“الثائرة البيضاء” للشاعر ريمون شبلي… ندوة وقراءات في الحركة الثقافية- أنطلياس

rymondchebli

بدعوة من الحركة الثقافية- أنطلياس نظمت ندوة حول ديوان “الثائرة البيضاء” للشاعر ريمون شبلي، شارك فيها الشاعر موريس وديع النجار، الأستاذة جيمي سقيم يزبك، الناقد أنطوان جان يزبك، أدارها الأب مارون الحايك الأنطوني، تخللها إلقاء الشاعر ريمون شبلي قصائد من الديوان. في ما يلي كلمات الأب مارون الحايك، الشاعر موريس وديع النجار، الناقد انطوان جان يزبك، الشاعر ريمون شبلي.

الأب مارون الحايك

نَسيرُ في دَرْبِها الأَبْهى ونحنُ غِنىً

بِــــــثـــــروةٍ تـــنـــتــــــشــي مـــن ثـــــورةٍ بــيــضـــاءْ

نَعُبُّ من كَرْمَةِ الحُبِّ النَّقِيِّ ! غدًا

يُضيءُ وجهُ الدُّنى.. طوبى لها حَوَّاءْ !

اعتاد الناس سماعَ كلمةِ الثورة وما يرافقها من عنف، وما يرافق العنف من ضحايا بسبب أن الثورة هي دائمًا ثورةٌ حمراءٌ مصبوغةٌ بالدّمِ من جرّاء القوّة النفسيّة والجسديّة التي تُهدَر في سبيل غايتها.

لكنْ هنا تغيَّرَ مفهومُ الثورة، فإذا هي بيضاءُ، نقيَّةٌ، لا عنفَ فيها، بل سلامٌ وإبداعٌ وعطاءٌ ومحبّةٌ وجمال.

هذه الثورة صاحبتُها المرأة، لأنَّها نُسبت إليها، فصارت الثائرةَ البيضاءَ التي تعرف كيف تكوِّن شخصيّتها لتُبدع وتتزيَّن خُلُقًا وخَلْقًا.

ألثائرة هي المرأة التي أنشد فيها الشاعر قصائد في دواوينه “فردوسك المشتهى”، و”قناديل على الفصول”، و”بخور وسبحة نور”، لأنّه يؤمن بأنّها المرأة الأنقى، المنزَّهة، المتواضعة، ونحن أيضًا نُنشدها في شهرِها هذا المبارك شهر الحياة والربيع والتجدُّد، بتقديم قلوبنا لها والشموعِ والبخور. وهي الثائرة الأولى في مسار التاريخ التي عرفت كيف تقول “نعم” لإرادة الإله، فصارت نَعَمُها ثورةً على الخطيئة والشيطان، وثورةً على الهلاك والفناء بمن حملت في حشاها ذلك المخلِّص الفادي، يسوع، وهي مريم العذراء البتول وحسبي.

ألثائرة هي المرأة المشبعةُ بالحُبِّ وبالحُلُم الأزرق، الناشطة المشرقة، النحلة من زهرة الى زهرة، اليراعة التي تداعب الورق، الصوفيّة الصافية، الزنبقة، القصيدة المقلقة، الحُرَّةُ كما الهواء، كما الأمواج، كما الطيور. المثقّفة.

الثائرة. هي المرأة التحدّي، كلُّها شرارة الحضور، كلُّها مَحَبَّة.

لذلك أحبّها الشاعر ريمون شبلي، فَسَكِرَ بها وعَشِقَها كخمرةٍ لذيذةٍ عتيقة، ذابت في دمه: زمنًا صوفيًا مَلَأَهُ ، سِحرًا مَحاهُ وَكَتَبَهُ، فَرَحًا ريفيًا غَسَلَهُ، حُلمًا وَرديًا حَمَلَه، نَغَمًا غَيبِيّاً غَمَرَهُ، وَطَنًا آتيًا.

وها هو يقول:

تُطِلُّ على غدٍ أبدا

وتكتبُ كلَّ يومٍ أحرُفًا جُدُدا

تكونُ صديقةً وحبيبةً أبدا

وأشتاقُ!

