هل كان دوركايم دوركايمياً‏؟(*)

.jpg

feather_pen 111 ريمون بودون(**) 

ترجمة: رشيد المشهور‏(***)

(مركز دراسات الوحدة العربيّة)

لقد جعلني فيليب بسنارد (Besnard, 2000)، من خلال مقالته القيِّمة، أفهم بدقة أنه لا يوجد في «الانتحار» ما يمكن أن يدعم التأويل الذي اقترحه التحليل الدوركايمي للعلاقة بين الدورات الاقتصادية ومعدلات الانتحار.

وكثيرا ما تساءلت عن المبادئ التي تحكم تأويل النصوص. ويبدو لي من الوهلة الأولى، أن النصوص العلمية أبسط في التأويل من النصوص الأدبية. ولكني، لست متأكداً من ذلك بشكل عام، وأحياناً أشعر بالاستغراب تجاه الاطمئنان الذي يمنح المعلقين الاعتقاد بأن تأويلاتهم تقدم فكر مؤلف ما على النحو التالي: كما كان في الواقع حقاً (wie es eigentlich gewesen ist)، ومن ثمّة، افتراض أنه من السهل وصف الفكر كما لو كان كرسياً أو أنبوباً لغليون التدخين.

وسأوضح هذه الشكوك من خلال مثالين:

المثال الأول: يقدم ميشال سوكال (Sukale, 2002: 434) في كتابه الأكثر نجاحاً، ولمعاناً، وأصالة، حول ماكس فيبر فهماً نادراً للمؤلَّف وحياة مؤلِّفه، ويشير إلى أن فيبر لم يستخدم إلا مرة واحدة فقط مفهوم «العقلانية القيمية» (Wertrationalität) بالإضافة إلى استخدامه في الصفحات الأولى من الاقتصاد والمجتمع؛ ليصل إلى خلاصة مفادها أن المفهوم لم يكن له بدون شك أهمية كبرى بروح فيبر، وبالنتيجة يعتقد بالسماح لنفسه اعتباره مفهوماً لا معنى له.

وإذا كان «سوكال» مخطئاً، وكانت الحقيقة التي كان هو نفسه يدافع عنها لا تضفي أي معنى على مفهوم العقلانية القيمية؛ وإذا كان مجرد ضحية لهذه العادة التي تتمثل بتحديد مفهوم العقلانية في عقلانية براغماتية، كما هو الحال بشكل روتيني في الأدبيات الأنكلو – ساكسونية؛ إذا كان كل هذا فكيف لا نستطيع أن نرى أن التمييز بين العقلانية البراغماتية والعقلانية القيمية يقترن بتمييز فيبري أساسي آخر: التمييز بين «أخلاق الاعتقاد» و«أخلاق المسؤولية»؟ وبخاصة: لماذا يكون من الصعب جداً أن نقبل بأن أسباب وجود الأداة الملائمة التي قد تكون هي أسباب وجود الشيء الجيد أو المؤسسة المشروعة؟ وفي التصنيفات الفيبرية: علينا أن نقبل بأن هناك «عقلانية قيمية»، مثلما هناك «عقلانية براغماتية»؟

قد يكون هذا أمراً واقعاً لأنه كان مولعاً بالفلسفة الكلاسيكية وحساساً للوضوح الذي لم يجعل فيبر يراه مبرراً مناسباً لتأكيد التمييز. ويشير التقليد الفلسفي في الواقع إلى أن الفعل العقلاني هو دائماً المعتمد؛ ولكن أيضاً أن الهدف يمكن أن يكون على قدم المساواة في تحديد ما العادل أو الحقيقي من الناجع أو المفيد.

