها أمسكتُ بالحروف والألفاظ مثل من يُمسك بصخرةٍ من جرد تنورين ليبني، وبتفاحةٍ من وطى حوب ليغتذي.

هذه العربية لا تخذلني، حتى إن بقيتُ وحدي فيها. فكيف إذ ألتقي في رحابها بأكثر من ستة عشر قرنًا، وبملايين الكُتّاب والكُتب، وبمن تعلمتُ في كُتبهم من احمد فارس الشدياق الى عبد الله العلابلي إلى أستاذي محمد أركون.

لذلك أجدد القول: في العربية مستقبلي.

هذا ما يصحُّ في البحث أيضًا، إذ لا يستقيم التقدم إلا به. تتراجع أحوال البحث، وبالعربية، بينما نتأكد من التقدم العلمي لدى هذا الطالب أو ذاك من طلابنا. غير أننا أصبحنا نخرِّج الطلاب – الطلاب الكفوئين – إلى خارج بلدنا.

كتب إبراهيم اليازجي قبل ما يزيد على المئة عام: “وإذ اللغةُ بأهلها”. التقدم لغوي بقدر ما هو فكري، وبالعكس، ولا يتعين في الهندسات التكنولوجية فقط. فكيف إذا بات التقدم – الاقتصادي وغيره – يُقاس، عندنا، بعددِ الوافدين إلى المطار، لا بتنمية اقتصاده المنتِج، ومنه اقتصاد البحث والمعرفة والكِتاب.

الثقافة لها بيت أكيد: الكتاب. والكتاب له سقفٌ متين: المستقبل الإنساني.

الكتاب مفتوح لمن يطلب القراءة، لمن يسعى إلى ترقِّينا بدل الانقياد إلى غريزتنا وتوحشنا التلقائي.

الفكرة هي التي تجمع، وهي التي تعلو بنا إلى تفاعل إنساني يُجوهر ما هو الأقوى فينا.

لذلك أجدد القول: في البحث قيمة مضافة.

تبقى دومًا الكلمة الأخيرة للقصيدة: إنها نَفَسي المتلهف دومًا إلى الحرية، فكيف عندما يُظلم الأفق! إنها رغبتي عندما تضيقُ بي الأيام… لهذا أُفسحُ لها سماء التخيُّل. فكيف إذا اجتمعَ، في كتابي الفائز، القصيدةُ التي أكتب منذ نيف وأربعين سنة مع البحث الذي أعملُ عليه منذ سنوات وعقود! هذا الفوز لم يكن بالهيِّن، لا لكثرة الكتب المرشحة للفوز – وهي بالمئات -، وإنما لأن موضوع كتابي خلافيٌّ في العالم العربي. فقصيدة النثر، موضوع الكتاب، نشأتْ في بيروت، وتكفلتْ بها مجلة “شعر”، وتعهَّدَها بالتجديد والمباينة أكثرُ من شاعر لبناني وعربي. هذه القصيدة تتقدم في عالم العربية حتى إنها باتت الأكثر إسهامًا في نظريات القصيدة والشعرية. أقول هذا تثمينًا لدور اللجنة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب، إذ أثبتتْ مصداقيتَها ونزاهتَها، ما زاد من الثقة المتعاظمة بها.

هذا الذي يتقدَّمُ في العمر، الذي يقف بينكم مكرَّمًا، في هذه الأمسية، لا يزال الشغف عينه يُحرِّكُه، ويَشغله، ويأمل دومًا في أن تتجدد ثقتنا بالعربية والبحثِ والقصيدةِ قيمةً في الحياة وفي العمل وفي الأمل. فبهذه القيم يسمو الإنسان إلى إنسانيته، ويجلوها مثل صورةٍ بهية عن الكائن والوجود.

****

(*) ألقيت في الاحتفال التكريمي الذي أُقِيم للدكتور شربل داغر ،  برعاية وزير الثقافة  الدكتور محمد داود،   لمناسبةِ  فوزه “بِجَائِزَةِ الشَّيْخِ زَايِدً لِلْكِتابِ/الْعَامِ ٢٠١٩”.

اترك رد