يفقد، قسم كبير من مواطنيّ هذا العصر، معنى المواطنة وقيَمِها، إذ أنّهم لا يُدركون ماهيّة المواطنة وأهميّتها، في تثبيت الحياة الإنسانيّة وازدهارها على جميع الصُّعُد. أَتُراهم يَفقهون ما يترتَّب عليهم؟ أَم يعتبرون كلّ شيءٍ مُباح؟ هل هُم بحاجة إلى التذكير بأنّ المواطنة انتماءٌ وارتباطٌ والتزامٌ بواقعٍ ومصيرٍ مُشترك؟ تقرِّب المواطنة المسافات والسَّاحات بين الأفراد، باسم القانون والعدالة والحقوق والأخوّة وسُلَّم القِيَم الإنسانيّة والأخلاقيّة. هل يحترم كلّ فردٍ من أفراد المُجتمع، ذاته والآخر؟ ما هي نظرته لسُلَّم القِيَم؟ كيف هي قناعاته بها؟ ما كانت تربيته على تلك “القِيَم”؟
تؤكِّد الدراسات العمليّة والخُبرات اليوميّة أنّ للعِلم والفِكر والثَّقافة دورٌ مهمٌّ وأساسيٌّ وجوهريٌّ في ثقافة المواطنة، في تغيير المفاهيم والمبادئ السَّائدة في مُجتمعنا. يُسهم العِلم في نهضة المُجتمع من خلال نشر ثقافة المواطنة، وبثّ روح المسؤوليّة، واحترام الآخر المُختلف، والقوانين والشَّرائع والأنظمة، ومُمارسة الديمقراطيّة، والعمل على المُحافظة على البيئة، وتطبيق القِيَم والمبادئ بطريقة سليمة وصحيحة. أَلا نعتقد أنّ حضارة المادَّة الإستهلاكيّة المدعومة من المال الجَشع، والسُّلطة المتسلِّطة، والمعرفة الخاطئة، تضغط جميعها على مفهوم القِيَم وكيفيّة ممارستها؟ هل يتمّ التَّعامل مع تلك القِيَم بصدقٍ ومسؤوليّةٍ ووعيٍ، من أجل الخير العام، أم من أجل المصلحة الخاصّة؟
لا بدَّ من التذكير (والتوقّف) بأنّ التَّربية على الأخلاق هي عاملٌ إيجابيٌّ لفهم إنسانيّة الإنسان، يُدرك من خلالها المواطن، أهميّة القِيَم وضرورتها في مبادئ الحياة، كما التَّشديد على أهميّة الذَّات لدى الإنسان من خلال المجموعة. فالمواطنة إستثمار في الإنسان. أَلا تُسهم التَّنمية المُستدامة في ممارسة تطبيق القِيَم والمبادئ؟ أَلسنا بحاجة إلى النِّضال من أجل تنميةٍ شاملةٍ مُستدامةٍ على جميع الصُّعُد؟ لنسعى بكلّ قوانا وقدرتنا ومؤهّلاتنا لتحقيق مفاعيل التَّنمية المُستدامة والَّتي تتطلّب الديمقراطيّة والثَّقافة والأخلاق والمُشاركة الخلاّقة والتَّفاعل الإيجابيّ بين سائر أفراد المُجتمع.
نتحدَّث عن ثقافة القِيَم الإنسانيّة والأخلاقيّة، ولكن، عن أيِّ قِيَمٍ؟ أيّ قِيَم لأيّ إنسان؟ هل سعى الشرق العربيّ فعليًّا لتنشئة الإنسان وتربيته على القِيَم، قبل تَلقينه مفاهيم الحرِّية والديمقراطيّة؟ ما هي نظرة هذا المُجتمع للفرد أو للمواطن؟ وما مدى دور المواطنة وفاعليّتها في المُجتمعات العربيّة؟ أَلا يعيش المُجتمع العربيّ في معظم الحالات، وَهمْ الأحلام والأوهام، ويستسهِل المراوغة ويستسيغ الخِداع، من دون العمل جدّيًّا على تثبيت القِيَم في تربية المواطن وذهنيّته الَّتي يفتقر إليها، بالمُطلق، الفرد حاليًّا؟
نطرح السؤال على ذواتنا: أيّ مُجتمع نصبو لبنائه؟ هل نعتمد حقًّا المعايير الأخلاقيّة في مُمارستنا للحياة اليوميّة؟! نعم، نضالنا نحو تحقيق القِيَم، مُستمّرٌ ولن يتوقّف. نعم، نضالنا من أجل القِيَم، الَّتي تتطلّب التمتّع بالمناقبيّة، والأخلاق الحميدة، والحسّ الإنسانيّ، واحترام الذَّات والآخر، والتَّربية على السَّلام والعدالة، واحترام القوانين وغيرها من الأمور والوسائل، الَّتي تحاكي الضَّمير والعقل، والَّتي تصبّ في خانة القِيَم.