إن تأويل سوكال إذاً يبقى تخمينياً. وعلاوة على ذلك، فالتخمين في قضية مجرد إشارة إلى حدث لا أهمية كبرى له: إن فيبر ارتكب فلتة لسان (Calami) فرويدية. هل هذا الأمر مثير للاهتمام؟

ومن منظور آخر، تتخذ العقلانية القيمية شكـلاً من أشكال العقلانية يتميز عن العقلانية البراغماتية، وهو ما يفتح المجال للنقاش الخصب وربما الأساسي حول مفهوم العقلانية. والتشكيك في الفهم السائد للارتباط الوثيق بين العقلانية والعقلانية البراغماتية؛ هو ما ينطوي على تقبُّل حكم القيمة الذي لا يقل قابلية للفهم عن الفعل المتمثل بالاحتماء بهذه المظلة عند الحاجة. وهو ما يفسح في المسار لتحليل المعتقدات الجماعية من زاوية قيمية. ولعله أكثر غنى من الناحية العلمية للكشف عن أي خطأ ممكن.

إلى ذلك، وإذا كان فيبر نادراً ما يوسع مفهوم «العقلانية القيمية» وإذا كان يستخدم الكلمة مرتين، فإنه يوظف ضمناً المفهوم بطريقة زائدة على اللزوم: حيث تَبيَّن في جميع التحليلات أن الأفراد الذين ينتمون إلى فئة اجتماعية معينة لديهم أسباب قوية للاعتقاد بأن هذا الشيء هو جيد ومقبول أو مشروع.

المثال الثاني: كما هو معلوم جيداً، فقد وجّه دوركايم نقده اللاذع، على الدوام، إلى علم النفس: ومن ثمّ لا يأخذ علم النفس أي مكانة في تحليلاته؛ ولحسن الحظ فإنه يقارب هذا الموضوع الاجتماعي بوصفه خاضعاً لقوى اجتماعية، من جهة الإعلانات المتكررة والمثيرة للغثيان للمعلقين على دوركايم أو أولئك علماء الاجتماع الذين لا يتعبون من الثناء للحفاظ على علم الاجتماع الفرنسي من هرطقات نزعات الفردانيين للسوسيولوجيا الألمانية أو الأنكلو – سكسونية.

بالرغم من ذيوع هذا التأويل، إلا أنه يبدو مثيراً للجدل، وفي حقيقة الأمر يبقى سلبياً من الناحية العلمية. فما فائدة أن يكون هناك إسهاب في الحديث باستمرار في السوسيولوجيا بقدر علماء الاجتماع الكلاسيكيين؟ إنه رهان وتَحدٍّ للاختلافات المفترضة بين التقاليد العلمية الوطنية؟

لأن علم النفس في واقع الأمر سائد في تحليلات دوركايم. وعلى وجه الدقة: مثل فيبر، يعتبر دوركايم أن معتقدات، ومواقف، وسلوك الفرد «قابلة للفهم».

وهكذا، فإن الانتحار أقل في أوقات الأزمة السياسية والتوتر الدولي، وهو ما يقترحه، لأن الفرد من الصعب أيضاً في هذه الظروف أن يواصل التركيز على «مشاكله الصغيرة»، حول هذا الهياج المتكرر الذي يقوِّض معنوياته أو مشاكله الصحية الخاصة. ولم يكن لدى دوركايم في الاعتبار افتراضات نفسية من هذا النوع، لماذا لم تكن لديه أي فكرة لدراسة العلاقة بين معدلات الانتحار والأزمة السياسية؟

