(حَولَ كِتابِ «أَقمَارٌ مِن وَطَنِي» لِلأَدِيبِ جُوزف مهَنَّا)
«أَقمَارٌ مِن وَطَنِي»، مِن جُوزف مهَنَّا، قَمَرٌ فِي دُنيَا الحَرفِ، وَلا كَالأَقمَار. لا يَعكِسُ النُّورَ، بَل يُصدِرُهُ. هُوَ حَالَةٌ فَرِيدَةٌ فِي الكِتَابَةِ، وَشَبَاةٌ فَذَّةٌ لا تَعرِفُ النُّكُوص.
مِن غُرَّةِ هَذَا السِّفْرِ الصَّبِيحِ حَتَّى خَاتِمَتِهِ السُّلافِيَّةِ، نَحنُ فِي رِفْقَةِ قَلَمٍ لا يَتَخَطَّرُ إِلَّا عَلَى الشَّعَفَاتِ وَلا يَأنَسُ إِلَّا لِلمُناخاتِ العُلَى، وَدِيبَاجَةٍ عُرُوقُها سِندِيانٌ، وَثِمارُها أَعنابٌ وَكَرَزٌ وَرُمَّان.
وَأَمَّا أَدِيبُنا فَأَنُوفٌ، رَفِيقٌ، يَتَناوَلُ العَمَلَ الإِبداعِيَّ بِعَينٍ ثَاقِبَةٍ كَعَينِ النَّسرِ. يَفرَحُ لِلجَمالِ فِيهِ، وَيُبرِزُهُ، وَيَحتَفِي بِهِ، وَيَأسَى للسَّقَطاتِ، مُشِيرًا إِلى النَّافِرِ مِنها، قَصدَ التَّصوِيبِ، لا التَّثرِيبِ، مُتَقَبِّلًا الشَّوكَةَ ما دامَتِ الوَردَةُ نَدِيَّةً، أَرِجَةً، زَهْراء!
أَن تُرافِقَهُ، عَبرَ كِتابِهِ هذا، فَلا خِذلانَ وَلا خُسرانَ، بَل هَودَجٌ عَرِيضٌ مَدَى الدَّربِ، وُصُولًا إِلى المَضارِبِ الوَثِيرَةِ، فِي فَيْحِ الإِبداعِ العَجَب. وهُناكَ الخاصُّ الحَمِيمُ رُوحٌ لِلعامِّ الجامِعِ، في دِفْءِ نَجاوَى، ورِعْشاتِ نَشوَةٍ، وتَواتُرِ لَونٍ وعِطرٍ ورُؤْيا!
في تَسيارِهِ، يَتَنطَّحُ لِلصَّعبِ، ولا يَسلُكُ الدَّربَ السَّابِلَةَ، وهُوَ مَن هُوَ في التَّحكِيكِ وضُرُوبِهِ، الثَّبَتُ، الثِّقَةُ، إِمَّا احتَدَمَ النِّزالُ، في ساحَةِ العَرَبِيَّةِ العُليا، حَولَ جَمالاتِها الأَرقَى. فَكَم مِن مُفرَدَةٍ، نَتَعَشَّقُها في أَدَبِهِ، وكانَت غَرِيبَةً عَنَّا، لَها مَعَ مِبضَعِهِ جَولاتٌ وجَولاتٌ، وهِيَ الحَرُوُنُ العَوْصاءُ، استَلَّها مِن مَعاجِمِها، بِكْرًا أَوحَشَتها العُزلَةُ والغُربَةُ، فَغَشاها، وما زالَ بِها، كَرًّا، وفَرًّا، وصَقلًا، وعِشقًا، ومُداعَباتٍ، حَتَّى بَدَت، على أَنامِلِهِ الحَرَّى، مُتَوَرِّدَةَ الإِهابِ، بارِقَةَ اللَّحظِ، لا مُتَنَفِّخَةً تَجَبُّرًا، ولا ثَقِيلَةً على اللُّسْنِ والقُلُوبِ، سِيماها الوِجدانُ المُتَّقِدُ، وبَهاؤُها مِن دَلالِيَّتِها العَمِيقَةِ الغَوْرِ، وبَرِيقُها مِن فِعلِها الآسِرِ، ومُوسِيقاها أَبَدًا إِلى خَلَجاتِ الضُّلُوع. وإِذا هي في حَرِيمِ بَيانِهِ المَصُونِ، غَيْداءُ، مِن ذَواتِ الخُدُورِ، مُترَفَةٌ، يَأسُرُ شَدوُها، ويَسبِي دَلالُها. أَمَّا هو، ففي مُعتَرَكِ الهَوَى، رَجُلٌ فارِس. فَهَل تَسأَلَنْ، بَعْدُ، عَنِ اللُّقَى، وهَلِ الوِلْدَةُ إِلَّا مِن بَناتِ السِّحرِ والبَهاء؟!