وأشتاقُ.

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

رائِدُ الجَمالِيَّةِ بِمَظهَرَيها: أَلأُنْثَى والشِّعْر

أعدَدتَ باِلشِّعرِ!

أَعدَدتَ باِلشِّعرِ زادَ الغَدْوِ لِلآتِي،         لِكُلِّ قَلبٍ تَلَوَّى في التَّعِلَّاتِ

عَلَى رَنِيمٍ، دَفِيءِ الجَرْسِ، في غُرَرٍ      مِنَ القَوافِي الشَّذِيَّات النَّدِيَّاتِ

غَزِلتَ بِالمَرأَةِ الحَسناءِ، يا وَلَهًا           يَحُطُّ في الطِّرْسِ وَجْدَ الصَّدْرِ والذَّاتِ

وَالشِّعرُ إِنْ لَم يَكُنْ آهَ النَّسِيبِ فَقُلْ        دَوْحًا تَعَرَّى مِنَ الخُضْرِ الوُرَيقاتِ

لا زَقزَقاتٍ على مُلْدِ الغُصُونِ، وَلا        شَجْوَ الحَفِيفِ تَناهَى في النُّسَيْماتِ

هِيَ القَصائِدُ إِنْ تَسْمُ فَإِنَّ بِها             طَلًّا يُسَكِّنُ مِنْ جَمْرٍ بِآهاتِ

شِبْلِي… تَغَنَّى فَإِنَّا لِلغِناءِ، فَلا            يَشفِي الصُّدُورَ سِوَى شَدْوٍ وَناياتِ!

أَيُّها الحَفْلُ الكَرِيم.

جاءَ في نَشِيدِ الأَنشادِ: “إِلى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذهَبُ إِلى جَبَلِ المُرِّ وإِلى تَلِّ اللُّبان”(1).

جَبَلُنا، في هذهِ الأَيَّامِ العِجافِ، هُوَ أَنتَ أَيُّها الشِّعْرُ، ما كَتَبَتِ الأَقلامُ الشِّفافُ، وَهَمْسُ الحَنايا، وَنَجِيعُ الشَّغافِ، لا ذاكَ المُنْتَحِلُ صِفَةَ الشِّعْرِ والشِّعْرُ مِنهُ بَراء. أَنتَ المُبَرقَعُ بِالوَجْدِ الصَّافِي، وَاللَّحنِ الحالِمِ، لا بِالأَوزانِ الجافَّةِ، وَلَو تَزَيَّت بِالتَّزاوِيقِ، وَوُقِّعَت على عُوْدٍ مُتَصَلِّبِ الأَوتارِ.

هُوَ جَبَلُ المُبدِعِينَ يُطَوِّعُونَ الحُرُوفَ فَتَجرِي في الصَّحائِفِ سَلاسِلَ لُجَيْنٍ، وَتُدَغدِغُ الآذانَ بِالنَّغَمِ، والحَفِيفِ، وتَغرِيدِ البَلابِل.

ولكِنْ…

أَنَّى لَنا بِمَن يَتَخَطَّرُ مَعَنا في مَطاوِي هذا “الجَبَلِ المُلْهَم”؟!

مَن يَرُودُ ضَبابَهُ بِشَغَفِ الحَبِيب؟!

مَن يَسكُنُ إِلى أَفيائِهِ بِلَهفَةِ طِفْل؟!

مَن تَستَلِبُهُ مَجالِسُ اللُّغَةِ الغَنِيَّةِ المُزَركَشَةِ، بِأَسيادِها الصِّيْدِ، في عَصْرِ “المِيدْيا” الفائِقَةِ الذَّكاءِ وَالإِغراء؟!

فَلْنَسِرْ في الوِهادِ والشَّجَرَ المُغْدَوْدِنَ، والسُّفُوحَ المُخْضَوْضِرَةَ، وَلْنَقُلْ: حَسْبُنا الشِّعْرُ مَلاذًا دافِئًا لِلسَّكِناتِ المُنهَكَة!