إن فرص الإقبال على الانتحار لدى البروتستانت أكبر من الكاثوليك، لأن أُسْتاذِيَّة الكاثوليكية تُبيّن للفرد كيف ينبغي تفسير النصوص المقدسة. ومنه فالكاثوليكي ليست لديه إلا صعوبة قليلة في استخلاص قواعد السلوك في حالة الصراع الأخلاقي. وقد وصف ستندال، وفلوبير وغيرهم، في صفحات لا تنسى آثار الشفاء النفسي الناتجة من يقين المؤمن لنصائح الكاهن التي تعكس تعليم الأُسْتاذِيَّة الكاثوليكية: ويتم التعبير عن هذه الحقيقة بعظمة لسانه. والبروتستانتية لا تتيح الدعامات الصلبة أيضاً: هنا، المؤمن هو نفسه الذي يحدد الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من توجيهات الكتاب المقدس. بيد أنها قد ترفع اللبس على نحو مقبول في ما يتعلق بتطبيقها على المشاكل الملموسة. لم يكن لدى دوركايم في الاعتبار افتراضات من هذا النوع، فلماذا خطرت بباله فكرة اختبار الارتباط بين الانتماء الديني ومعدلات الانتحار، وقال إنه كرس الكثير من الطاقة لهذه المهمة؟

يمكن للمرء القيام بالملاحظات المقترحة نفسها حول عدد لا يعدّ ولا يحصى من الارتباطات التي تبيِّن وتحلل الانتحار. وضمن كون لانهائي من العلاقات المتبادلة، اختار دوركايم بعضاً منها بدلاً من غيرها، لكونها مستوحاة من خلال افتراضاته النفسية. من ناحية أخرى، يمكن أن تتيح هذه الارتباطات أيضا تقديم تفسير سببي لأنه لم يتردد لرؤية الآليات النفسية التي هي نقطة انطلاق تحليلات أسباب هذه الارتباطات.

إن دوركايم يعلم ذلك قطعاً ما دام لا يمكنه استخلاص ارتباط الآليات الكامنة، وهذا وضع لا يمكن أن يكون استدلالاً بالعلاقة السببية. ويدرك علماء البيولوجيا جيداً: أن هناك علاقة بين شيوع نظام غذائي ما، والإصابة بهذا المرض لا يمكن تفسيره إلا بافتراض العلاقة السببية ما دامت الآليات الأساسية المسؤولة عنها لم تُكتشَف بعد.

تنطبق المبادئ ذاتها على علم الاجتماع وباقي التخصصات العلمية الأخرى. يدل كل شيء على أن دوركايم كان يدرك هذا الأمر جيداً. ولعلّي أطيل الحديث إلى أجل غير مسمى على الأهمية الحيوية التي يوليها دوركايم لفهم السلوك في كتاب الانتحار. وكذلك أود أن أذكِّر على نطاق واسع بـ تقسيم العمل الاجتماعي أو الأشكال الأوليّة للحياة الدينية. ولكن، سأقصر حديثي على بعض المعطيات في هذين العملين، بما أنني درست ذلك في مكان آخر.

لقد حدَّد دوركايم (Durkheim, (1960[1893]: 146) أيضاً، بكل وضوح، ضمن كتاب تقسيم العمل، أن «النزعة الفردانية لا تبدأ في أي مكان»، وأن أطروحة المعلقين تمرُّ في صمت بانتظام. وهو ما يعني أن الفرد يقلق على ذاته في كل مجتمع، وأنه يعرف الحق والقدرة على تقييم المؤسسات في القوة والحكم على أساس هذا القلق (Boudon, 2002).

تعود التطورات التي أدت إلى التعميق المستمر «للفردانية» إلى الميل الذي يكمن في اختيارات المؤسسات التي تمنح الضمانات لقلق الذات هذا. حيث «الرقابة الاجتماعية» تجعل الفرد أكثر ليونة، ويتعدى القانون المدني شيئاً فشيئاً على نطاق واسع على القانون الجنائي، لأنهما على قدر متساوٍ من الفعالية، ونمذجة تفاضل الرقابة الاجتماعية أكثر احتراماً لـ «النزعة الفردانية»، وأكثر حرصاً على قيمة الفرد في علاقته عادة بكل فرد، أقاربه والآخرين. ومما لا شك فيه أن «الكثافة الاجتماعية» تؤدي دوراً حاسماً في هذا التطور: لكن دورها يُقْتَصَر على تهيئة الشروط لقيم الفردانيين في التعبير باستمرار عن أنفسهم بحرية أكبر وأكثر كثافة. إنها ليست في حد ذاتها سبباً في تطور هذه القضية.