إِلى مَعِينِهِ يُستَطابُ الوُرُودُ، وعَلَى أَسوارِهِ لا إِلَّا الوُرُود. فاهْرَعْ، يا طالِبَ المُعْجِزِ، وناشِدَ الآيِ في الطُّرُوسِ، إِلى رَفِيفِ حِماهُ ﴿فلا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِير﴾*.
نَعَم!
هو، في نَحتِهِ الدَّؤُوبِ، وانشِغالِهِ الدَّائِمِ في مَقالِعِ العَرَبِيَّةِ، لا يَعزِمُ إِلَّا على جَلَلٍ، وما عادَ يَومًا وفي جَعْبَتِهِ نَكِيرٌ مُنَفِّرٌ، بَلِ استَطاعَ، بِمَلَكَةٍ وخِبرَةٍ، أَن يُزاوِجَ بَينَ رُوحِ العَصرِ ولُغَةٍ شاءَها قُوتًا فِكرِيًّا جَمالِيًّا لِلسَّراةِ، والصَّفوَةِ، وأَربابِ الكَلِمِ الرَّفِيع.
خَبِيرٌ، هو، حَصِيفٌ، يُزاوِجُ الأَلفاظَ بِحُنكَةٍ نادِرَةٍ، فإِذا الفَقرَةُ، عِندَهُ، مَحبُوكَةٌ مُتَراصَّةٌ كالجَدِيلِ، طَلقَةٌ كَمَرجِ نَوْرٍ، رَخِيمَةٌ كَسِيمفُونِيَّةِ سِحرٍ، وأُسلُوبُهُ مِنَ النَّدَرَى، يُفشِي هُوِيَّتَهُ إِمَّا وَلَجتَ عَتَبَتَهُ؛ فالمُعَتَّقُ يُدرَكُ مِن رِيحِهِ، والشَّمِيمُ يُفصِحُ عَن النِّسرِينِ وقد وارَتهُ الأَكَمَة.
لَقَد أَسَّسَ صاحِبُنا مَدرَسَةً في اللُّغَةِ والأُسلُوبِ، عَسَى أَن تُرَمِّمَ، ولَو رُكنًا، مِن نَهضَةِ العَرَبِيَّةِ المُتَعَثِّرَةِ، وتُعِيدَ لها بَعضَ أَلَقِها الذَّاوِي، في سَنَواتِها العِجاف. ولَسَوفَ تَبقَى، على الأَيَّامِ، زادًا خَيِّرًا، ومَعِينًا دَفَّاقًا، لِعُشَّاقِ الكَلِمَةِ، ومِدادًا لِليَراعاتِ العَطشَى، فَقَد أَعادَ إِلى لُغَةِ الجَمالِ والغِنَى كَثِيرًا مِن رُوائِها الخَبِيءِ، وكَشَحَ عَن مَفاتِنِها سُجُفَ النِّسيانِ، فَبَدَت عَرُوسًا مُجلُوَّةً تَختالُ بِحَرِيرِها والذَّهَب!
