1- النص:
عجبتُ لأمر هؤلاء الناس. عجبت حتّى خرجتْ عيناي من محاجرهما، فلم يسبق لي أن رأيت مشهداً كهذا: أناس يطيرون في السماء، بأجنحة بيضاء. ملائكة من نور. يرفرفون ببطء ويتحدّثون بعضهم إلى بعض بأصوات خفيفة كهديل اليمام. نظرت حولي، فلم أجد حركة. لا أحد في البيوت المقفلة… ولا في الشوارع.
قلت في نفسي: إذا كان الناس يطيرون جميعاً، فلماذا لا أطير أنا؟ ولماذا أبقى وحدي على الأرض في هذه المدينة، ولا أستطيع أن أرتفع عن الحضيض؟ ناديت الناس الذين يطيرون فوق: يا عالم… يا ملائكة… يا قديسون… ماذا جرى لكم؟ وكيف نبتت لكم أجنحة ولم تنبت لي؟
لم يجبني أحد. كانوا في الفضاء الواسع… ويثرثرون بلغة قدسيّة لم أسمع مثلها في حياتي.
جرّبت أن أطير، فوجدتُني ملتصقاً بالتراب، وتذكرت القول: “أنت من التراب وإلى التراب تعود”… ولكنّ هؤلاء، صحبي وأهلي وأناس كثيرين لا أعرفهم يحلّقون، فكيف يكونون ملائكة بأجنحة ناصعة كالثلج، وليس لي جناحان؟
هرعت إلى منزلي وأخذت كيسين كبيرين من القماش، وبضع أخشاب طويلة، فلففت الأقمشة على الأخشاب، لتصبح أجنحة، ووصلتها بجسدي النحيل، وسرت الهوينا إلى أعلى تلّة، فوقفت عليها وتنفّست الصعداء، ثمّ أغمضت عينيّ، وألقيت بنفسي من فوق التلّة، لكنّ جناحيّ اللذين صنعتهما من خيالي، تحطّما، وسقطتُ في الوادي، فتكسّرت ضلوعي، وبكيت من الألم والخيبة.
نظرتُ إلى السماء الزرقاء، وصرخت مجدّداً: يا أهلي، وبني قومي، هل ينزل أحدكم إلى الأرض وينقذني من سقوطي؟
لم يجيبوا لأنّهم كانوا في عالم غير عالمي. ولم أتمكّن في ذلك اليوم من الصعود إلى التلّة، فبقيت في الوادي أتوجّع، وأضع يدي على جرح عميق في خاصرتي، بينما كان جناحاي مندثرَين وممزّقَين على مسافة قريبة منّي.
وما إن حلّ المساء، حتّى مرّ في الوادي رجل غريب عن المدينة، فرآني على تلك الحال، وأسرع لنجدتي، وكان يسألني عمّا حدث لي، فأخبرته عن غرابة ذلك اليوم، وكيف أنّ المدينة خلت من سكّانها، ولم يبقَ فيها أحد سواي، فالجميع نبتت لهم أجنحة بيضاء، وتحوّلوا إلى ملائكة.
ألقى الرجل نظرة فاحصة إلى السماء، وابتسم، ثمّ قال لي: أنت مندهش فعلاً، وتشعر بخيبة أمل مريرة. لكن تأكّد يا أخي أنّ هؤلاء الناس الذين فوق هم بشر بلا خطيئة، فلا أحد منهم سرق، أو كذب، أو شهد بالزور، أو اشتهى امرأة، أو قتل نفساً، أو عبد إلهاً غير إلهه… أنت وحدك الخاطئ هنا، ولذلك عجزتَ عن اللحاق بهم.
صرختُ من هلعي: كذبتَ أيّها الرجل الغريب، فمِن هؤلاء رجال ونساء أعرفهم، وقد ارتكبوا كلّ معصية، وأكلوا مال اليتامى، ونهبوا المعابد، واغتصبوا… فكيف أكون أنا الحامل خطايا البشر جميعاً؟
ساعدني الرجل الغريب لأصعد من الوادي، ورافقني إلى منزلي وهو لا يقول شيئاً. وبعدما مضى في طريقه، ظللت مدّة طويلة أتحسّر على وحدتي وانفرادي… وكنت أذهب إلى المعبد كلّ صباح، فأصلّي، وأتوب، وأضيء الشموع، علّني أصبح طاهراً ونقيّاً مثل جميع الناس الآخرين… وأصير ملاكاً.