لقد طوّر دوركايم (Durkheim, 1979[1912]) في الأشكال الأوليّة للحياة الدينية، كما أكّدت في مكان آخر (Boudon, 2000: 106‑118)، نظرية السحر الذي تنكّر له ذلك «ليفي – بروهل» (Lévy-Bruhl). وقد استمرت المعتقدات السحرية على الرغم من نفي الواقع لها، لا لكون أن الساحر مَسْكُون «بعقلية بدائية» التي من شأنها أن تجعله غير حساس لمبدأ التناقض بصفة خاصة. وإنما يتم الاحتفاظ بالمعتقدات السحرية للأسباب نفسها التي تجعل المعتقدات العلمية الخاطئة ما زالت قائمة الوجود. ويفعل الساحر بالضبط الإجراءات نفسها التي يسلكها العالم؛ يقول دوركايم: ضمن فشل ممارساته السحرية، ويستخدم عادة، مثل العالم، افتراضات إضافية مساعدة. إن السيرورة النفسية للعمل داخل التركيب، والصيانة، وانحطاط المعتقدات السحرية مماثلة لتلك التي يسلم بها عادة كتاب تاريخ العلوم.

لقد قادتني هذه الملاحظة إلى نقطة هامة. وهي أن علم النفس الذي يُنفَّذ من قبل مؤرخي العلوم هو علم النفس الذي يكون جديراً «بالعقلاني» بالمعنى الذي يحيل عليه نيسبيت (Nisbet, 1993: 110): هذه هي حقيقة علم النفس دوماً. من أرسطو و«الأخلاقيين» الكلاسيكيين. وهكذا استخدمه فيبر. وهو أيضاً المعنى نفسه الذي استخدمه دوركايم. وقد أعرب فيبر بشكل لا لبس فيه عن استيائه من «علم نفس الأعماق» وبخاصة ضد ادعاء تطبيق علم النفس في التحليل السوسيولوجي (Baumgarten, 1964). وعلم النفس الذي طبّقه فيبر في تحليله هو في الواقع علم النفس العقلاني على الدوام. لأن الشخصيات النموذجية – المثالية التي يحلل بها السلوكات والمعتقدات تُحرَّك من خلال الدوافع والأسباب القابلة للفهم: تلك التي تُثار عادة في الحياة اليومية.

لم يستخدم دوركايم على الإطلاق، دون زيادة، علم نفس الأعماق. إن انتحار البروتستانتي، والصحافي، وأعزب النموذج – المثالي، راجع في تمثّل الساحر إلى تداع بسبب فشل طقوسه، أما في تخيّل المشرِّع فهو راجع إلى قياس أكثر ليونة «للسلطة الاجتماعية» وخضوعه لكل الأسباب والدوافع «العادية»، ومن ثمّ القابلة للفهم بالمعنى الفيبري.

لماذا لم يُظهر معلقو الفترة المعاصرة الميل إلى تفسير فكر دوركايم على أنه إقرار برؤية سببية للسلوك: أعني رؤية تُسلِّم بأن السلوك يُفسر عبر القوى المؤثرة في الجزء الخلفي من الفاعل؟ إن التخمين الذي أقترحه هو نتيجة لمفارقة تاريخية. تبدو في التأثير الهائل للمفاهيم السائدة ولا سيَّما من طريق الماركسية والتحليل النفسي («الوعي الزائف»، «اللاوعي» خاصة)، وكذلك المبادئ المُلزِمة للفلسفة الوضعية (تقتصر على تحليل العلاقات بين ما يمكن ملاحظته، وغيرها)، وتأثير إضفاء المشروعية بافتراض أن السلوكات والمعتقدات الفردية ينبغي النظر إليها على أنها آثار ناجمة عن القوى الاجتماعية أو النفسية.