كما وإِنَّهُ على جِدَّةٍ مُستَدامَةٍ، وإِبداعٍ مُتَماسِكٍ، وجَمالٍ مُتَأَلِّقٍ، وقَحْمِ مَجاهِلَ يَتَهَيَّبُها طَبٌّ خَبِيرٌ، في مُقارَبَةٍ مُكَثَّفَةٍ لِمَوضُوعِهِ، تُغنِي عن إِطوالٍ، أَصِيلَةٍ، قَلَّما شَهِدنا أَمثالَها، ولَو مَعَ الأَكادِيمِيِّينَ المُتَمَرِّسِينَ الكِبارِ، بِلُغَةٍ غَنِيَّةٍ بِاشتِقاقاتٍ مُبتَكَرَةٍ ما وافاها قَلَمٌ قَطُّ. فَعَجِيبٌ مُعجَمُهُ، مُتَكَرِّمٌ عَنِ الشَّوائِبِ، لا يَنضُب. كما وكَلِمَتُهُ صُلبَةٌ، عَذبَةٌ، شَجِيَّةٌ، ناعِمَةُ الجَرْسِ، طَيِّبَةُ الأُنسِ، ورُقعَتُهُ لَوحَةٌ وَضِيئَةٌ شَجِيَّةُ الأَلوانِ والظِّلالِ، ما هي لَهْوَةٌ مِن قَلَمٍ عابِثٍ، بَل فَجرٌ لِلَيالِي كَدٍّ، وتَبَحُّرٍ، ونَحتٍ، وتَنَخُّل.
يَراعَةُ أَدِيبِنا مِنَ القِلَّةِ الَّتي بَرَعَت في حَشْدِ بَلاغَةٍ عالِيَةٍ، ولُغَةٍ صَعبَةِ القِيادِ، وجَمَالِيَّةِ نَصٍّ في أَفكارٍ عَمِيقَةِ المَضمُونِ على حُلَلٍ مُنَوَّعَةٍ كَرَبِيعٍ فائِر. فَهَل لِدِيباجَتِهِ الحَسَنَةِ إِلَّا أَن تَعمُرَ بِشِعرِيَّةٍ عالِيَةِ المَنافِ حِينَ تَتَشَكَّلُ اللُّغَةُ على يَدَيهِ بهذه الفَخامَةِ، في هذا النَّسِيجِ المَحبُوكِ مِنَ الصُّوَرِ، والخَيالاتِ، والرُّؤَى، والمُوسِيقَى؟!
وهو، لِعُلُوِّ كَعْبِهِ في اللُّغَةِ، واستِرواحِهِ شَوارِدَها، وكَشفِهِ مَغالِيقَها، تَستَدرِجُهُ مُكنَتُهُ، أَحيانًا، إِلى بَعضِ صِناعَة. بَيْدَ أَنَّهُ، وهُوَ العَلاَّمَةُ العَلَمُ، تَخرُجُ مِن أَنامِلِهِ طَيِّعَةً، طَيِّبَةَ الوَقْعِ، رَخِيَّةً على السَّمعِ، مُحَبَّبَةَ السَّجْعِ، شَفِيفَةَ البَراقِع. نَقرَأُهُ وهو يَحشُدُ «المِيماتِ» وَ «الهاءَاتِ»، رَنِيمَ ناياتٍ على شَفا وادٍ: «ما ماهَرَهُ فِيْها مُجاهٍ مُماهَرَةً إِلَّا مَهَرَهُ». أَمَّا «خائِيَّاتُهُ» فلا تَقِلُّ تَماسُكًا، وتَناغُمًا، ودَلالِيَّةً، وإِيحاءً. يَقُول: «وَيا للشِّعْرِ أَرضًا خَمِرَةً يَمْسُسْكَ خُمارُها فَيَذهَبُ بِمَخامِرِ عَقلِك». وأَينَكَ مِن «سِيناتِهِ»، سُنُونُواتٍ في مَدًى أَزرَقَ: «… أَمَّا السَّرارَةُ فأَطيَبُها وأَخلَصُها. وحَسبُكَ قَلَمٌ مُسَوَّرٌ ما زالَ عَن سَرِيرِهِ يَومًا أَو دالَت سُورَةُ مَجدِه».
