يعرّف الدكتور طوني غوش كتابه الصادر عن دار المكتبة الأهليّة “طفلة العرزال”، بأنّه قصّة رمزيّة إلى حدً بعيد.
وقد أصاب في هذا التعريف؛ فطفلة العرزال صوت صارخ في صحراء هذا المجتمع المأزوم، لتصحيح مسيرة الإنسان فيه عبر تغيير مفاهيم التربية وفلسفتها بغية تحقيق الهدف الذي وجدت من أجله، والذي لخّصه روسّو في قوله” التعليم هو أن نعلّم كيف نعيش”.
لذا، يفترض إعادة النظر، بصورة دائمة، في ما نعلّمه بغية تحقيق الغاية المرجوّة منه. ولا يكون ذلك إلّا بتكييف التعليم بحسب مقتضيات المرحلة الزمنيّة التي نحن فيها.
وهذه المرحلة تتميّز في الوقت نفسه” بمركزيّة الإنسان من وجهة نظر تاريخ الأرض، وبالعولمة من وجهة نظر تاريخ المجتمعات البشريّة” بحسب ما ورد في كتاب ” تعليم الحياة، بيان لتغيير التربية”لإدغار موران، الذي يدرك أهمّية الأنتروبولوجيا في ميدان التربية.
لماذا تغيير التربية؟
ببساطة، لأنّ المعرفة التي تقدّمها ليست مجرّد ترجمة للواقع وانعكاس لمعطياته فحسب، بل هي في الوقت نفسه أداة لإعادة بنائه من جديد وفق قناعات وتصوّرات تغييريّة نحو تحقيق عيش أفضل، أي يفترض أن يكون أفضل، لأنّ كلّ قرار، وكلّ اختيار، يمثّلان رهانًا.
لقد توسّل الدكتور غوش القصّة ليعرض رؤيته التربويّة بشكل فنّيّ، لا أكاديميّ. وقد تعمّد أن يكون أسلوبه سهلًا ممتنعًا، رغبة في توسيع مروحة المرسَل إليهم. فطفلة العرزال صغيرة كبيرة في آن معًا، وهي عنيدة، مشاكسة،جريئة، تعلّم نفسها، وتفهم المؤلّف بوصفه معلّمًا أنّ المعلّم الحقيقي سمّي بهذا الاسم لأنّ عليه أن يترك علامة فارقة في من يعلّمهم.وهي تستنكر أنانيّة الإنسان المعاصر ودورانه حول محور ذاته ، وابتعاده عن الطبيعة، وتبيّن له أنّ سعيه وراء الرفاهيّة لم يؤمّن له السعادة المرجوّة.
إنّها على قناعة بأنّ تغيير المجتمع رهن بتغيير التربية فيه، وجعلها تسعى إلى تعليمه الحياة لا مجرّد تحصيل العيش.
وقد أدّت الطفلة رسالة التعليم عن طريق جمع الأولاد وإعطائهم دروسًا حياتيّة وفق رؤيتها، رؤية المؤلّف نفسه. لذا، أثارت معارضة السلطات، حارسة الطقوس، واستوجبت استعمال الشدّة المتمثّلة في اقتيادها إلى مركز الشرطة والتحقيق معها، باستعمال العنف، لردعها وإجبارها على التخلّي عن زعزعة الأسس التي تحكم علاقة الأهل بأولادهم في مجال التعليم؛ فالطفلة أتهمت المؤلّف- المعلّم، ومن خلاله النظام التربويّ، بأنّه ” يسجن التلاميذ في صفوفهم بعيدًا عن الواقع حتّى يمرّغهم لاحقًا بالواقع”(ص ٤٩).
فعلى المدرسة، في رأيها ، أن تعلّم: الاعتماد على النفس، الثقة بالنفس، مواجهة مشاكل الحياة، اكتساب مهارات التفكير، الاكتشاف والاختبار والإبداع، اتّخاذ القرارات، السعادة والإسعاد، وضرورة التفكير في ما يعتبر بديهيًّا…
وفي المحصّلة، فإنّ مأساة الإنسان هي في كونه عاجزًا عن كسر المحور الذي يدور حوله أو عن إزاحته. لذا، عليه أن يتمرّد على ما وصل إليه فجعله يعيش في غربة عن نفسه وعن الطبيعة. وعلى التربية أن تؤهّله للمصالحة مع ذاته ومع الطبيعة.
يؤمن الدكتور غوش بأنّ التربية تصنع الخوارق، وقد رمز إلى ذلك في قصّته، وصرّح به.
لقد تمكّن الدكتور غوش من جذب القارئ وإثارة اهتمامه بما يقرأه، بلغة مشرقة، صافية، قريبة المتناول، بقالب قصصيّ يمتع ويفيد، في آن معًا. إنّه أديب ملتزم يفهم الأدب على أنّه رسالة، بالدرجة الأولى.
“طفلة العرزال” بيان لتغيير التربية وتغيير الإنسان من الداخل. إنّها قصّة جديرة بالقراءة والتأمّل.