آخر أمير

في مثل هذا اليوم، الرابع من حزيران، من العام 1961، أقيم احتفال كبير في قاعة قصر الأونيسكو في بيروت، لمبايعة الأخطل الصغير، بشارة عبدالله الخوري (1885- 1968) بإمارة الشعر العربيّ.

وإمارة الشعر كانت شاغرة منذ وفاة أوّل أمير، أحمد شوقي( 14 تشرين الأوّل 1932)، الذي سمّى أمين نخلة وليًّا لعهده، في قصيدة نشرها نخلة في مقدّمة ديوانه ” دفتر الغزل”(1952)، ولم ترد في الشوقيّات، وجاء فيها:

هذا وليّ لعهدي وقيّم الشعر بعدي…

والعصر عصر أمين خير ومطلع سعد

وأمين نخلة هو الذي مثّل، حصريًّا، لبنان شعرًا في مهرجان مبايعة الأخطل بعد أن تولّى ميشال الأسمر، مؤسّس الندوة اللبنانيّة، مهمّة إقناع سعيد عقل بالمشاركة بكلمة نثريّة، فقبل عل مضض، بحسب ما صرّح به عبدالله الأخطل، نجل الشاعر، فقال نخلة:

أيقولون أخطل وصغير أنت في دولة القوافي أمير

ولك التاج والمطارف والبُرْ دُ وركن مجلّل وسرير

فاسحب الذيل ما تشاء وجرّر إنّ ملك البيان ملك كبير

وقد قيل إنّ هذه القصيدة جاءت ردًّا على رسالة وجّهها الأخطل إلى أمين نخلة إثر تمثيله لبنان في ذكرى أبي تمّام، في دمشق، وإلقائه القصيدة التي قال فيها:

أفسِحوا في محفل الشعر لنا نحن من لبنان من عليا الدنى

جيرة الأرز وضاحي ظلّه والربى الخضر ووشي المنحنى

وخاطبه في رسالته بقوله” أديبنا الأوّل الأستاذ أمين نخلة”…

aktal al saghir

أمير الشعراء بشارة الخوري

وقد قام على إثرها صالح جودت بكتابة مقالة بعنوان” شوقي وحافظ اللبنانيّان” أشار فيها إلى وجود منافسة بين أمين نخلة والأخطل الصغير تشطر اللبنانيّين نصفين، واحدًا يميل إلى الأمين والآخر إلى الأخطل، أي كما كان الأمر في مصر أيّام شوقي وحافظ…

على أنّ المنافسة كانت على أشدّها، في ما بعد، ما بين سعيد عقل وأمين نخلة، وقد تجاوزها سعيد عقل عندما كتب قصيدة لإلقائها في حفلة تكريم لأمين كانت مقرّرة في العام 1975، قبل وفاته بحوالى سنة، وقد أجّلت ولم تحصل، ومطلعها:

بيني وبينك لا ملك ولا تاج قم نرتقي الخلد، شعري اليوم معراج…

والحديث يطول، والمجال ضيّق، لذلك أكتفي بالتذكير أنّ من أروع ما قيل في ذلك المهرجان ردّ الأخطل الصغير الذي جاء فيه:

أيوم أصبحت لا شمسي ولا قمري من ذا يغـنّي على عود بلا وتر

أنا القوافي إذا جاذبـتها نــفــرت رعت شبابي وخانتني على كبر

كأنّها ما ارتوت من أدمعي ودمي ولا غذتها ليالي الوجد والسمر…

ولقد أعجبنا كثيرًا بهذه الأبيات، ولم يقلّل من إعجابنا تصريح إبن الشاعر ، عبدالله الأخطل، بأنّه هو من نظمها لوالده الذي كان مريضًا ومتعبًا، والله أعلم!

وعلى سبيل الاستطراد والتذكير، فإنّ الأخطل الصغير كان صحافيًّا مناضلًا وقد ورد اسمه في لائحة جمال باشا السفّاح، إلى جانب أسماء من أعدمهم في السادس من أيّار، ولو لم يبادر صديقه محمّد كرد علي إلى إعلامه بنيّة السفّاح، وطلبه منه أن يحرق جميع المستندات التي تدينه، وأن يفرّ إلى مكان آمن ( هرب إلى ريفون واستعمل اسمًا مستعارًا ولقّب نفسه بالأخطل…) للقيَ حتفه في العام 1916.

أمّا الفرنسيّون فأقفلوا جريدته لمطالبته بالاستقلال… وقد عرّض نفسه للخطر عندما ألقى قصيدته الشهيرة:

يا أمّة غدت الذئاب تسوسها غرقت سفينتها فأين رئيسها؟

والتي دعا فيها إلى الثورة…

aktal-abdel wahab

الأخطل الصغير ومحمد عبد الوهاب.

من أطرف ما نقله جورج ابراهيم الخوري عن الأخطل قوله “سامح الله عبد الوهّاب، لقد أجبرني أن أصبح زجّالًا مصريًّا”. وقصّة ذلك أنّ المطرب العظيم طلب من الأخطل أن يكتب له أغنية يفهمها المصريّ واللبنانيّ والسوريّ و… فجاءت كلمات الأغنية المشهورة ” يا ورد مين يشتريك” ما بين العامّيّة والفصحى بتوليفة عبقريّة لقيت نجاحًا منقطع النظير، قال فيها:

يا ورد مين يشتريك وللحبيب يهديك

يهدي إليه الأمل والهوى والقبل، يا ورد…

ويذكر أنّ عبد الوهّاب أبرق إلى الأخطل يستأذنه في تلحين قصيدته “إسقنيها بأبي أنت وأمّي”، فتأخّر الشاعر في الردّ، وصدف أن طلبت القصيدة المطربة أسمهان فكان لها ما أرادت، وقد عاتب المطرب الشاعر على فعلته ولم يقتنع بأنّ أسمهان سبقته في طلبها.

الأخطل الصغيرعملاق نهضويّ أصيل، ومناضل ملتزم، سخّر قلمه، شعرًا ونثرًا، لخدمة الحرّيّة والتحرّر، ومن حقّه أن يعطى مساحة أوسع ممّا أعطي في مناهجنا الرسميّة. إنّه شاعر “يا عاقد الحاجبين” و “جفنه علّم الغزل” وهو الذي قال لبغداد:

” قولي لشمسك لا تغيبي وتكبّدي فلك القلوب”، وهو القائل ” يبكي ويضحك لا حزنًا ولا فرحًا كعاشق خطّ سطرًا بالهوى ومحا”.

أخطأ الأخطل في قوله:

ولد الهوى والشعر ليلة مولدي وسيحملان معي على ألواحي.

نذهب ويبقى الهوى (والخمر) والشعر…

(4\6\2019)

اترك رد