مُعجَمُ جُوزف مهَنَّا جَمالِيٌّ بِامتِيازٍ، وأَنَّى لَهُ هذا إِلَّا أَن يَتَوَكَّأَ على الطَّبِيعَةِ وَأَعاجِيبِها، وَالرِّيفِ وَسِحرِهِ، وَالقَريَةِ وذُخرِها الحَنِين. هذا الَّذي رَبِيعُهُ «يُولَدُ مِن أَمواجِ الأَرضِ، ومِن خُطَى العُشبِ، في بَحرٍ مِنَ المَباهِجِ لا يَنتَهِي». وهُوَ الحالِمُ، أَبَدًا، بِـ «بَوْحِ النَّاياتِ»، وَ «قَمَرِ الرَّوابِي»، وَ «أَعراسِ النَّواعِيرِ»، وَ «حُقُولِ القَصَبِ بِمَواوِيلِها اللِّطافِ فِي مَدارِجِ الرِّيح»، وهُوَ المُناجِي شَجَرَ العَطاءِ، ويا شَهْوَةً حَرَّى تَثِبُ إِلى اللَّها، وحَلاوَةً تَطْفِرُ إِلى اللِّسان. يَقُولُ: «وَتَشقَرُّ العَناقِيدُ، ويَقطُرُ التِّينُ عَسَلَهُ، ويَحلُو الإِجَّاصُ، وتَثقُلُ أَغصانُ التُّفَّاحِ بالمَواسِم». نَستَلُّ مِنهُ، والخِيارُ مُربِكٌ لِفَيضِ الجَنَى، هذه الطَّلاواتِ: «عَطَشُ الأَبارِيقِ إِلى جَسَدِ الجَداوِلِ في الرِّيف»، «فَراشَةٌ في غَسَقِ العَشايا، على ضِفَّةِ نَهرٍ، تَشِيلُ بِكَ إِلى السَّماء»، «كَمِثلِ تَرصِيعِ النَّدَى في بَساتِينَ وتِلالٍ وهِضاب».
الله! لَكَأَنِّي بِحُرُوفِهِ تَنقُلُنا، فَراشاتٍ، في إِغماضَةِ الهُدُبِ، إِلى هاتِيكَ الجِنانِ الوارِفاتِ، في حِضنِ الإِبداعِ الأَكبَر!
وما أَرَقَّهُ، وأَعذَبَهُ، وأَشجاهُ، وهو يُتحِفُنا بهذه الرَّصِيعَة: «فالسَّنابِلُ تَتَكَوكَبُ أَغمارًا كَسُوبَةَ الجَنَى. والجَداوِلُ تُباهِي الأَنهُرَ انسِيابًا وتَسَلسُلًا. والفَراشاتُ في سَلوَةٍ مِن عَيشٍ، وغِنًى عَن غِياثٍ، تُواثِبُ العَصافِيرَ العادِيَةَ على حُرُمِها. وعَن أَشجارٍ تَلتَفُّ في أَعبابِها المَناقِيرُ بِالمَناقِيرِ، تَغرِيدًا وعَندَلَةً، سَجْعًا وتَطْرِيبًا، ورَقصًا على الأَفانِينِ، فَيا لِحَلاوَةِ ثِمارٍ تَغتَنِي بِها الأَحلاقُ، فَيَسِيلُ على ذِكرِها اللُّعابُ ولا يَنقَطِع».
أَلَا إِنَّها قِطعَةٌ مِن بَهاءِ الجَبَلِ، نَقَلَها صُورَةً صادِقَةً بِوَشيِها ونَمنَماتِها، وبَثَّ فيها مِن نَبْضِ جَوارِحِهِ، فإِذا هي قِطعَةٌ مِن حَياة!
