ويتمان العربي

يتألف كتابي الشعري الأخير، “أنا هو آخر بصحبة ويتمان، وبودلير، ورامبو ونيتشه” (مومنت للكتب والنشر، لندن)، من أربعة كتب، والأول منها مخصص للشاعر الأميركي وولت ويتمان.

ما استوقفني في شعره، في تفاعلي معه، هو أنه، بين الشعراء الثلاثة الآخرين، كان له وجه عربي واضح. هذا ما جعلني أخصص قطعة في كتابي لوجهه هذا تحت عنوان: “ويتمان العربي”.

نراه يتحدث عن مصر، أو المؤذن، أو النيل وغيرها الكثير، مثلما تحدث رامبو بعده عن “لبنانات الحلم”. تحدث هذا أو ذاك ابتداء من الكتب. وطلب ويتمان خصوصا اللحاق بما هو بعيد عنه، في نوع من عولمة لا اسم لها بعد.

ويتمان يبدو في “أوراق العشب” مثل كريستوف كولومبس، فوق سفينة، ولكن في اتجاه معاكس: من أميركا صوب العالم القديم.

ما يتضح، في شعره، قوة عامرة بقدراتها التي تتحقق منها: قوة من يَخرج من قريته، من ولايته، إلى الولايات الأميركية كلها. هذا ما نراه في وقائع حياته أو في أشعاره، التي تحتفي بالأرض، وبتلك الروح التي تتأكد من تملكها لأرض باتت لها، وتسود فوقها، وتمنع ما يهددها فيها.

ما يستوقف في شعر ويتمان هو هذا الجمع بين الخفة والقوة، بين اللهو والتمكن، بين طلب التواصل وإعلاء الصوت الانفرادي.

ويتمان يكتب قصيدته بعينه، بعينَيه إذ تتنبهان لأي حركة، لأي ضوء، للماشِين المتهادٍين في شارع، أو للجرحى في خيمة منصوبة في العراء. أكثر من عينَين، إذ يبدو مسافرا بقوة الرغبة في لقاء، في تواصل، مع الغير، أيا كانوا.

لهذا تتخذ حركة عينَيه شكلا أبعد من المعاينة، أقرب إلى سرعة الكاميرا المتحركة، أقرب إلى السينما قبل ميلاد السينما.

باتت القصيدة معه متخففة من الأخلاق، من “أدب السادة”. صارت مشغولة بالمغمورين، من جنود ومزارعين وهامشيين في المدن، أو بالتائهين بين الولايات. مشغولة بالزمن، وهو صنو الحركة. مشغولة بالكيانية الفردية، في شغف بالحياة، سواء في الانفراد أو في الجموح، أو في التطلع إلى البعيد.

***

لعلكَ لا تعرف، يا صاحبي، أن أرنست رينان زارَ قريتي في العام 1861، وذكرَ أسماءَ مواضع فيها، معروفةٍ حتى يومنا هذا، ودرسَ نقوشًا رومانية فيها تعود إلى عهد الأمبراطور أدريان، على الرغم من عجلته الفائقة: تخيلْ أنه حلَّ بصحبة القوات الفرنسية، التي حلَّتْ فوق الشواطئ اللبنانية لضبط الأمن بعد “الفتنة” الطائفية، على أن يدرس الجغرافية الطبيعية والإنسانية التي نشأَ فيها المسيح، طامعًا من وراء ذلك رسم سيرة… إنسانية له، مثل كائنٍ تاريخي ذي مكونات ومؤثرات “محلية”. لكَ أن تعرف أن رينان أتعبَ، قبل ذلك، القيِّمين على وزارة الخارجية الفرنسية، برسائله الملحة، وبطلبِ الدعم الحكومي للقيام بهذه الرحلة العلمية : كانت للأمبراطور نابوليون الثالث حساباته من وراء الحملة “السلمية” (في ما يخص جبل لبنان والسلطنة العثمانية)، ووجدَ فيها ما يَضمن طلبات رينان، فطلبَ منه اللحاق بعداد القوات…

أكتبُ هذا، يا صاحبي، لأن رينان وجدَ في رحلته ما كنتَ تتحينُه بدوركَ في معارك الحرب الأهلية الأميركية : كنتَ تنتقلُ في عدادها لأداء خدمات الطبابة والتمريض، وبالأيدي ذاتها كنت تنصرف إلى كتابة الشعر. هذا ما تكفلتَ به بنفسك مثل مراسلٍ حربي، إن جاز القول؛ كنتَ تريد أن تعايش عن قرب، وأن تكتب عن قرب، فيما تداوي وتساعد في هيئة مُسعف طبي. ما كان اعتياديًّا لكَ، كان لرينان استثنائيًّا، إذ إن فرصة كهذه لن تتاح له مرة أخرى، على الأرجح. لهذا ما تأخر عن القيام بأكثر من مهمة في رحلته ذات الشهور المعدودة، ومنها إعداد كتاب عن الآثار الفينيقية وغيرها.

