حُبٌّ وذهبٌ أصفر    

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

 وطفى فتاةٌ من الأعرُبِ الرُحَّلِ، تَعْتَزي(1) إلى إحدى قبائِلِ بادِيَةِ حماةَ ممَن كانوا يوتِدُونَ مَضارِبَهُم بين ظَهْرانَي بلدتي البِقاعيِّةِ خَلَلَ الحَصادِ، طَلَبًا للعملِ والمَرْعى لِقُطعانِهم. فتوطَّدَتْ بين الوافِدِ والـمُقيمِ قواعِدُ الأُلفَةِ، ولَبِسَ كلٌّ منهم صاحِبَهُ دهرًا مَلِيًّا. أَخدانُ مُخالَصَةٍ، وأقرانُ وفاءٍ، تُساوِقُ بينهم خُلطةٌ وعِقدٌ وآصِرة.

***

في مَرْمَى الـمَدارِكِ والـمُشخِّصاتِ، وبلُغَةِ الإدغامِ والإعلالِ، لا تقعُ وطفى تحت الحِسّ. قضيبُ خيزرانٍ، أو عَيْدانَةُ نَخلٍ(2)، ذَرّتْ شمسُها قرنَها في هاتِيْكَ البطاحِ السَّحيقةِ لِأبَوَيْنِ من عُرْضِ(3) الناسِ، زكيِّي الـمَغرِسِ، عتيقي النِجارِ، من نَبعَةٍ صِرْف.

هي الإيماضُ في بُهرَةِ(4) اللّيل.

طاويَةُ الحَشا، غَضّةٌ، على فُسْحَةٍ من سِمَنِ الظَّبْية.

لا رهَلَ فيها، تَلّمَّتْ خصرًا بَتِيْلاً أدقَّ من ظِلِّ الرُّمحِ، وأبرَكَ من داليةٍ في آب.

جرى السِّحْرُ في وَجْنَتَيْها واستَفاضَ، في افتِنانِ التعبيرِ نَسجَةًبِنَسْجَةٍ، مناهِلَ حَفَّ بها الأُقحوانُ الـمُفَلَّجُ، فَدَهَشٌ كثيرٌ ليس مؤرَّخًا في دواوينِ الصّباباتِ، ولا في محاشِدِ المعارِفِ الـمُختَزَنَةِ في سِفْر.

أمّا الجِيْدُ فأتلَعُ، مُطَهَّمُ الخَلْقِ، حَسَنُ الحِلْيَةِ، قسِيْمٌ، تَسَربَلَ بالـمَلاحَةِ.. وإنّ له رُواءً باهِرًا يُشْبِهُ فَنَنًا طريرًا في شجَرةِ رمّان.

حَوْراءُ، يمينًا جَزْمًا، ما دَرَجَ في مملكةِ الخيالِ والبارِعِ من حروفِ رقائِقِ الأغصانِ، والكَروانُ قدِ اغْتدَى، بأكمَلِ إدْلالٍ وتَنضيدٍ، في مِثْلِهِ تضيِعُ، ويا لُطفَ ضَياعٍ بين زُمُرُّدَتَيْن.

وطفاءُ الهُدْبِ، سَبْلاءُ(5)، فحذارِ النِبالَ السَّنينَةَ أُسلوبًا تعاظَمَ خُبْرُهُ، فَسُبحانَها من نعيمٍ أسوَدَ يخطُرُ حَصينَ الناحيةِ بالحَبَرةِ المـُذَيَّلَةِ، واللّؤلؤِ المكنونِ، فلا يُشاكِلُها أو يَضارِعُها قمر!

وفي قَصِّ روايات الطَلِّ على الأزاهرِ، يَضيقُ سائِغُ الدِنانِ بمقاماتِ الأنامِلِ الطَّفْلَةِ على زَنبقَةٍ محتَجِبَةٍ بأسلاكِ الفِضّةِ – أستغفِرُ اللَّدانَةَ – من مثلِ ما يُتائمُ شُعاعٌ هَفا إلى شُعاع!

هكذا تَنْصاحُ تباشيرُ الصُبحِ على قُمريَّةٍ لا تُفتَحُ العينُ على أتمَّ منها شَعْشَعَةً ولألاءَ مهادِلِ ديباجٍ، تكوكَبَتْ في حُقٍّ ارتقصَ البِلّوْرُ في حاضِرَتِهِ، فَهَسْهَسَةُ جداوِلَ ما زقزقةٌ وتطريبٌ ورَقرَقةُ سواقٍ قامتْ على قدَمَيْنِ، كأنّما أرجوحةٌ على سُنّةِ العلائِقِ لا تَنقَطِعُ أراغينُها، ولا يَستكينُ لها في المواصِلِ والـمُحصَّلاتِ عَطاء!

