بالرُّغم من تطوّر العلوم الإنسانيّة والوعي على حقوق الإنسان، وتقدُّم العِلم والتِّكنولوجيّا، يبقى قسمٌ كبيرٌ من أفراد المُجتمعات، بحالةٍ من الضَّياع والتشرذم، والتَّفكُّك، وعيش الصِّراعات وسائر الحالات السَّلبيّة، الَّتي تُبعد المواطن عن مواطنيّته وعن مؤسّسات الدَّولة. يتربَّع المُجتمع المدنيّ، يومًا بعد يوم، على عرش هيكليّة المُجتمعات وتطوّرها وفاعليّتها المُباشرة، من خلال القيام بإنجازات هامّة، يصعب تحقيقها أحيانًا، من قبل الحكومة ومؤسّسات الدَّولة.
تُعتبر المُنظّمات غير الحكوميّة بمثابة طريق تؤدّي إلى ممارسة الدِّيمقراطيّة والحريّة والاعتراف بحقوق الإنسان. يُسهم المُجتمع المدنيّ في عمليّة الإصلاح، والتَّحديث، والتَّجديد والتَّنمية، كما التَّغيير، إذ أنّه يحقّق بذلك المُحاسبة والمُراقبة، والشَّفافيّة والمُساءلة، والمُكافأة، من أجل المُساهمة في بناء دولة، تحكمها المساواة والعدالة والحريّة، من خلال تطبيق القانون والنِّظام، والحقوق والواجبات، والأمن والأمان الاجتماعيّ والاقتصاديّ والأخلاقيّ. أَلا تتطلّب تلك المعادلة الحكمة والوعي، والإرادة القويّة والتَّربية السَّليمة، والتنشئة الصَّحيحة؟ من هنا ضرورة التَّرفُّع عن المصالح الخاصّة والضيّقة، والاهتمام بمصالح وحاجات وانتظارات الفرد، كلّ فرد.
تدعونا منظومة المُجتمع المدنيّ إلى الانخراط بجديّة ومسؤوليّة، في مَهام ودور المُجتمع المدنيّ وعمله الرَّصين والمُؤثّر بطريقة إيجابيّة، على مسيرة الحياة الإنسانيّة، على مُختلف الصُّعُد. أين المُجتمعات من ثقافة المواطنة؟ أَلا يتطلّب هذا الأمر التَّعليم والتَّنشئة والوعي وقبول الاختلاف والتَّعدّدية والتَّنوّع؟ كم يحتاج أفراد المُجتمع إلى التحلّي بالشَّفافيّة وممارستها، لأنّها تؤمِّن الرقابة على العمل وماهيّة تطبيقه، والمُساءلة والمُحاسبة الفعّالة، وتقويم الأداء وتصحيحه، وتساعد في تجنُّب الوقوع في الأخطاء أو تكرارها، كما تُسهم في تحسين نوعيّة الخدمات وتعزيز ثقة المواطن بالآخر وبمؤسّسات الدَّولة، ومحاربة الفساد، واحترام حقوق الإنسان، وتطبيقها، وتعزيز النموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثَّقافيّ.
إنّ أداء ومَسلكيّة وفكر وذهنيّة المُجتمع المدنيّ قادرة على إعطاء دفع لا يُستهان به في تحسين مستوى حياة الأفراد، وتطوّرهم ونموّهم وذلك بهدف تحقيق كرامة الشَّخص البشريّ. وهذا ناتج عن حالة التَّطوّر والنموّ بسبب الوعي والنُّضج والتَّربية على السَّلام والأخلاق والعدالة والتَّنشئة على المواطنة والاقتناع بقبول الاختلاف عن الآخر، أيًّ كان الاختلاف، وتفعيل الحوار العقلانيّ.
أَلا يحتِّم على أفراد المُجتمع، وعي الأخطار، والحذَر من التَّشرذم، والعمل معًا من أجل التَّفاهم على المبادئ الأساسيّة والجوهريّة، والمُحافظة على القِيَم والمبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة، بهدف تثبيت الحقائق المُشتركة بين أبناء الأمّة والوطن؟ أَلا تتطلّب تلك المفاهيم والتغييرات أنظمة تعليميّة مُنفتحة وتربويّة متطوّرة وأخلاقيّة صحيحة كي تستجيب لحاجات المُجتمع؟ لا بدّ من تعزيز المناخات المؤاتية لانتعاش الأبداع من خلال تغيير الأفكار، وتعديل أساليب التَّعبير، والغوص في مُمارسة القِيَم، الَّتي تعزّز وجود الإنسان وكرامته، كما تقضي على الفساد. فالفساد هو سوء استعمال الصَّلاحيّات، أو إستغلال السُّلطة (أو المَنصب أو المسؤوليّة)، بهدف تحقيق منفعة خاصّة، خلافًا لأحكام القوانين. يُعتبر هذا الأمر تخطيًا أو إستغلالاً أو غشًّا تجاه المُجتمع والآخر.
يمكن للأنظمة الدِّيمقراطيّة مكافحة الفساد، من خلال هيكليّة ووسائل علميّة مثل هيئات الرقابة، ومجموعة الضغط، والسُّلطة القضائيّة، ووسائل الإعلام وغيرها. نحن بحاجة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى العمل الجديّ من خلال المُجتمع المدنيّ، بهدف الحدّ من ثقافة الفساد وحضارته. لِذا علينا تبنيّ ثقافة الشَّفافيّة ومُمارستها، والتَّربية على الأخلاق والنَّزاهة، والحثّ على روح المواطنة. أَلسنا بحاجة إلى تثقيف المواطن وتوعيته على مخاطر الفساد ومحاسن الشَّفافيّة؟ ينبغي على المُجتمع، بكافّة هيئاته، ومنظّماته، ووسائله، ومقوّماته، العمل بطريقة جدِّية وفاعلة، من أجل مكافحة الفساد.
أَليست تلك الأمور الإيجابيّة تحقّق الاحترام للقوانين والأنظمة والتَّشريعات، ومُمارسة الصِّدق والخضوع للمُحاسبة والمُساءلة؟ نعم، كلّ هذا يعزّز الوعي ويُساهم في خلق مساحات للتَّعبير والرأي، وإعطاء المُجتمع فاعليّته وديناميّته، وخلق مناخ للموضوعيّة والاستقامة والاخلاص والتجرّد.
لنعمل معًا، على تثبيت الصِّفات الحسنة، والَّتي نفتقدها يومًا بعد يوم. هل يمكن للمُجتمع المدنيّ أن يحافظ على مصداقيّته؟ أم أنّه ينجرف نحو الفساد و”قلّة الأخلاق” وتحقير القِيَم؟ عندئذٍ نقول:” إذا فَسُدَ الملح فبماذا يُمَلَّح؟ نعم لنهضة الحركات التَّصحيحيّة.
لنتحلّى بالأخلاق والقِيَم الإنسانيّة، الَّتي تبني المواطنة، أيّ الوطن الرافض لذهنيّة الدُوَيلات والعشائر، والتَّسلّط والتَّعصّب، والقهر والفساد، ولنتحلّق تحت لواء دولة المؤسّسات الَّتي يرعاها القانون وتحكمها العدالة، وتطبّق حقوق الإنسان، وتُمارس الشَّفافيّة والدِّيمقراطيّة، وتنشر الأمن والسَّلام.
لنهبَّ معًا، دولةً ومجتمعًا مدنيًّا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل فوات الأوان.