***

شاعِرُنا يَحفَظُ حُرْمَةَ مُوسِيقَى الشِّعْرِ، وهي رُوحُهُ النَّابِض. فَقَوافِيهِ لَيسَت بِالشَّلَّالِ الهادِرِ الَّذي يَصُمُّ أُذُنَيكَ صَخَبًا، وَلا هي طَنِينٌ فارِغٌ نَسِيجُهُ النَّشازُ والجَلَبَةُ، بَل هي السَّواقِي تَتَهادَى على حَصْباءِ التِّلالِ، بَينَ مُرُوجِ النَّوْرِ الزَّاهِي، وَالأُقحُوانِ العَبِق.

العَمُودِيَّةُ، عِندَهُ، أَنِيقَةٌ تُجانِفُ النَّظْمَ البَلِيدَ، فَهيَ الأَمِيرَةُ القَدِيمَةُ تَرفُلُ في مَطارِفِها الحَرِيرِ، فَتُرضِي العَصْرَ، تُشَنِّفُ السَّمْعَ، وَتُسْكِرُ الذَّائِقَةَ.

فَلْنَتَلَمَّظْ بِقَولِهِ:

“خَطَرٌ أَنتِ على البَحْرِ يَثُورُ      يَشتَهِيكِ المَوْجُ.. يَغْلِي، وَيَفُورُ

وَتَهُبُّ الرِّيحُ يُغرِيها صَدَى        جَسَدٍ حارٍّ، يُغَنِّي، يَستَثِيرُ!”   (ص 60)

وَبِاللهِ عَلَيهِ، يَأخُذُنا إِلى مَدامِيكِ المُتَنَبِّي القائِلِ:

“عَلَى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحتِي        أُسَيِّرُها يَمِينًا أَو شِمالا”

حِينَ يَقُولُ هُوَ:

“أَحارُ بِما أَنا فِيهِ.. كَأَنِّي،          على بُسُطٍ تَدُورُ بِهِنَّ رِيْحُ”   (ص 65)

وهو يُوَشِّي أُسلُوبَهُ بِالتَّشابِيهِ المُبتَكَرَةِ مِن مِثْلِ “وَبِصَوتٍ خَمرْ!” (ص19)، وَتِلكَ الَّتِي تَربِطُ بَينَ المَحسُوسِ وَاللَّامَحسُوسِ في تَراسُلٍ فَطِنٍ بَينَ الحَواسِّ هو مِن عُدَّةِ عَمَلِهِ، فَيُشرِكُ القارِئَ في لُعْبَةِ البَيانِ بِمِلْءِ وَعْيِه. يَقُولُ:

“تَرقُصُ الدُّنيا، يَتَهادَى الزَّمانْ! / غَرِّدْ يا وَردْ / وَاتَّسِعْ يا مَكانْ”   (ص25)

وَلا يَرْفِدُ مَقطُوعَتَهُ بِتَعابِيرَ مُستَهلَكَةٍ وَأَلفاظٍ جامِدَةٍ ثَقِيلَةٍ، كَما لا يَحْبِسُ نَفسَهُ، وَيُقَيِّدُ قَرِيحَتَهُ في أَنماطٍ كِتابِيَّةٍ مُبتَذَلَةٍ أَو “مُعارَةٍ مَكْرُورَةٍ”(2)، فهو صَنِيعَةُ نَفسِهِ، اقتطَعَ لَها في حِمَى الشِّعْرِ مِساحَةً لا يُشارِكُهُ فِيها آخَرُونَ، وَلا تَعِجُّ بِالسَّابِلَة.

كَما إِنَّهُ لا يُقَوْلِبُ قَلَمَهُ في مَدرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَو تَيَّارٍ مَعْهُودٍ مَطْرُوقٍ، بَل يَنشُدُ الجُودَةَ مَهما كانَ لَبُوسُها.

رِيمُون شِبْلِي مِن رُوَّادِ الجَمالِيَّةِ بِمَظهَرَيها: أَلأُنْثَى والشِّعْر. أُنثاهُ مَصدَرٌ ثَرٌّ لِلإِلهامِ، وشِعْرُهُ تَعبِيرٌ حُرٌّ عَن الدَّهشَةِ والنَّشوَةِ واحْتِرارِ الجَوارِح.