كما ولِمُعْجَمِ الفُرُوسِيَّةِ، والخَيلِ، والسُّيُوفِ، والقَنا، في أَدَبِهِ، حَيِّزٌ وافٍ. وفي فَضائِهِ، أَبَدًا، «مَضاءُ سُيُوفٍ في المَلاعِبِ»، و«قَعقَعَةُ رِماحٍ ذَوابِلَ، وحَمحَمَةُ أَفراسٍ شَدِيدَةِ الزَّوافِر». وفي أُفقِ عَينيهِ، أَنَّى شَحَذَ اليَراعَ، «فارِسٌ أَصلَتَ سَيفًا صَقِيلًا، وأَجلَبَ بِخَيلٍ ورَجْلٍ…».
ولهذا كُلِّهِ، فَفِي رِيشَتِهِ المَيَّاسَةِ – وهو مِن أَهلِ الزَّهوِ – شَرافَةٌ، هي رَشْحُ عُنفُوانٍ سَلَّهُ مِن سِندِيانِ الجَبَلِ وجَلامِدِهِ، ونَضْحٌ مِن إِباءٍ مُتَجَذِّرٍ في عُرُوقِهِ، بادٍ في جَبِينِهِ والمَلامِح.
أَدِيبُنا وَفِيٌّ لِلأَدَبِ والأُدَباءِ والنِّتاجِ السَّلِيمِ المُتَمَيِّزِ، ضَنِينٌ بِسِراجٍ ما نَفِدَ زَيتُهُ أَن تَخنُقَهُ عَتَمَة. فَأَنَّى يَتَلَمَّسُ بَلاغَةً، وعَمَلًا مُضِيئًا، فَرِجلُهُ في الرِّكابِ، يُلقِي لَفتَةَ المُحِبِّ، ويُعمِلُ المِبضَعَ المُنصِفَ، وهو الخَلُوقُ النَّبِيلُ، أَيًّا مَن يَكُنِ المُبدِعُ، يُناصِرُ القَلَمَ المَكدُودَ، ويَحُثُّ على وِرْدِ المَآثِرِ الخالِداتِ في مَظانِّها. مِن كَلامِهِ على الأَدِيبِ فلِيكس فارِس نَتَمَزَّزُ هذه اللُّمْعَةَ الإِعجازَ: «أَوَلَيسَ، إِن تَجنِ الثِّمارَ فَأَنتَ غارِسُ أَشجارِها؟!». الله.. على البَيانِ الشَّهْدِ، وَإِكسِيرِ النَّشْوَة!
وقَد يكُونُ الوَحْدَ، في جِيلِنا، تَروِيضًا لِلُّغَةِ حتَّى الوَجَعِ، وبَرْءًا لِلجَمالِ في حِماها، آنَ تَجِيشُ الحَنايا وتَغمِزُهُ الرِّقاع. فانظُرْ إِلى صَحائِفِهِ الوِضاءِ، تَجِدْهُ قَرْمًا لا يُرامُ، وجَوَّادًا ما نَضَبَت بِئْرُهُ، فهي أَبَدًا حَمُوم. مِن كَلِمَةٍ لَهُ في الشَّاعِرِ نَظمِي أَيُّوب نَقرَأُ: «مَعَ زُمُرُّدَتَيكَ، وبَعضِ قُطُوفِ شِعرِكَ، صِفْنَا لِأَيَّامٍ خَمسَةٍ أَسبَلَ فيها القَمحُ واحمَوْمَرَ الرُّمَّانُ، فَنَعِمنا ورَفِهْنا، وأُترِفْنا ومَرِحْنا، فَشَكَرنا اللهَ على أَنَّهُ بَعدُ لَنا في ضُرُوبِ الفِكرِ «ظِباءُ حُدُوْجٍ، فَتَّاناتُ حَجِيْجٍ»، تَطلُعُ عَلَينا تَغلَوْلِي وتَزهَوْهِي مِن شَقِّ يَراع. أَلَا سَلِمَت يَداكَ… وإِنَّنا لَنَستَقبِلُ قَلَمَكَ بِالفُلِّ والياسَمِين».