***

لِقطافِ الذُرةِ في أريافِنا بمصاديقِ طُقوسِهِ، نكهةٌ خاصّةٌ لطالما لَذِذْتُها، وإنّي لأُجادُ وتهتاجُني الذكرى الى تلك الأُمسيّاتِ الخوالي ما حَيِيْتُ، فحيثُ كنتَ تمُرُّ بلِفٍّ من الشُّبانِ والصبايا، وقد انهمكوا في قُشارَةِ العرانيسِ تستَرْوِحُ شميمَ الحبِّ يتقافزُ وهيْجُهُ ونَشاهُ(6) عَبْرَ مئةِ مَنْظَرَةٍ ومَنْظَرة.

ومِنَالفِتْيةِ مَن انتَجَبَ أَعرابيّةً شاءتْ أن تُساهِمَ في مَوْسِميّاتِنا. وهاتِ يا شُموعَ قلوبٍ تذوبُ ذُبالاتُها وتلُزُّ بما لا يؤدَّى بمُرادِفَ وتَعاريف.

وما أدراكَ ما النَّارُ في خُضرةِ العُمرِ، ولذائِذِ النُّقلَةِ، وجَدائِدِ الخواطِر!

سقى الله زمانًا كيف يَترامى إلينا يُقصِّدُ القصيدَ، ويُنزِلُها من شُعَلِ الأحشاءِ منازِلَ الأمَنَةِ، وتحتفِزُ المودَّات.

***

نحن في هذه اللّيلةِ القمراءِ على سَطِيْحِ مروانَ، والـمَعانَةُ في أشُدِّها آنَ يُمرِعُ القمحُ في الكوائِرِ، وحبوبُ الذُّرةِ تتكوّرُ ذَهَبًا أصفرَ في العِدْل.

مُناغاةٌ نُزِّهَتْ عن اللَّبْسِ لا تُعْوِزُها أماثيلُ. التراجمُ فيها رَجْفُ هوَىً تحزَّمَ فيه مروانُ، فشمّرتْ له وطفى. إيماءٌ اعتَدَلَ قامُهُ لِيَهْضِبَ تَهيامًا عاصِبَ التَاجِ كأنّهُ قَوْسُ قُزَحٍ استَحْصَدَتْ مرائرُهُ(7) قد ثُنِّيَ حَوْلَ قِباب.

مروانُ مضطرِمُ الضُلوعِ في نَصَبٍ ناصِبٍ، ووطفى استخفَّتْها التباريحُ فما صافحتْ يدَها راحةُ السُلوانِ، فَتُذهَلَ عن حُرْقَتِها وأُوارِها. لا تقُلُّها رِجلاها، ولا يطمئِنُّ جنبُها إلى مَضجَعٍ، تتحامَلُ على نفسِها هلْكى، محلولَةَ العُرى، مُرْتَهَكَةَ المفاصِلِ، فبعدَ غدٍ الأَوْبَةُ إلى الديارِ، فلا تَبُلُّها آنئذٍ من الحبيبِ بالَّةٌ(8) ولا تظفَرُ منه بناطِلٍ غمرُ(9).

وفي غَفْلَةٍ عن السُمّارِ تدسُّ وطفى في جيبِ مروانَ مِنديلاً أحمرَ أودَعَتْهُ كلَّ غُلَّتِها، وسَعَرَ أنفاسِها، ونُزوعَها إلى لُقياه.

***

هو الرَّكبُ في حثيْثِ القُفولِ إلى الـمُنطَلَقاتِ وقد استُؤنيَ بها حَوْلاً(10).

– الحُداءُ البَدويُّ المميَّزُ يَشُقُّ عَنان السماءِ، فيكادُ ينغرِزُ في الحنايا.

– شَقْشَقَةُ جِمالِ القافلةِ – أَعوذُ بالله من نَوازي غضبِها – امتِعاضًا من فُرقَةٍ لا يُطَوى لها وُدّ.

– قُطعانُ الأغنامِ مُراغِمَةً كَتَمَتْ غيظَها وزَوَتْ ما بين أعيُنِها، وأَقَلَّتْها الرِعْدَةُ، فَرَعَفَتْ أُنوفُها على ما أَخلَتْ قَسْرًا من رغيدِ عيشٍ، وصفاءِ مَوْرِدٍ، ونسيمٍ عليل.