وصلَ رينان إلى قريتي بعد سنوات قليلة على صدور الطبعة الأولى من “أوراق العشب”، ووجدَ الوقت الكافي لزيارة أكثر من نبع ونَقْشٍ فيها، حتى إنه كتب بالعربية أسماء هذه المواضع في كتابه. هذا ما لم تقمْ به، يا صاحبي، إذ اكتفيتَ بالرواح والمجيء الشديدَين في الولايات، من دون أن تسافر إلى غيرها (ما عدا كندا)، حتى إنكَ تذكرُها بوصفها من “البلاد البعيدة”.

مغ ذلك، سافرتَ وسافرتَ فوق أوراق الصحف والكتب. الأكيد أنكَ كتبت عن بلدان، وذكرتَ أنهارًا ومدنًا وأقوامًا، من دون أن تزورها : لعلكَ شعرتَ، يا صاحبي، بأن بلادك، لا بلاد “العالم القديم”، هي “البعيدة” عنه واقعًا، فيما بتَّ أكثر يقينًا من أن الكرة الأرضية واحدة، وأنها باتت تضيق أو تشتاق إلى بعضها البعض. سيكتب رامبو عن “لبنانات الحلم” وغيرها من المواضع الشرقية، إلا أنه سيسافر ويقيم بين القاهرة وعدن، ولا سيما في أفريقيا الشرقية، فيما ستجدُ نفسك طالبًا لنزولات جغرافية في غير موضع، في غير حضارة، في غير دِين.

أقتطعُ بعض الوقفات من كتابك، يا صاحبي : “أسمعُ الجراد في سوريا وهو يضرب المحاصيل والعشب باندفاعات غيومه الرهيبة،

أسمعُ اللازمة القطبية في الغروب، متساقطة في استغراق على صدر النيل الأم الداكنة الشاسعة المهيبة”.

“أسمع المؤذن العربي يدعو من قمة المسجد…”.

“أرى الصحراوات الليبية، والعربية، والآسيوية”.

كما تذكر : الجزائر وطرابلس ومكة والمدينة (المنورة ؟) ومصر والمصريين والأهرام والمسلات؛ وترى “التركي يدخن الأفيون في حلب”…

مدن ومعالم عربية كثيرة في صفحة واحدة : الفرات، نينوى، مكة، السويس، باب المَنْدب، الناصرة، دمشق، بحيرة طبرية، والسوداني، والقاهرة. هذا ما تتوسعُ فيه، فلا تكتفي بذكر المواضع، وإنما تتخيل ما هو ممكن لـ”إحياء” المشهد :

“أسمعُ الدراويش ينشدون برتابة، تُوشِّيهم صيحات مسعورة، فيما يدورون مستديرين دائمًا نحو مكة”.

“أسمع من المسجد الإسلامي أذان المؤذن، أرى المصلِّين بالداخل، بلا نسق ولا موعظة، لا جدال ولا كلمة،

بل صامتين، غرباء، مخلصين، برؤوس مرفوعة، محتدمة، ووجوه منتشية.

أسمع القيثارة المصرية ذات الأوتار الكثيرة،

الأغاني البدائية لمراكبية الليل”.

تقول إنكَ تسمع، فيما كنتَ تستعير مما قرأت، بدليل حديثك عن افتتاح قناة السويس (بدأ العمل في شقِّها في العام 1859)، حيث بات الممر ممكنًا، ومقرِّبًا المسافات؛ “ممرٌّ إلى ما هو أكثر من الهند” :

“ممرٌّ إلى الهند !

عجبًا فالروح بالنسبة لك توأم المَشاهد،

أرى في أحدها قناة السويس تُستهل، وتُفتتح،

أرى موكب البواخر، والأمبراطورة أوجيني تقود الطليعة…”.

***

(*) من كتاب “أنا هو آخر، بصحبة ويتمان، بودلير، رامبو ونيتشه”، مومنت للكتب والنشر، (لندن، 2019).

(*) من صفحة دكتور شربل داغر على فيسبوك.

اترك رد