هَل هذا نَثرٌ، أَم نَيْلُوفَرٌ يَتَهادَى على مَاءٍ، أَم غِلالَةُ خَيالٍ مُزَركَشَةٌ بِتِبْرِ اللُّغَةِ، أَم شِعْرٌ مُترَفٌ راقٍ، أَم جُنُونٌ لِلأَوتارِ في عُرسِ المُوسِيقَى؟!
لَكَأَنِّي بِصاحِبِنا تَضِيقُ عن مَداهُ اللُّغَةُ، فَيَشتَقُّ مِنها اللَّفظَةَ الرَّائِدَةَ الَّتي تَفِي خَيالَهُ، وتُشَنِّفُ آذانَنا، كَمِثلِ «صِفْنا»، وقد صَلَّها مِن صَفْوِ الصَّيفِ وأَصْباحِهِ وطَيْرِهِ الصَّادِحِ، مَغنًى تَنعَمُ فيه الحُرُوفُ، ويَهنَأُ المَعنَى.
بَيانٌ مُلُوكِيٌّ، في قِمَّةِ الأُبَّهَةِ والأَناقَةِ، كَأَنَّهُ شَكُّ زَبَرْجَدٍ حِينًا، وحِينًا شَكُّ رِماح. في كَلامٍ، لَهُ، على الأَدِيبِ رِياض فاخُورِي، يقُولُ: «ما جَهِدَت أَفراسُهُ يَومَ التَّقاضِي مَرَّةً مِن رِمالٍ مُتَعاقِدَةٍ، فَرِماحُهُ لا تَشكُو عَطَشًا، وكُلُّ مَكانٍ يُعرِسُ فِيهِ، تَخرُجُ إِليهِ الأَبكارُ والعَواتِقُ مِن خُدُورِهِنَّ حامِلاتٍ الطِّيبَ، ومَصابِيحُهُنَّ مَلأَى زَيْتًا».
وَإِلَيكَ، يا ناظِرًا إِلى صَحِيفَتِهِ، شِعْرِيَّةَ اللُّغَةِ بِأَلفاظِها وَخَيالِها وَمُوسِيقاها وَمَدْلُولاتِها البَدِيعَةِ، في كَلامٍ لَهُ على الأُختِ جُوزفِين نَصر: «فَالسِّندِيانَةُ على ضِفافِ الزَّمَنِ الهارِبِ وَحدَها، تَحمِلُ في جِلبابِ سَفَرِها معَ الرِّيحِ، ما لا تَعرِفُهُ لُغَةُ الشَّجَرِ مِن بَلاغَةِ القَصَبِ، وشَفافِيَّةِ الصُّمُودِ، ونَشِيجِ المَحابِر».
وهو يَعرِفُ جَيِّدًا، وَلَو في قُصُورِ لُغَتِهِ السَّامِقَةِ، ونَسجِهِ المُتَعالِي، أَن يُعِيدَنا إِلى مَطارِحِ الحَنِينِ، ومَواقِدِ الدِّفءِ في الأَيَّامِ الغَوابِر. في إِطلالَةٍ وَضِيئَةٍ على نِتاجِ الأَدِيبِ عِصام حَدَّاد، وكَالوَشَلِ المُنعِشِ، يقُول: «… فَطابَ المَلمَسُ في مَسافَةِ غُربَتِنا، وأَفلَتَ جَلَدٌ أَزرَقُ مِن عُيُونِنا عادَ بِنا القَهقَرَى إِلى أَيَّامٍ دَوارِسَ مِن صَبائِنا، ما فَتِئْنا نَعُبُّ مِنها في مُغمَضاتِ اللَّيالِي ومُحلَوْلَكِ الأَيَّامِ، هَناءاتٍ تَتَقَطَّرُنَا مِن بُرَحائِنا، فَنَستَكِينُ، فَنَطْهُرُ، وتَعذُبُ الصَّلاة».