وَالإِلهامُ لا يَكفِي لِكِتابَةِ الشِّعرِ، فَاللُّغَةُ هي الأَساسُ لِنَقْلِ الأَفكارِ والمَشاعِرِ، وشاعِرُنا مِن أَربابِها المُجَلِّينَ، وَسَدَنَتِها المُخلِصِين. فَالكَلِمَةُ، في دِيباجَتِهِ، لَبِنَةٌ في بِناءٍ مَرْصُوصٍ مَرْصُوفٍ، لا تُزاحِمُ وَلا تُزاحَم.

وهو يَتَعَبَّدُ في مِحرابِ الحُسْنِ وَيَقْنُتُ، ساجِدًا لِلمَرأَةِ – الإِلهَةِ أَفرُودِيت رَمْزِ الحُبِّ وَالشَّهوَةِ وَالجَمالِ، يَتلُو الصَّلاةَ شِعْرًا مُصَفًّى كَدُمُوعِ الفَجرِ، سَرْدُهُ صُوَرٌ زَاهِيَةٌ، وَأَخيِلَةٌ رِقاقٌ، في فَضاءٍ مُوسِيقِيٍّ راقٍ مِن قافِيَةٍ خَلِيلِيَّةٍ سَلِيمَةٍ خالِصَةٍ، أَو تَفعِيلَةٍ خَفِيفَةِ الوَقْعِ، شَجِيَّةِ الدَّلالَة. وَكَيفَ لا، والعُرْسُ لا تَكتَمِلُ مَباهِجُهُ إِلَّا بِالغِناءِ، وَضَرْبِ الصُّنُوجِ، وَرَنِينِ المَزاهِر.

وهو إذ يَتَشَبَّبُ بِالمَرأَةِ يَتَجاذَبُهُ خاطِرانِ، فَلا يَبْخَسُ أَيًّا مِنهُما حَقَّهُ.

فَإِنْ رَجَحَ الحُلْمُ المُجَمَّرُ، وَالخَيالُ الشَّارِدُ على جَناحِ شَهْوَةٍ تَستَخِفُّ، فَقُلْ رِيْشَةٌ تُلامِسُ مَكامِنَ الفِتنةِ الحِسِّيَّةِ، بِيَدٍ تَتَلَبَّسُ المَشاعِرَ بِحِذْقِ عارِفٍ مُتَمَكِّن. يَقُول:

وَفِي انطِلاقَةِ ساقَيها رُؤًى رَحَلَت

في الحُسنِ، في الضَّوءِ، في النَّائِي وما شَرَدا   (ص115)

وَيَتَوَغَّلُ أَبعَدَ، فَيُنادِي:

“نَهداكِ يَشتَعِلانِ ثَورَةَ شَهوَةٍ هذا المَساءْ / شَفَتاكِ دافِئَتانِ أَكثَرْ.. / يا طِيْبَهُ هذا اللِّقاءْ // مِنْ كَأسِهِ، / لا مِنْ كُؤُوسِ الخَمْرِ نَسْكَرْ!”     (ص131)

وَلَكَم يَحَمُّ بَوْحُهُ، فَيَنهَدُ إِلى “نَهْدٍ مُشاغِبْ / مُثِيرِ المَتاعِبْ / وَقَدٍّ وَتَرْ” (ص152)، وَيُناجِي “ساقًا على ساق” (ص25)، مِن دُونِ أَنْ يَكُونَ “إِلى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المَساق”(3)، فَالصَّدرُ شُعَلٌ، وَلَهَبٌ في الآفاقِ، وَلا مِنْ واقٍ، أَو تِرْياق. وَالشِّعْرُ، يا صَحْبُ، ما لَم يُعَرِّجْ على سِحْرِ الفِتنَةِ، بَينَ جَوْلَةٍ وَجَوْلَةٍ، تَجِفُّ في أَمالِيدِهِ العُرُوقُ العَطاشَى، وَيُصَوَّحُ النُّضار.