– أمّا جَمْعُ “عباقِرةِ المرنِّمينَ” الأكباشِ، فتكادُ تَخرُجُ مِن أُهُبِها(11).

المرياحُ(12) بجلجلةِ أجراسِهِ النُحاسيَّةِ لا يَقِفُ عن حَرَكة. لِخطَرانِهِ أُبَّهَةٌ وَسِعَتْ من رَبيطِ جأشِهِ فوق مِلْئِها، تَضِجُّ لها مُنْعَطَفاتٌ ليس فوق بابِها باب.

الثّنايا(13) لا أقطَعُ بشيءٍ من أمرِها، ولم يدخُلْ في عِلمي أنّها آثَرَتْ بأعزازِهاتُرابًا غيرَ تُرابِنا.

الطُّليانُ(14)، لها مَيْلَةٌ إلى وِهادِنا وحَرَجاتِنا، تَثِبُ في فَلواتِها، فَتَحْسَبُ أنّ أباطِحَ الدُّنيا قد بُدِّلَتْ بعُشبِنا الطريءِ إلى الأبد.

الجِذعانُ(15)أو السِخالُ، الّتي تَحَنَّتْ على قُطعانِنا حُنُوَّ الفاطِمِ على الفطيمِ، أَطرَقَتْ رؤوسَها أسىً، فالرّحيلُ استَوْكَفَ دمعَها واستَذْرَفَ جفونَها، فتساقَطَتِ اللآلئُ من المآقي، وانهَلَّتْ انهلالَ القَطْرِ على الحضيض.

إنّه فُواقُ مَن أفْحَمَهُ البُكاءُ فَسالَتْ عَبْرَتُهُ دمًا صبيبا!

***

وتَزْحَمُ مناكِبُ شُبّانِ القريةِ المناكِبَ على صَهَواتِ جيادِهِم في وَداعِ الأحبَّةِ، فلكلٍّ منهم ليلاهُ تَخفُقُّ الرَّمضاءُ برياحِها. إنصدَعَ الشَّملُ، وسعى الدهرُ بينهم سِعايَتَهُ، ونَبَتْ بهم البلادُ وتقطَّعَتْ أباديد.

أمّا مَروانُ ووطفى اللّذَيْن ستُفرِّقُهما عُدَواءُ الدارِ، وتَقَوَّضَ بهما الحَلْقُ(16) فتروي (فِضَّةُ) فَرَسُ مروانَ ولا تُوَرّي حَدَثًا، أنّ خفَقانَ صَدْرِ فارِسِها، وقد استحفَظَهُ سِرَّهُ، لَتَنْقَبِضُ عن دُخْلَتِهِ الخواطِرُ والكُبُودُ، فلا يُفضي إليه كاشِفٌ، ويُلقي في الآذانِ وَقْرا.

***

… ويا شجرةً غَرَسَها القَدَرُ في بستانِ وَحْدَتي، لقد طوَّفْتُ بِعَدْنِكِ طويلاً، ولا زِلْتُ عند معاقِدِ شعرِكِ الّذي أوْرَقَ ومَدَّ أغصانَهُ في صدري، فكأنّما جَداؤهُ أن أبقى في اللَّاذَةِما أفرغَ الله عليّ صبرًا، أُهَدْهِدُ مِهادَكِ حتّى نَتْرَفَ من النَشْقِ والضَمِّ، ويطلعَ علينا الفجرُ بلُسْنِ البلابلِ ربيعًا لا يكُفُّ عن الصِّياح!

عندي في كِتْماتِالتَّهيامِ أنّكِ في سَمائِي بَدْرًا ذهَبَ سِمْعُهُ في الناسِ لا يَعرُوهُ أفولٌ، ولا يَخفُتُ له ضياء!

***

1): تنتسب

2): أطول ما يكون من شجر النخل

3): عامة

4): وسط

5): مسترخية الهدب ، طويلته

6): جمع أنشاء ، نسيم الرّيح الطيّبة

7): جمع مريرة وهي الحبل استُحكِم فتلُه

8): أي لا يُصيبها منه ندىً وخير

9): جرعة من الماء وغيره

10): غاب عنها عاماً

11): جلودها

12): قيدوم القطيع

13): واحدها الثِنية (النعاج)

14): واحدها الطليّ . كباش المستقبل بعمر السنتين

15): واحدها الجذع أو السخْل م السَخلة ، الذكر والأنثى من وُلْد الضأن والـمَعَزْ . ج. سخل وسِخال وسِخَلة.

16): مفردها حلْقة ، وهي القوم يجتمعون مستديرين.

اترك رد