قبّعـة الجندرمة

كان أبي، حضنه الله، دركياً وارف الجبين نقّي الكفّ، عشير البسمة، مشاعي القلب، عنيداً في المناقبيات، حريصاً على هندسة هندامه وتخيّر الفاظه ومعنى كلامه… فهو “ابن حكومة”، وصورة الدولة بين الناس.

ورأس هندام الدركي، “كاسكيت”، مشغولة، بما يليق برجل الأمن وضابط السلوكيات وحارس الكرامة. والكاسكيت، هي قبّعة الجندرمة، يعتمرها الأفندي هالة هيبة، فتزيده سلطة واحتراماً ومعنويات، وتزيّن طلّته على الناس. ومن جماليات تلك القبعة الكاكية، انها قاعدة لأرزة فضيّة، مضفّرة بأغصان الغار وأجمل من الأجمل أن تغمر رأس أبي بلطف. أبي، الذي أواظب على استحضار قامته ودفء حنانه، فإذا بصورته أول ما تنفتح عليه عيناي، وآخر ما تنغلقان عليه قبل إطباقة النوم وغفوة الصلاة. فما استحضرته مرّة لرجوة او مهمّة إلاّ وكان متأهّباً لتنفيذ أمر ولده البكر، الذي أورثه وصيّةً قانونها، المحبّة والبقاء في دائرة الخير…!

حفظت الوصية وعلّقتها في عنقي قلادة. شغلني بوالدي، وانا أتدرّب السير في معارج الحياة، وانفطم عمّا يبهج الولد، العلاقة التي كانت بينه وبين قبّعته، والذي، بعد ان تقاعد من السلك، حملها معه الى البيت من المخفر، ذخيرة، يتبرّك منها ويباركنا بها، ويدمع لأيام عزّها، مستذكراً ما كانت تعنيه من مجد، وطمأنينة سلامية للناس.

وما أثار فضولي، احترامه الشديد للقبعة التي استودعها رأسه لثلاثين سنة من الخدمة الفعلية، تنقَّل في خلالها بين طرابلس وبيروت وحمّانا، التي أحبّها، حبّه لبلدته البقاعية رأس بعلبك، فسكنّا فيها ستاً وعشرين سنة، كانت لنا، حمّانا، (جنّة لبنان) ساحة الطفولة ومربع الصبا ومدخلنا الى الشباب ومدرسة الرجولة، لشدة ما تعلّقنا بأرضها وأهلها، فكنّا منهم ولهم، وكانوا منّا ولنا، الى حدّ الحلول، ولا نزال… والفضل، لأهل حمّانا الطيّبين، الذين لكثرة ما استلطفوا أبي أدخلوه قلوبهم، ونادوه تحبّباً بـ(جوز عمّتي)… حتى غدت تلك المناداة الناعمة لقباً لازمه، الى ان غاب.

ولعلّ (جوز عمّتي)، هو الوحيد من رجال الدرك، الذي خدم في فصيلة واحدة على مدى سبع عشرة سنة متواصلة، بسماحٍ من القادة وتعلّق من وجهاء حمانا وأهلها بشخصه، لأنه أفندي البلدة، بل ابنها الأصيل، الذي ما بخل عليها بعصارة القلب ولا بعرق الجبين ولا بالدمّ… يوم تطلب الوفاء لأهلها قربانة دم…!!

****

 شغلني بأبي، أيُّ اعتناء كان يصرفه بالحرص على قبعته، حبّة البركة، فكان متى رفعها عن رأسه حضنها كما الجوهرة، ووضعها أرفع مكان في البيت، خوفا على معنى القبعة وكرامة الأرزة وما تحتها من ذخائر. وكم لافتٌ ولذيذ ان تدفعني حشرية الولدنة الى اللعب بالقبعة، في بَرْقة طَيْش وتخلٍّ، فأختلسها للحظة، متمثلاً الأفندي الكبير، بهناءات وظيفته، مزهواً بأنني ابن دركي، وكأن الدنيا لي، فيردعني أبي، وكأنني صانع الكبائر، أو متجاسر على كرامة البذّة العسكرية، أو مخلّ بأمن ذكرياته الكاكية، فينبهني بعبسة رضى وبنبرة جادّة، ان الكاسكيت شرف العسكري وعنوان هيبته، فلا مزاح معها ولا لهو بها… هي للمهات فقط!!! كنت مطيعاً لأبي، اتهيّب كرامة الدرك، وفعلت كما كان يفعل… قبَّلت قبّعته برجفة وَجَل، ورفعت اليه “ذخائره”، كأغلى من اغلى التقدمات. خفضت رأسي وأقفلت عينيَّ على زعلة… قلت عفواً، وأقسمت الاّ أدخل قدس أقداسه إلاّ وأنا مستحقّ لعزٍّ ما فوقه عزّ… هو ان أكون ابن دركي وابن (جوز عمتي) بالذات.