على أَنَّنا لَن نَحُوكَ أَكثَرَ على هذا المِنْوالِ، كَي لا نُوْغِرَ ذاتَ الدَّلالِ، وَنَحنُ لا نَقْوَى على ازْوِرارِها وَالجِدال. ثُمَّ أَلَيسَ عَلَينا “الرِّفْقُ بِالقَوارِير”(4)؟!

أَمَّا في الخاطِرِ الثَّانِي الغالِبِ على غَزَلِيَّاتِهِ، فَهوَ لا يَرَى المَرأَةَ دُمْيَةً يَزِينُها رُواءُ الإِهابِ لِمُتعَةِ النَّظَرِ وَلَذَّةِ الحَواسِّ، بَل هي الثَّقِيفَةُ المُتَنَوِّرَةُ الدَّاخِلَةُ في مَعْمَعانِ الحَرْفِ وَشُجُونِه. “تَبنِي مِساحَتَها تَقُولْ:

/ قَدَرِي الثَّقافَهْ؛ / كُتُبٌ وَأَوراقٌ وَحِبرْ / وَحُرُوفُ شِعرْ!” (ص15). وَهِيَ: “إِمرَأَةُ التَّحَدِّي! / في يَدِها القَلَمْ / قَصائِدٌ مِنَ الطُّمُوحِ، وَالحُلُمْ”     (ص16)

وَإِذا مَرَّ الجَسَدُ عَرَضًا، فَبِشَفافِيَةٍ تَسمُو بِهِ عَن مَباذِلِ التُّرابِ، فَالحَبِيبَةُ، تَختَصِرُ الجَمالَ في كِيانِها لِتَغْدُوَ “الزَّمَنَ الجَمِيلَ” (ص31)، في نَظَرِ هذا الشَّاعِرِ الرَّقِيق. وهي الفِردَوسُ العائِدُ تَعوِيضًا عَن فِردَوسٍ مُضاعٍ مِن ذانِّكَ الكائِنِ الَّذي سُلِبَ الإِرادَةَ حِينَ أَومَأَت إِلَيهِ رَبَّةُ البَهارِ بِرُوائِها فَخَرَجَ عَن مَشِيئَةِ البَعْلِ، وَغَدَت هي السَّاحِرَةَ الَّتي تَهمِي طَلًّا على جَفافِ الأَياَّم،ِ وَتَفرُشُ الواقِعَ اليَبِسَ بِالنَّدَى، وَالشَّهْدِ، وَالعَبِير!

أَلمَرأَةُ، في رِيشَةِ هذا المُلهَمِ، أَسمَى مِن أَن تُوجَزَ بِخَصْرٍ ضامِرٍ، وَصَدْرٍ عامِرٍ، وَأَرداف. إِنْ هِيَ إِلَّا الوَحْيُ، وَرُوحُ القَصِيدَةِ النَّابِضُ أَبَدًا، وَغِلالَةُ الأَمَلِ في جَهْمَةِ الوُجُود.

وَالحُبُّ، في قامُوسِ صَدِيقِنا، وَحَبَّذا القامُوسُ، هو “حُرِّيَّةٌ صُوفِيَّةٌ، وَرَوْحَنَةُ الجَسَد” (ص33).

خِتامًا

رِيمُون شِبْلِي…

أَنتَ شاعِرٌ شاعِرٌ، في دَمِكَ تَسرِي القَوافِي نَغَمًا رَقِيقَ الهَدْهَداتِ، وفي حَناياكَ دِفْءُ الحُرُوفِ المُحيِيَة. وَالَّذِينَ مِثلُكَ لا تَشِيخُ قُلُوبُهُم، وَلَو تَكَدَّسَتِ الغُضُونُ في القَسَماتِ، أَو تَوالَتِ الحِقَبُ على دَفاتِرِ العُمرِ، وَيَدُومُونَ لَمَعانًا، لا يَخبُو، وَنُسْغًا حَيًّا يَسُوقُ اللَّيانَ إِلى كُلِّ فَنَنٍ هَزِيل.