صحيح أن دوركايم يعمل أحياناً على استخدام عبارات مضللة، عندما أشار إلى وجود جينات انتحارية مشتركة» مثـلاً، وأنها تحفز بسهولة فكرة التفسير السببي للسلوكيات والمعتقدات الفردية: وهو شرح تحت تأثير القوى. وقد جَمُدَ ذهن متّقد مثل ما حصل مع نيسبيت في هذه القضية (Nisbet, 1993: 110). وصحيح أيضا أن دوركايم تأثر بالفلسفة الوضعية.

لكن يبدو من غير المقبول فرض مفهوم السلوك الذي تم توحيده تحت تأثير حركات الأفكار الهامشية التي توسعت لاحقاً. وحتى حدود كتابة هذا المقال، لم يتم تثبيت الماركسية والتحليل النفسي بعد. من حيث هي حركات هامشية، وبخاصة في ما يتعلق بتأثيرها في الفكر العلمي. ونحن لا نرى أن دوركايم قد تأثَّر بمفاهيم «الوعي الزائف» أو «اللاوعي» مثـلاً، ولكن لم يدعم مثل هذه المفاهيم. ويظهر التفسير السببي للسلوك والمعتقدات على الفور كما لو أنه لا يقوم على أي أساس من الصحة ولا يكاد يعكس التفسيرات من الدرجة الأولى من الاستعارات الجافة. ونحن نرى في ذلك عدم وقوع لدوركايم. لذلك، كل التحليلات تسلط الضوء على العلاقات بين كل ما هو قابل للملاحظة، ولكن تدعم التفسيرات السببية وتُقدِّم الافتراضات المقترضة من علم النفس العقلاني. وتناقش هذه الافتراضات المضمر والخفي، وربما لأسباب تتعلق بالولاء للفلسفة الوضعية السائدة، ولكن أيضاً لأنها ببساطة لا تستحق أن تكون متطورة. في تحليلاته، ما زال فيبر لم يعمل إلا القليل، ولا يزيد على لحظة الفهم. ولهذه الأسباب: هذه المرة هي لحظة ضرورية للتفسير، ولكن تحريك المعرفة يمكن الوصول إليها بسهولة لجميع علم النفس العقلاني.

باختصار، إن السهولة التي يرجعها البعض إلى دوركايم في رؤية سببية للسلوك والمعتقدات قد تنبع أساساً من الرأي القائل بأن السلوك والمعتقدات يمكن تحليلها بوصفها آثاراً للقوى الاجتماعية التي تعمل مثل القوى البيولوجية، دون علم بالموضوع. ولكن هذه الفكرة قد اكتسبت وضعاً مبتذلاً انطلاقاً من الماركسية، والتحليل النفسي، والمدرسة السلوكية (علم النفس المستلهم من الفلاسفة الوضعيين)، ومنح له أساس لقبه التقني.

إن التأثير الكبير لهذا الاعتقاد دعا إلى ممارسة خاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين ويوضح أن التفسير السببي للسلوك كان شائعاً بين الدوركايميين الجدد، ولكنه كان غائباً لدى دوركايم نفسه. أما بالنسبة إلى الأطروحة الدوركايمية المتعلقة بالحاجة إلى علم الاجتماع لتجنب «النزعة النفسية» (Psychologisme) وشرح الوقائع الاجتماعية من خلال الوقائع الاجتماعية، ونحن يمكن أن نوفر ترجمة خالية من الإسهاب الذي غالباً ما يميز تعليقات هذه الأقوال الأمثال.

إنه يشير أولاً إلى اعتبار الأفراد لكونه عالم اجتماع، ليسوا أفراداً فرديين، ولكنهم أفراد النموذج – المثالي، على حد تعبير فيبر. هكذا رسم الانتحار تحليـلاً نفسياً لدى أعزب النموذج – المثالي؛ إنه يعارض صناعة النموذج – المثالي لدى فلاح النموذج – المثالي. وتصف الأشكال الأوليّة للحياة الدينية ساحر النموذج – المثالي.