***

 لفتتني في سلوكيات أبي، المناقبية المدنية التي عاشها وربّانا عليها، من خلال تصرفاته، المرافقة لاستعمالات قبّعة الدرك. فها هو يحتضنها، كأغلى الأشياء على قلبه، ويحترمها، وكأنه في حضرة القائد، وها هو يرفعها احتراماً، اذا ما مرّ أمام كنيسة أو جامع، وهاكه يرفعها وقاراً اذا ما مرّت جنازة، أو يحملها بيده اذا ما سلّم على كبير مقام، أو حامل سنين من العمر… يفعل ذلك باحترام، وكأن شرف العسكري في سلوكيات قبّعته!!!

***

مرّة، قرّرت ان اقف على معنى مواظبة ابي على تقبيل قلب قبّعته مغمضاً عينيه، وكأنه أمام ايقونة! صمّمت على اكتشاف سرّ مهنة الخشوع للقبعة، التي ما دخلنا كنيسة أو مزاراً، الاّ ومشحها بماء جرن التبرّك وحنى رأسه، في رتبة سجود، وصلّى بصمت. جمعت ضعفي وسألته متهيّباً الموقف خوف المزاح، وكان الجواب دمعة باردة، سرعان ما لمعت في عَينه قبل ان تبلعها غصّة، لأن الدركي لا يبكي.

 حضنني وأخبر: “يوم تطوّعت في سلك الجندرمة، قدَّمتْ لي جدتك (صورة مكرّسة لسيدة رأس بعلبك) وطلبَتْ مني ان اتبرّك من ايقونتها العجائبية، لأنها ستحفظني وتبارك ايامي. ففعلت برضىً عظيم وكنت كلما مُنحت إجازة، زرت أهلي وحججت الى كنيسة سيدة الراس، حفظاً لوصيّة امّي، التي يوم انتقلت الى رحمة الربّ، كانت راكعة للصلاة في زاوية الدار، وفي يدها صورة لأبنائها الثلاثة: كبيرنا يوسف في الجيش، وصغيرنا أنطون في الكلية البطريركية في القدس، وأنا، بعهدة الدرك. وأوجع الوجع الاّ تموت أمّك على زندك يا بني…، والأوجع ان تتيتم…! كلنا في اليتم طفل..! يومها يا ولدي، قرّرت أن أضع صورة أمّي الى جانب صورة “سيدة الراس” في ايقونسطاس قبعتي… وكم جميل يا بني أن تكلّل رأسك ببركة العذراء وتحمي نفسك بطيف أمّك..!! وليس من مكان أعظم من كاسكيت الجندرمة استضيف فيها ايقونة العذراء وصورة أمّي…”..!. أخبرني، ترحّم… وتنهّد إيماناً ووفاءً لمَنْ أبّد ذكراها في قبّعته – المزار وارتاحت على خدي دمعة لأنني اكتشفت سرّ طفولة أبي، وتربيتنا على الخير…

****

تنهيدة أبي، ردّتني الى خواطر وتساؤلات، عن مواظبته على احتفالية التمجيد التي كان يؤديها للعَلم والقبّعة، وفريضة الخشوع للذخائر التي تسلّح بها في أدّق الملّمات. ويوم، تقاعد من الحياة، في تقاعده الثاني، لملمنا متروكاته. ضوّعنا سبحته وشحيمة الصلاة وذكريات الخدمة ومحفوظات الجندرمة، لمّعنا الأوسمة وكلّلنا بها قبّعة الأفندية، التي لا نزال نرفع بها رأسنا اعتزازاّ ووفاء والتي كلّما اشتقنا لمجالسة أبي، من وراء الغيم، قبّلناها كذخيرة قماشية لشفيعنا في السماء، الغائب عنّا، والهارع إلينا، غبَّ الطلب، برمشة عين. قبعة ابي ترشح كرامةً وحباً، ولا تتأخر علينا بالعطاء. نحن نطلب وهي تستجيب…!

اترك رد