أَخَذَتِ الحَسناءُ بِمَجامِعِ قَلبِكَ، فَأَخرَجتَ لَنا، وَلِلآتِي، دُرَرًا مَنضُودَةً في “ثائِرَةٍ بَيضاءَ”، فَشُكرًا لِدَلالِها، وَلِما يُنبِتُ في الأَرضِ الجَدْباءِ، فَاذهَبْ ما شِئْتَ في غُنْجِها، فَلَن نَقُولَ لَكَ مَعَ الشَّاعِرِ: “أَبعَدَ الشَّيبِ تَتَّبِعُ الغَوانِي؟!”.

وَشُكرًا!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1): “إِلى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذهَبُ إِلى جَبَلِ المُرِّ وإِلى تَلِّ اللُبانِ”

                            (الكِتابُ المُقَدَّس، سِفْرُ نَشِيدُ الأَنشادِ، فَصْل 4/6)

(2): “مَا أَرَانَا نَقُولُ إِلاَّ مُعَادًا،    أَو مُعَارًا، مِن قَولِنَا، مَكرُورُا”     (زُهَير بِنْ أَبِي سُلْمَى)

(3): ﴿وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق. إِلى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المَساق﴾

      (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ القِيامَةِ، الآيَات 29 – 30)

(4): “رِفْقًا بِالقَوارِير”   (قَولٌ لِلرَّسولِ مُحَمَّد يُكَنِّي فِيهِ النِّساءَ بِالقَوارِيرِ لِرِقَّتِهِنَّ وَأُنُوثَتِهِنّ)

***

أنطوان جان يزبك

تقول أحلام مستغانمي في كتابها الأخير “شهياً كفراق”:

“لا بدّ من وضع تنبيه جديد من النوع الذي يوضع عادة في الحافلات، ٳنتبه أيها المسافر قد يأتي الحبُّ كرفيق مصادفة، ثمّ تفاجأ به يلازمك. أترك له مقعدا شاغراً الى جوارك كي يستدلّ عليك وسط الزحام .ذلك أنّه يصل عندما تكون مزدحماً بكلّ شئ عداه.

هكذا هو الحبُّ يأتي للذين لا وقت لديهم لاستقباله ، يحضر للمنشغلين عنه لا للذين ينتظرونه”…

هل كان ريمون شبلي ينتظر الحبَّ ، أم أنَّ الحبَّ باغته؟ فعانق الأحرف وسكن الأبيات شاعراً حالماً نبيلاً رقيقاً يقترف فعل الحبّ علنيّة وسط هذا الانفلات الهستيري ودوّامات الحزن والشجن قائلاً :”أنّ الحبّ ٳدمان نبيل” كما يرد في الصفحة 84 من الديوان .

ٳن مواصلة الكتابة في الحبّ ، بطولة ونبل ما بعده نبل وصفات راقية ومخمليّة ملهمة ، حدت بالشاعر الى حشد هذا الكمّ من القصائد المتفوقة في شحناتها العاطفيّة جاعلا من تلك المفاهيم رؤى وأبعاداً ذاتيّة جوّانيّة تحاكي الآخر والجسد والمتع في نقطة جذب كبرى هي الأنثى وما في هذه النقطة من تداعيات فنيّة وأدبيّة ، صوفيّة وسورياليّة .

استفاق ريمون شبلي في ذروة اكتمال موهبته الشعرية على عبير سحرالمرأة المعشوقة الأخّاذ ، وأنغام عذوبتها السرمديّة ، فاستقطب بغزارة الوحي المعطاء الى قصائده ، ما ملكت أيمانه من قصيد هائل البنيان يتماهى مع تضاعيف الجسد والروح والطبيعة وصولا الى أبعد نقطةٍ في الكون حين يقول في الصفحة 98 :

أشتاق أغمر هذا النّبل يحملني      نطوف في فلك ينشق ألف مدى

وكأن الشاعر في لحظة المتأمّل وفي جموح الفعل العشقي ألقى باحساسه في المدى الصّوفي الأعلى حيث الأكوان والمجرّات وحيث العشق يتغذّى من المشكاة الكبرى ويعمل على اعادة انتاج ذاته كما الكون في جاذبيّته اللامتناهية ، يعمد الى توليد طاقاته اللامحدودة حيث المرأة هي النور العرفاني المشتهى حين يقول في الصفحة 100 :

كأنكِ الزمن الصوفيُّ يملأني

حريّةً ترتقي نبلا وتنبلج.