أَظُنُّنِي بِأَدِيبِنا، على وَدادِهِ لِكُلِّ إِبداعٍ، ووَفائِهِ لِكُلِّ مَن نَذَرَ لُهاثَهُ لِحَقلِ الكَلِمَةِ، هو عاشِقٌ لِقَلَمِهِ أَوَّلًا، يَستَحلِبُهُ الجَمالَ، ويَستَلُّ مِنهُ مُعجِزَ الكَلِمِ، ويَرُوضُ الحُرُوفَ بارِئًا مِن سَدِيمِها أَخيِلَةَ الرُّواءِ، وأَبراجَ العِصْمَةِ الأَدَبِيَّةِ لِلُغَةٍ حاقَت بِها الدَّواهِي، وعاثَها دُخَلاءٌ ماكِرُون. يَرسُمُ اللَّوحَةَ، فَيَقِفُ حِيالَها عاشِقًا، والِهًا بِمَفاتِنِها، مَسحُورًا بِما تَكَثَّفَ فِيها مِن رُواء. ولكِنَّهُ، بَعدَ سُكْرِهِ ونَشوَتِهِ، لا يَرضَى فَيَقنَتَ، بَل يَهُبُّ مُباهِيًا نَفسَهُ في رِقَّةِ البَيانِ وصَلابَتِه؛ ولِلَّهِ مِنهُ كَم بَهاها!
هو يَكتُبُ لِيَنتَشِيَ، ثُمَّ لإِحقاقِ الحَقِّ، وإِقامَةِ المِيزانِ، وهذا، لَعَمرِي، شَأنُ المُبدِعِينَ المُنصِفِينَ الكِبار.
جُوزف مهَنَّا!
أَعجِبْ بِهِ!
هذا المِعْمارُ الثَّقِيفُ، ابْنُ الجَبَلِ، أَعالِيهِ العَصِيَّةِ، لا يَرضَى لِعَمائِرِهِ إِلَّا الحِجارَةَ الأَبكارَ، وَلَو ناءَتِ القافِلَةُ بِالحِملِ في صُرُودٍ صَعبَةٍ، يَنقُلُها إِلى مَشغَلِهِ الصَّومَعَةِ، بِوَلَهِ الحَبِيبِ، فَيُرهِفُ زَواياها، ويَحفِرُ في مَتنِها الصَّلْدِ الأَحناءَ، ثُمَّ يَصقُلُها بِإِزمِيلِهِ السَّنِينِ، ويُمَرِّرُ أَنفاسَهُ على مَلاسَتِها، فإِذا لِقاءُ المَرمَرِ والنَّدَى كائِنٌ مُتَكامِلٌ، وإِذا الجَمادُ على لَسَنٍ وطَلاقَة!
غِناهُ في المُفرَداتِ العَمِيقَةِ الدَّلالَةِ، والعَذبَةِ الوَقْعِ، وفي الفِقراتِ المَجدُولَةِ بِالتَّشابِيهِ، والاستِعاراتِ، والرُّمُوزِ، قَلَّ مَن بَلَغَ ذُراهُ في العَرَبِيَّةِ، فَحَقَّ لَهُ أَن يُتَوَّجَ أَمِيرًا في النَّثرِ الفَنِّيِّ الرَّاقِي، والبَيانِ الصَّبِيح.