2- إضاءة على النص:
يندرج نص “طائر ليس له جناحان” في إطار الفكر الرمزي، والدويهي يحضر لكتاب فكري رايع سيصدر من ضمن مشرعه المضيء “أفكار اغترابية” للأدب المهجري الراقي. فلا شك في أن الطائر هو جميل نفسه، كما يظهر في النص الذي يمكن قراءته معكوساً، في تركيبة فيزيائية. ولعل العديد من الناس يجدون صعوبة في فهم النص، أو يفهمونه من خلال عرضه المبسّط… وهناك نوعان من البشر في الأقصوصة: رجل على الأرض لا يستطيع أن يطير، وأناس في الفضاء يحلقون كملائكة. ويجهد الدويهي في صنع جناحين له من خشب وأقمشة، مستنداً على قصّة معروفة في التاريخ، بطلها المغامر العربي الأندلسي عباس بن فرناس. ولماذا يصنع الدويهي أجنحة؟ فلأنه يريد اللحاق بالناس الآخرين ولا يحب أن يعيش وحيداً في مدينة فارغة.
والسؤال: هل يمكن أن يكون النص على هذه الصورة فقط؟ أم هناك معنى آخر مبطن ما وراء النص؟
إن كلمة “سخرية” هي المفتاح السحري لفهم الاقصوصة التي كتبها الدويهي تعبيراً عن إحباط. فلا… ليس الناس قادرين على الطيران، لكنهم يتوهمون أنهم ملائكة، وان لهم أرواحاً نقية تعلو بهم فوق البشر، ومَن منهم بلا خطيئة؟ وهل يجوز أن يكون الدويهي وحده من ارتكب الخطايا وحمل جميع الذنوب؟
إنه الشجرة المثمرة التي تُرشق بالحجارة. فكم تعب وسهر وضحى من جهده وماله الخاص ليظهر قيمة حضارية وفكرية؟ وكان أجدى به، وهو الفقير مادياً، أن ينصرف إلى تجارة أو صناعة فيغتني، لكنه ترك كل شيء وتبع الأدب والفكر والثقافة، رغبة منه في إبراز صورة نقية عن حضارتنا، فإذا به يدفع الثمن مرتين، ويجهد أناس ليلاً نهاراً لنفي صفة الإبداع عنه… ويصاب بالاحباط لأن المجتمع الذي يضحي من أجله تركه على الأرض وطار في عليائه متخايلاً. ولو وُضعت الأعمال في الميزان لما كان هناك من تظاهروا بالطيران وادعوا العصمة.
ويسارع كثيرون إلى الإدانة وتحييد الأنظار عن أعمال الدويهي، وقد شاعت أساطير حول إنجازاته التي لا تصدَّق، وأضحى أفكار اغترابية مدرسة للأدب الراقي، لكنه أيضاً تعرض للرجم والتشهير، فالمشروع واجه صعوبات غير متوقعة، وغير طبيعية، في بيئته تحديداً… وقاطعه كثيرون، وانصرف أصدقاء عن الدويهي بغير سبب… وإن سقوطه في الوادي وإصابته بجرح بليغ وكسور، تعبير عن تلك المصاعب كلّها.
والرجل الذي يمر في المكان هو رمز للانسان البسيط الذي يأخذ الأمور كما تظهر، ولذلك يقول للدويهي: “أنت مندهش فعلاً، وتشعر بخيبة أمل مريرة. لكن تأكّد يا أخي أنّ هؤلاء الناس الذين فوق هم بشر بلا خطيئة، فلا أحد منهم سرق، أو كذب، أو شهد بالزور، أو اشتهى امرأة، أو قتل نفساً، أو عبد إلهاً غير إلهه… أنت وحدك الخاطئ هنا، ولذلك عجزتَ عن اللحاق بهم”.
كيف يكون الدويهي الخاطئ الوحيد؟ هناك جواب واحد: لأن هناك أناساً تظاهروا بالقداسة وهو لم يتظاهر بها. ولذلك يكون رده (بهلع): “كذبتَ أيّها الرجل الغريب، فمِن هؤلاء رجال ونساء أعرفهم، وقد ارتكبوا كلّ معصية، وأكلوا مال اليتامى، ونهبوا المعابد، واغتصبوا… فكيف أكون أنا الحامل خطايا البشر جميعاً؟”
وسبقى الدويهي يذهب إلى المعبد ليصلي ويضيء الشموع لعله يصير ملاكاً ويلحق بالآخرين إلى عالم المثّل الأفلاطونيّ… وإنها سخرية القدر التي ما بعدها سخرية… للأسف.