أيّها الأحبّاء في هذا الديوان وعلى ما يبدو يردّ ريمون شبلي على ما قاله جان بول سارتر:” الانسان هو شغف لا فائدة منه” .

فيثبت شاعرنا أن الشغف الحقيقي هو المرأة الّتي تثير القلب وتبثّ في خلجاته اعمق المشاعر اين منها نوتات الموسيقى والنسائم العليلة في عزّ الرّمضاء فما نفع الوجود ٳذاً من دونها وهي محرّكة الفكر والشعر والأدب والفنون وكلّ ما هو حقّ وخير وجمال .

المرأة بالنسبة لريمون شبلي أقنوم ،عبادة تصل الى مقام السرّ ، فهو لا زلفى ولا استدراراً لعطف يقول في الصفحة 56

أيّ سرّ لست أدري!

كلّ مرّه

تفرحين العين أكثر

تسكرين القلب والفكر

سكرة في شوق سكره !

هذا الأسلوب المنفتح على واحة من انتظارات يعيد فيه الشاعر تكوين عالم الشعر باحثاً عن سرديّة غنائيّة احتفاليّة ، تحقق فعل التحرّر من الأكاذيب والشجن والمطوّلات العقيمة والاختباء خلف الذّات المتقلّبة وتفتح الأبواب المغلقة أمام اعصار القلب هذا القلب العاشق الّذي سجن طويلاً وظلماً وحرم الحبّ.

وخلال مسار البحث عن توصيفات الحبّ وتجلياته الاكثر حدّةً ونفاذاً كان محتوماً أن يدلف الشاعر الى جنائن الايروتيكيّة الصّارخة ، تلك الّتي تتهادى على أجنحة من المتع المتركزة في زمان ومكان الجسد القدسيّ الذي أغدقت عليه الآلهة عصارة اللذّة بسخاء ٳذ نقرأ في الصفحة 28:

“سرنا جسداً يشدو جسداً

تلتفّ يدانا على الخصرين معاً…”

وكذلك في الصفحة 133 :

“أيّهما أجمل

جسمي- الحصان يصهل

أم الرّداء فوقه يشتعل؟

لو قلت يا حبيبتي :كلاهما..!

قولي:بمقلتيك أبصر

ما أنت تشتهي وتضمر:

حصانك العاري هو الأجمل.”

الحصان في جموحه يمثّل الشّبق والمتع الجنسيّة بامتياز منذ أن أخذ به أرسطو رمزاً للكون المادّي والحصان يعدو في سهول آثينيّة تعبق بزفرات آلهة عاشقة وربّات جمال ترقص على ألحان سكرى وعبق خمور وخلجات نزقة.

ٳنّ صهيل الحصان يختصر ذلك الاشتهاء الذكوري المتمازج مع الشهقات الأنثويّة فيتكاملان في روعة المشهد المشتهى ، ذلك يجعلنا نستحضر ههنا مشهد سقوط الضابط فرونسكي عن صهوة جواده فتصرخ آنّا كارنينا صرخة الجزع المخضّب باللذّة المكنونة في الجسد المؤتلق جنساً والّذي يصفه الشاعر في دقائقه الغارقة في رحيق العذوبة والايناع اذ يقول في الصفحة 171:

“شفتاك جرحا شهوة واثارة

قمرا حلا

شفتاك …لا حول ولا.”

فعلى ما يبدو سكر ريمون شبلي من رحيق الحبّ وأعلنه عنواناً لقيامته الذاتيّة فيقول في الصفحة 148:

“قبلكِ القلبُ حفيف خافت،

معك القلب قيامات وخصب

وأناشيد وحبّ.”