ويشير، من جهة أخرى، إلى أن المتغيرات المستقلة والتابعة التي تهم عالم الاجتماع هي المتغيرات الماكروسكوبية، والعمليات الميكروسكوبية مع وضع المتغيرات الوسيطة بالاعتبار. ولكن، مرة أخرى، كل تحليلات دوركايم تظهر بوضوح أنه كان يدرك تماماً صعوبات استنباط تلازم العلاقات السببية. وأن الاستدلال الذي قاسه جيداً لا يمكن اعتباره مكتسباً انطلاقاً من اللحظة التي يمكن أن تظهر ذلك الارتباط بين اثنين من المتغيرات الماكروسكوبية هو ناتج من أسباب ودوافع فردية قابلة للفهم. ومن المعلوم أن أفراد النموذج – المثالي يُرجعون هذه الأسباب والدوافع إلى سياق اجتماعي معطى وجاهز. ومن الضروري أخذ ذلك في الحسبان إذا أردنا فهم دوافعهم وأسبابهم. ولكن هذه الأخيرة تندرج ضمن «علم النفس العقلاني» بالمعنى الذي يحيل عليه «نيسبيت».

أدرك أن مؤرخ الأفكار محكوم عليه بالتحلي بخصال التواضع للتعبير بشكل مهني. ولكن هذا لا يعفيه من حساسية خطر المفارقة التاريخية. ويظهر أن «سوكال» أخذ كلمة «عقلانية» بهذا المعنى، لا كما قدّمه فيبر، ولكن مثل أنجلو – ساكسونيو اليوم. بالرغم من ذلك فإن السوسيولوجيين «الدوركايميين» الحاليين يقرأون في ضوء «koinè» المقدمة في مجال علم النفس عبر حركات الفكر وتأثيرها فيما بعد. فهل إن حرص المؤوِّل على التحلي بالتواضع يفرض عليه – من جانب آخر – التمسّك برسالة النصوص التي يدرسها؟ وتشير الرسالة من نصوص فيبر إلى أنها استخدمت مرتين عبارة «العقلانية القيمية»، والرسالة الموجهة من دوركايم لا تثير أبداً مفهوم الفهم ويبدو أنه يضع منهجه على طرفَي نقيض من فيبر. وروحهم تخبرنا بأن دوركايم لن يوافق على أن يطلق عليه «دوركايمياً».

المصادر:

(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة إضافات العددان 36 – 37 لخريف 2016 وشتاء 2017.

(**) ريمون بودون: عالم اجتماع فرنسي.

(***) رشيد المشهور‏: باحث مغربي في الفلسفة والتربية وعلم الاجتماع.

Baumgarten, Eduard (1964). Max Weber: Werk und Person. Tübingen: Mohr Siebeck.

Besnard Philippe (2000). «Variations autour du Suicide.» dans: Jean Baechler, François Chazel et Ramine Kamrane. L’Acteur et ses raisons. Paris: Presses universitaires de France, pp. 59‑68.

Boudon, Raymond (2000). Études sur les sociologues classiques, II. Paris: Presses universitaires de France.

Boudon, Raymond (2002). Déclin de la morale? Déclin des valeurs?. Paris: Presses universitaires de France.

Durkheim, Émile. (1960 [1893]). De la division du travail social. Paris: Presses universitaires de France.

Durkheim, Émile. (1979 [1912]). Les Formes élémentaires de la vie religieuse. Paris: Presses universitaires de France.

Nisbet, Robert. (1993). La Tradition sociologique. Paris: Presses universitaires de France. Trad. de The Sociological Tradition. Glencoe, Ill.: The Free Press, 1966.

Sukale Michael (2002). Max Weber: Leidenschaft und Disziplin. Tübingen, Mohr Siebeck

اترك رد