هو يَكتُبُ لِمَن يَهُزُّهُ البَدْعُ وابتِكارُ العَجَبِ، والَّذي لا تَرسُمُ الدَّهشَةَ أَسارِيرُهُ إِلَّا إِذا تَلَمَّسَ الفَخامَةَ في الأَسطُرِ الوَهَّاجَة. وهو لا يَأبَهُ لِمُقَصِّرٍ في تَوَقُّلِ المَراقِي مِن عَلْيِ لُغَةٍ مُلُوكِيَّةِ الحُضُور، ولِمَن كَلَّت عَيناهُ عَن رُؤيَةِ ما وَراءَ اللَّوحَةِ مِن عَوالِمَ هي رُوحُها المَكنُونُ، ولِمَن عَيَّتْ بَصِيرَتُهُ عَنِ اقتِفاءِ الإِبداعِ الصَّعب. إِلى أُولاءِ القُنَّعِ بِأَسهَلِ المُتَناوَلِ، ولِكُلِّ مُنكِرٍ على أَدِيبِنا مَشَقَّةَ السَّيرِ مَعَهُ، في أَدَبِهِ المَنِيعِ، نَقرَأُ مِن تُراثِ العَرَبِ: «أَنشَدَ رَجُلٌ قَوْمًا شِعْرًا، فاستَغرَبُوهُ، فقال: واللهِ ما هو بِغَرِيبٍ، ولكِنَّكُم في الأَدبِ غُرَباء».
كَذا…
فَالدُّخُولُ إِلى حَرَمِ رِيشَتِهِ لَيسَ مُتاحًا إِلَّا لِمَن صَلُبَت نَواجِذُهُ في العَرَبِيَّةِ، ورَسَخَت قَدَمُهُ، وثَبَتَت رُؤيَتُهُ في الفِكرِ واللُّغَة. إِنَّهُ صَرْحٌ أَدَبِيٌّ عالٍ، لا يَلتَحِقُ بِصُفُوفِهِ إِلَّا مَن تَدَرَّجَ في مَراحِلَ كَثِيرَةٍ، ونالَ شَهاداتِها، وُصُولًا إِلى المُستَوَياتِ الأَرقَى، حَيثُ يَكتَنِهُ سِرَّ الإِبداعِ الحَقِّ، وتُفتَحُ لَهُ أَبوابٌ سِحرِيَّةٌ تُفضِي إِلى كُهُوفٍ خُمُورُها كَأَن مِن مَنسِيَّاتِ بابِل. وهَل عَجَبٌ، والعَسَلُ لا يُشتارُ من دونِ مَشَقَّةٍ، ولَذَّةٌ تُلهِبُ الجَوارِحَ لا تَفِدُ إِلَّا مَعَ اللُهاث!
فَيا صاحِبَنا!
لَقَد تاقَت نَفسُكَ إِلى مَعالِي الأُمُورِ، فَشَرَّعَت لَكَ إِلى رِحابِها، فَبَلَغتَ القِبلَةَ العُليا، وتَبَوَّأتَ الصَّدرَ في مَحافِلِ البَدْعِ، مَعَ أَرباِبِه. فَقُرَّ عَينًا وقَلبًا، فَعَلَيكَ عُقِدَ التَّاجُ، وطابَ لِلذَّوَّاقَةِ نَثرُكَ الشِّعرُ، فَتَناقَلَتهُ الرُّكبان!
لِلَّهِ أَنتَ أَدِيبًا ما هانَ قَلَمًا يَومَ المَنابِرُ لِسَراتِها. ولِلَّهِ حَصادُكَ سُنبُلًا مُكتَنِزًا بِالحُبُوبِ الذَّهَبِ، وسِلالُكَ حَبالَى بِشَهدِ القِطاف.
أَلا مَدَّ اللهُ دَواتَكَ، وبارَكَ يَراعَتَكَ فَنَحنُ مَعَها مِن مَوعِدٍ إِلى مَواعِدَ، بَينَ رَقصِ الشُّعاعِ على رُبًى مُخضَوضِرَةٍ، في فَجرٍ شَذِيٍّ نَدِيّ!
أَكرِمْ بِكَ أَمِيرًا، ونِعِمَّا لِأَناتِكَ، كَم لَها على الضَّادِ مِن نَعْمَاء!
فَاكتُبَنْ، يا سَيِّدَ القَلَمِ، اكتُبَنْ، ونَحنُ القارِئُونَ النِّهام!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ فَاطِر، الآيَةُ 14.