أيها الأصدقاء هذا هو المانيفست الجديد للتورّط العاطفيّ الذي يأخذ له صورةً منطبعة على شكل هيّولة تحيا وتنمو في الذات ، تلك التي تتغذى من نسغ التجربة وملذات المخادع مع ما تحمله من رومنسيات شيّقة واندفاعات نحو الجمال واشراقات الروح المتحفّزة دوماً .

ولو أدركنا أنّ ثمّة أفعالا تعد بالحدوث في كلّ لحظة مع عدم وجود نيّة في التراجع الى الوراء ، نخال أنّ بركان الحبّ لا ريب سينبثق مطلقاً حممه  ولو أسدلت عليه البراقع بالعشرات ، ولو صوّرت العلاقات على غير ما هي عليه حقيقةً ، وتبدأ التأويلات في مساحاتها المغفّلة من العقليّة الشرقيّة ، فها هو اللورد بايرون يقول : ” قد تنمو الصداقة لتصبح حبا ولكن الحب لا يتراجع ليصبح صداقة.”

هكذا يترتب علينا أن نفهم كيف أنّ الحبّ يعبر عجولا في كلّ مكان سارقاً الوقت والقدرات والتنهدات والبذل والحصاد، حبّ يباغتنا ، يلتهمنا ، يجرفنا، يكوينا بناره، يحرّضنا على افعال كنّا نعتقد اننا نعجز عن القيام بها ، يأخذنا الى جغرافيا مجهولة وأمداء لامتناهية يخطفنا خطفا بومضة سمحاء ويبقينا مذهولين في دائرة مشاعر أثملتها جرعات الحبّ العذبة.

وعلى ذمة من قال ذات يوم:” أنك اذا استعملت كلمة الحبّ في جملة مفيدة يكون فيها في محلّ المبتدأ،  فستنسى الخبر الى الأبد ” وذلك في حال تلاقى عاشقان وما لبثا أن افترقا بعد أن ذاقا عذوبة الغرام وحلو عسله الأسطوريّ كما في صدى لجملة قالها شيلي: ” ألم نكن قد صنعنا من نوتات موسيقيّة نعيش واحدنا للآخر، ولو أننا متفرّقون” .

غير أنّ الشاعرريمون شبلي ليس مقتنعاً بمقولة الشاعر الرومنطيقي بيرسي شيلي لأنه مع الديمومة وخلود المشاعر، فها هو يقول في الصفحة 190 :

هوذا صدري افتحيه

تجدي وجهك فيه !

عليكم ٳذن بديوان الثائرة البيضاء لتجدوا فيه وجه الحبيب.

ريمون شبلي

ماذا فَعلتِ؟ أرى الدّنيا تُبدِّلُ في

دُنيايَ صورتَها، تحلو وتَبتهِــجُ

سَكَنْتِني امْرأةً – أُنثى مُثقَّفَـةً

يزيدُ في حُسْنِها ذيّالِكَ الوَهَــجُ

ماذا فعلتِ؟ رسَمتِ العُمْرَ زنبقةً

بريشةٍ لونُها الأعراسُ والــهَزَجُ.

قد يُقالُ :

أفي كلّ عام كتابٌ لي يُهدى وندوةٌ حولَه، ههنا، في الحركة الثّقافيّة انطلياس، منذ ربيع 2016؟

أجل، ولا أرى ما يُثيرُ الاستغرابَ والعَجَب!

فأنا، لمّا أزَلْ، منذ سنواتٍ وسنوات، أدعو إلى الكتابة المفيدة الراقية، وإلى النّشر في كُتُبٍ، لكي لا تُصبحَ المخطوطاتُ طعامًا للغبار على الرّفوف، أو في الأدراج، ثمّ جُثثًا في مدافن النّسيان فالفناء… وتاليًا إلى تنظيم ندوات حولها أو توقيعات تُسهم إيجابًا في الحركة التثقيفيّة والمطالعيّة…

شكري كبير وكثير : للحركة الثّقافيّة – انطلياس، أمينًا عامًّا وأعضاء، للمتكلّمين المجيدين المحبّين، ولكلِّ وجهٍ من وجوهكم الكريمة الرّاقية الحاضرة قيمةً ومحبّةً.

اترك رد