يُدرك بعض أفراد المُجتمع، أو بالأحرى مجموعاتٍ عديدةٍ منه، اضمحلال وترنّح واختفاء معايير القِيَم. نعم، نعيش في عالم غيَّبَ القِيَم وأهملها، وباتت بنظر الكثيرين “تقليد انتهت صلاحيّته”، أو وجهة نظر، أو سخافة، أو حتّى دلالة على “ضِعف شخصيّة”. أَلا يعيش الكثير من النَّاس في حالة من “التَّحايل” و”الكذب” و”الفتوّة”، بهدف تنفيذ مآرب خاصّة وشخصيّة، تشوّه القِيَم والمبادئ والتَّعاليم السَّماويّة، والإنسان نفسه؟ أَلا ينتهك إنسان اليوم، تلك القِيَم بسهولة، ويتَّخذ لنفسه، قِيَمًا جديدة، تنافي الأعراف والمُسلّمات؟
بالرُّغم من الإنتهاكات و”الوقاحة المُستفحلة” و”قلّة الأخلاق”، وانتشار ثقافة الفساد و”التَّسلّط” و”الفوقيّة” والتَّعجرف، من غير المقبول أن يدبّ اليأس والقنوط في قلوبنا، أو السكوت وعدم المبالاة، أو الانجراف نحو مُمارسة تلك الإنتهاكات لسببٍ أو أكثر، بل علينا أن نضغط ونحزم أمرنا، ونتعاضد، ونتكاتف، من أجل الحفاظ، قدر المُستطاع على “قيمة” القِيَم وأهميّتها في مسيرتنا الإنسانيّة. علينا أن نناضل، بالرُّغم من “الانفلات الأخلاقيّ” المُستفحل دون هداوة، وشتَّى أنواع الإغراءات والضُّغوطات، من أجل عالمٍ تسوده نوعًا ما، العدالة والحقوق واحترام كرامة الإنسان.
أَلا تنطلق نهضة القِيَم من شعلة داخليّة، وإدراك كُليّ لمفهومها وتفاعلها وتأثريها على حياة الفرد، وتطوّره، ونموّه، وتقدّمه، من خلال مشاريع حيويّة تعود بالمنفعة الأولى على التَّنمية الشاملة والمُستدامة؟
أَلَم يَحِن الوقت بعد، كي يُدرك إنسان هذا العصر، أنّ “الإنسان” قيمةٌ كبيرةٌ، وعَظَمةٌ هامّةٌ في نظر الخالق؟ أَلا يدفعنا هذا الأمر إلى مُمارسة واجبنا النضاليّ والأخلاقيّ في دفع الأفراد، على التحرّك الفعّال والإقدام الجريء في تحقيق أهداف التَّنمية والتَّربية على الأخلاق الَّتي يفترض أن يطمح إليها الإنسان، كلُّ إنسان؟ لا بدَّ لإنسان هذا العصر المتخبِّط بشتّى أنواع الكوارث، أن يلمس أهميّة المُشاركة وضرورتها، والتَّعاضد الأخويّ والحضاريّ في خلق “حالةٍ” من الانسياق الإنسانيّ، والوحدة في المصير والتَّفاني، في نشر مفهوم القِيَم الإنسانيّة، ومبادئها وضرورتها، وأهميّتها وتفاعلها، وأبعادها ومفاعيلها، في مُمارسته لحياته اليوميّة والعمليّة ضمن مُجتمع مُتعدِّد الثَّقافات والحضارات، متنوّع الاتّجاهات والخيارات، مُختلف الطِّباع والتَّصرّفات، غنيّ بالأفكار والمبادئ.
كفى إنتهاكات للقِيَم الإنسانيّة. كفى تَعَدٍّ على سلام وسلامة حياة الإنسان والطَّبيعة، وحتّى الحيوان. لِمَ أصبح الإنسان مجرّدًا من إنسانيّته؟ لِمَ ولماذا؟ هل نخضع لتلك الإنتهاكات و”قلّة الأخلاق”؟ أم نسخّر كلّ الإمكانيّات من أجل النِّضال على المُحافظة على كرامة الشَّخص البشريّ؟ يُطلب اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، الحثّ على تطبيق القِيَم الإنسانيّة وعيشها ونشرها، من أجل مُجتمع يسوده الأمان والحرّية والبحبوحة والانسجام والتَّوازن، وكثيرٌ من الفرح، بالرُّغم من كلّ شيءٍ.
لنجدّد إلتزاماتنا “بالعقد الإجتماعيّ”. لنكافح قدر المُستطاع التخلّف الفكريّ والأخلاقيّ والإنسانيّ. نعم، حان الوقت لإعادة نهضة القِيَم وممارستها، إذ إنّنا قد أصبحنا في خطرٍ داهمٍ سيُسهم ولا شكّ، في انحلال وتدمير للحياة الإنسانيّة، من خلال سقوط المُجتمعات. لنكافح الفساد والحدّ من الجريمة على أنواعها.
لنعد إلى التَّربية على الأخلاق والقِيَم والمبادئ، لنكافح رغمًا عن كلّ التَّحديّات، لأنّنا بِتنا حقًّا في خطرٍ مُحدق.